هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
على الرغم من فشل الإسلاميين في تونس في تمرير قانون لتأسيس صندوق للزكاة، كانوا يعتقدون بأنه آلية من آليات مواجهة حاجات الفقر والبطالة، وربما أيضا واحدة من أدوات مكافحة التوزيع غير العادل للثروة والتنمية في آن واحد، مع ذلك يصر أنصار الزكاة على أنها يمكن أن تلعب دورا مهما في إحداث التوازن المطلوب بين الطبقات الاجتماعية، وتحقق توازنا اقتصاديا مطلوبا بين مختلف الفئات الاجتماعية في الدول العربية والإسلامية.
وضمن ملف متكامل تفتحه "عربي21" عن الأطروحات الفكرية والسياسية لأهم النخب والتيارات السياسية في العالم العربي حول مقومات الدولة بمختلف مؤسساتها، نطرح سؤال الزكاة ضمن رؤية أشمل تروم البحث في الأسس النظرية والتطبيقات العملية لأهم الرؤى الاقتصادية، التي تطرحها القوى السياسية الرئيسية في عالمنا العربي.
ولأن التيارات الاشتراكية والرأسمالية والليبرالية نالت حظها من البحث النظري والتجريب العملي، فإن ما لا يزال غامضا حتى الآن، هو أطروحات جماعات الإسلام السياسي الاقتصادية، فهل يمكن الحديث عن رؤية اقتصادية متكاملة تقدم حلولا للقضايا الاقتصادية التي يعيشها عالمنا المعاصر؟
وقد بدأنا الملف بمناقشة ملف الزكاة من زاوية محاولة بعض الجماعات الإسلامية تقديمها باعتبارها واحدة من الآليات الاقتصادية القادرة على مواجهة حاجيات الفقر والبطالة وانخرام التوازن الطبقي بين فئات المجتمع، على أن نوسع الدائرة لبحث النظريات الاقتصادية التي يقترحها الإسلاميون حلولا لقضايا العالم المعاصر.
وبعد وجهة نظر تونسية، أعدها خصيصا لـ "عربي21" الإعلامي والصحفي الحسين بن عمر بمشاركة نخبة من الاقتصاديين والأساتذة الجامعيين، يناقش اليوم الكاتب والإعلامي المغربي بلال التليدي في تقرير خاص لـ "عربي21"، مع عدد من المختصين والخبراء المغاربة ملف الزكاة ومدى قدرته على الإسهام في التنمية الاقتصادية.
توجه دولة
قد يكون ملف صندوق الزكاة في المغرب من أكثر الملفات إثارة للتساؤل وعلامات الاستفهام، ذلك أن الموضوع لا يتعلق بمطلب شعبي أو مطلب نخبة من النخب موضوع في طاولة صناع القرار للتداول فيه وإبداء الرأي بخصوص إقراره أو عدم إقراره، وإنما هو توجه دولة تم التعبير عنه في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وتم برمجته في الميزانية العامة، منذ بداية الثمانينيات، لكن دون أن يتم تفعيله، مع أن الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله هو الذي دعا إلى استحداث هذا الصندوق، وأمر باستصدار قانون منظم له.
على مدى أربعين سنة تقريبا، لم ير هذا الصندوق النور، مع أن عددا من الدول لاسيما منها دول الخليج، سبقت إلى تبنيه، واستصدرت قوانين مختلفة في تنظيمه، وصارت لها تجارب رائدة في هذا السياق، وكان للمغرب شرف المشاركة في العديد من الندوات التي تقف على مسار هذه التجارب وفائدتها الاقتصادية والاجتماعية.
أين المشكلة؟ هل يتعلق الأمر بمجرد لحظة تفكير ظهر فيها أهمية صندوق الزكاة لإنقاذ مالية الدولة التي كادت تنزف أيام التقويم الهيكلي الذي ابتلي به المغرب؟ أم يتعلق بعدم وضوح الرؤية لدى الدولة؟ أم أن القضية بها من الحساسيات المؤسساتية والدستورية التي تستدعي بناء انسجام بين الشرعية الدينية والشرعية القانونية، أم أن القضية مرتبطة بتقييم استشرافي لدرجة الاستجابة الاجتماعية لهذا القانون وأثر ذلك على الموارد الضريبية؟ أم الأمر يرجع إلى إكراهات تتعلق بعلاقة المغرب بمحيطه الدولي والإقليمي؟
صندوق الزكاة.. في بداية المسار
خلافا لكثير من التجارب التي بدأ فيها مطلب الزكاة من قبل نخب أكاديمية وحركية ودينية رسمية أو شعبية، فإن المغرب، كانت له مع صندوق الزكاة تجربة خاصة.
من المؤكد أن رابطة علماء المغرب في بياناتها التي كانت تصدر عقب كل مؤتمر، كانت تلح على ضرورة تطبيق الزكاة وإحداث صندوق خاص له، لكن الزخم الإسلامي لم يرفع هذا المطلب لدرجة التأثير على صناع القرار السياسي، فالقرار تم اتخاذه من قبل الملك الحسن الثاني.
الدكتور عبد السلام بلاجي، في حديث خاص بموقع "عربي21"، