هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا شكّ بأنّ التّرجمةَ هي حجرُ الزّاويةِ لبناءِ الجسرِ الإنسانيّ والثقافيّ والحضاريّ، لكنّ الكتابةَ عن أديبٍ غير عربي في أحايين كثيرة لها محاذيرها، وتضعنا دائمًا بإزاءِ كثيرٍ من التّحدياتِ والمُشكلات، تكمن في الخصوصيّاتِ الثقافيّةِ الّتي تختلف باختلافِ البيئةِ والثقافة، مما يصعب نقلها المُترجم.
لا أرى عمّا إذا كنتُ قد جانبتُ الصّواب في عنوانِ هذا المقال أنْ أجمع بين الشّاعرِ والرّافض، لأخرج بتصوّرٍ أُقرُّ من خلالِهِ بتلازميّةِ العلاقة، مُفضيًا في الوقتِ نفسِهِ إلى مفهومِ شعريّة الرّفض، وهو رفض الأديب شاعرًا كان أو ناثرًا الواقع، والمُطالبة بإعادةِ بنائِهِ على أسسٍ مثاليّة، وهذا ما جعل كثيرًا من الأدباءِ رافضين ومرفوضين من طرفِ المؤسسة الرّسميّة خاصّة المؤيدين للسّلطة القامعة، ورغبتها الكامنة في وضع معارضيها بحالة من الإذلال والانسحاق الدّائم كي يدرك الآخرون مدى قوتها وفاعليتها القمعية.
تمامًا كما هو حاصلٌ عند الشّاعرِ التّركي ناظم حكمت في مواجهة السلطة وفضح أحابيلها، وبصرف النّظر عن خلفيته الأيديولوجية والفكرية، لا نغالي إذا ما تجرّأنا وقلنا إن ناظم يعدّ واحدًا من المناهضين والرّافضين المنشغلين بهموم قضايا وطنه، وشعره يضجّ بالرفض، وشبيه بهذه الرّؤية ما نجدهُ في عِرار شاعر الأردن بلا منازع، شاعر رومانسي، ثوري، وصاحب مشروع مثالي، لهذا جاءت رؤية ناظم الشّعريّة من خلالِ ما تُرجم لنا حادّة ومُعبّرة عن نقدٍ ورفض ودعوة صارخة إلى ضرورةِ التّغيير، وتعرية الواقع وتحريض الجماهير على الثورةِ والتّحرر.
ناظم حكمت معارضٌ سياسيّ بارز، ويُعدّ من الممثلين للأدبِ الثّوريّ التّركيّ، مثقفٌ وشاعرٌ رومانسي النّزعةِ وشيوعيّ التّوجّه، وكان صاحب عقيدة ثوريّة، وهذه الأخيرة أضفتْ على شعره ثوبًا جديدًا ذا طابع تحريضي، ذلك من خلال تأجيجِ المشاعر الثّوريّة، تعرّض ناظم للملاحقةِ، والسّجن في تركيا، ومن ثمّ عاش بعدها في روسيا وعلى وجه الخصوص الاتّحاد السّوفييتي، ليتخذه وطنًا بديلا، الأمر الّذي دفع الحكومة التّركيّة آنذاك تجريده من جنسيّته.
وعلى الرّغمِ من هذا الانسلاخ المكانيّ إلاّ أنّ ناظم وفّق إلى حدّ ما بين الإخلاصِ لوطنه تركيا وبين الإخلاص لاشتراكيّته، حمل تركيا في صوتهِ وقلبهِ ودمهِ، وهنا أستشهد بأهمِّ صورِ الحنين إلى الوطنِ وقساوة الغربة، إذ يقول في إحدى قصائده:
"أفكّرُ بكِ
يا استانبولي
وأنتِ جالسة على شاطئ البحر
مريضة
جائعة
غاضبة
تنظرينَ بعينيكِ السّماويتينِ كعيونِ أخوتي".
وبهذا المنظور احتلّ حبّ الوطن مساحة شاسعة من وجدانِ حكمت، وحبّه كما يتراءى لنا لم يكن ينمّ عن أنانيّةٍ وحبّ في التّملكِ، بقدر ما كان شعورًا بالانتماءِ والإخلاص لهذا الانتماء:
أفكّرُ بكِ أيتها الحقول المنتشرة في البراري
أفكّرُ بكِ أيتها الدروب الطّويلة المتطاولة
التي لم تعدّ ممرًا للقوافل
أفكّر بك يا وطني
يا تركيا
يا وطني بك أفكر.
إنّ الأمثلة على هذا الحبّ والحنين الممزوج بالحزنِ كثيرة، وكلّها بهذا النّهج والوضوح والعفوية، وقد اتّحد حبّ حكمت للوطن مع حبّه للرّفاق اتّحادًا قدريًا، كاتّحاد الرّوح والجسد، إذ لا معنى لأحدهما دون الآخر، لهذا لم ينس الأناضول أحد جراحه النّازفة، ليصل الحنين بالشّاعرِ إلى حدّ الذروة، يقول في قصيدتهِ الموسومة بـ "الوصية":
"يا رفاقي، إذا لم يكن من نصيبي رؤية ذلك اليوم،
فاحملوني إلى الأناضول".
ولد ناظم حكمت 1902، كان خلوقًا وطالبًا ذكيًا ومجتهدًا، وتوفّي 1963، عارض الإقطاعيّة التّركيّة، وشارك في حركةِ أتاتورك التّجديديّة، لكن ما لبث بعدها أن تحوّل معارضًا للنّظام الّذي أنشأه أتاتورك، وكانت أشعارهُ ممنوعة في تركيا، مما جعلهُ أن يتخذ لنفسه أسماء مستعارة كان يُوقّع بها قصائده، هي أورخان سليم وأحمد أوغوز وممتاز عثمان، وبسبب أشعاره وكتاباته استمرّ حضور السّجن والمعتقل كقدرٍ لا يستطيع ناظم الفكاك منه، من اسطنبول وأنقرة وتشانقر، وحكم عليه بالسّجنِ قرابة خمس عشرة سنة.
لم يمنعهُ السّجن كغيره من أدباءِ الرّفض والمقاومة من إنجازِ مشروعه الثّوري كشاعرٍ ورافض، لذا تحمّل عذابات السّجان، في سبيل أن يوقظ النّيام، ويبعث فيهم روح التّحرر والتّمرد، لهذا لم يمنعه السّوط من ممارسة نضاله ودوره الثّوري، وفي أواخر مكوثه أعلن إضرابه عن الطّعامِ كتعبيرٍ عن الرّفض، لتشكّل قسوة السّجن بما فيها من كبتٍ نفسي وحرمان قهري وتعذيب جسدي أرضيّة وتربة خصبة لتفجير الطّاقات الإبداعيّة كرد فعل طبيعي ومنطقي على ممارساتِ السّلطة القامعة والغاشمة، واستطاع من خلالهِ أن يبني جسر تواصلٍ مع السّجناءِ بصرفِ النّظر عن جناياتهم وجرائمهم، ليصغي إلى الجميع، من اللصوصِ والقتلة والمهرّبين والعمال والفلاحين والخارجين والمهمشين والمثقفين والمظلومين، وكان يقول لهم:
"إنني أحسّ بأوجاعكم، مثلما تحسّون بها تمامًا، وإذا بقيتُ سالمًا، سأكتبُ على الجدران وفوق الأرصفة، في السّاحات العامّة أشعار، وسأعزفُ على الكمان في ليالي العيد، لمن يبقون من المعركة الأخيرة، وكذلك سأعزفُ على الأرصفةِ المغمورة بضياء ليلةٍ رائعة".
ناظم حكمت كما يتراءى من خلال ترجمة أشعاره يضعك مرغمًا أمام فلسفة من نوعٍ خاص، فلسفة تنشد إلى الخلاص، إذ إنّ الرّفض والتّحريض يكادان يكونان مطلبًا ضروريًا،
لقد تبنّى ناظم حكمت فلسفة منحازة للقضايا الإنسانيّة ولشريحة كبيرة من المسحوقين والمعذبين، يكتب عن الأوجاع الجماعيّة، بصرف النّظر عن التّوجهات الفكريّة والأيديولوجيّة، بحيث تذوب عنده الذّات في الموضوع، داعيًا إلى اتّحاد الأيدي والتّكاتف جنبًا إلى جنب.
عام 1951م خرج من السّجن هربًا إلى الاتّحاد السّوفييتي، نزولا عند رغبة رفاقه، ظانًا منهم أنّه سيتحرر من مختلف صنوفِ القمع المُتسلطة عليه ماديًا ومعنويًا، وظلّ مشدودًا بهاجس الحرّية ومسكونًا بالإنسان الشّاعر والرّافض، شوقًا لمعانقة الحياة وطامحًا لواقع أفضل:
"سيبرد الكون
نجمة بين النجوم
ذرّة من الفضّةِ على مخملٍ أزرق
كوننا الشّاسع
لا كتلة من الجليد
ولا سحابة ميّتة".
ناظم حكمت كما يتراءى من خلال ترجمة أشعاره يضعك مرغمًا أمام فلسفة من نوعٍ خاص، فلسفة تنشد إلى الخلاص، إذ إنّ الرّفض والتّحريض يكادان يكونان مطلبًا ضروريًا، وعلى الرّغم من المسحةِ الرّومانسيّة التي تغلب على شعره، فإننا نراهُ يواجه الواقع الشّديد المرارة بجرأةٍ وإصرار على المواجهةِ والتّصدي الذي يأخذ الطّابع الثوري، رغبة في كشف وتعرية أعداء الوطن:
"إنهم أعداء الأمل يا عزيزي
أعداء النّسغ الجاري
في جذور الأشجار
في موسم الأثمار
باعثًا فيها الحياة".
إنّ الخطاب الشّعري لناظم هو الخطاب التّحريضي، ولا غرابة في ذلك، فنحن أمام سيرة نضاليّة تنسجم مع السّيرة الشّعريّة، لهذا هدف ناظم الإثارة والتّحريض وتضخيم الإحساس بالفاجعة، فالذّات المحرّضة في شعرِ ناظم ذات بعد قلق، مزيج متخمّر من ذوات الماركسيين:
"لتخرج أغانينا
إلى الشّوارع والضّواحي
ولنقف أمام بيوتنا
ونقرع إلى درجة الإيلام
على الأبواب
حتّى تفتح مصاريعها المُغلقة".
نفهم من هذا النّص المترجم أنّ احتجاجًا صارخًا لدى ناظم على ما يجري في الواقع، ليحمل بين جوانحه إرادة الثّائر الرّافض الّذي لا يكتفي بالثرثرة الزّائدة، وإنّما يدعو علانية للتغييرِ الجذري والفوري، إذ يقول: "بأجسامنا نقتحم الظلام/ نشقّه شقًا/ كسفنٍ تمخر العباب".
ناظم حكمت يصرخ بكلمات الرّفض، ويهجس بالشّعرِ كممارسةٍ ثوريّة، ويدأب في أشعاره على الرّفض، وبالرّغم من الحزن الّذي يعبق في ثنايا كلماته إلاّ أنّه في الوقتِ نفسه يزرع الأمل لكن بلغة الغضب المشحونة بالثورة والرّفض، ويحث على الإرادة والعزيمة، لهذا فهو شاعرٌ رافض ومتمرّد وثائر، مثقل بهموم الوطن بأحزانه وأوجاعه، ورافض للتشرذم والانقسام، لذلك يعلن رفضه المؤدي إلى الثّورة على أعداء الوطن، ليتجاوز معادلات الواقع إلى نزوعه الطوباوي بوطن فاضل ومثالي، لا سيّد ولا مسود:
"أما وطني، فلا بد أن يغدو جميلا
كحديقة خلان
لا مسود فيها ولا سيد
الوطن بيت الناس جميعا
وأعداء الفكر
أعداء الوطن يا عزيزي".
وبعد، فقد كانت هذه الوقفة القصيرة مع شعريّة الرّفض عند الشّاعرِ التّركي ناظم حكمت، وهي وقفة لا تدعي طبعًا الإحاطة بالشّاعر نفسه كذلك لا تدّعي الإحاطة بتفاصيل الرّفض، فمعذرة للقارئ العزيز في الآن نفسه.
*باحث حاصل على الدّكتوراه في الأدب والنقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
(1)انظر، ناظم حكمت ثائرًا: حنّا مينة، منشورات دار الآداب، بيروت، 1980.
(2) انظر، ناظم حكمت: حنّا مينة، السّجن، المرأة، الحياة، دار الآداب، بيروت، 1978.
(3) عشيات وادي اليابس ـ ديوان شاعر الأردن، مطابع المؤسسة الصحفية الأردنية، 1973، عمّان.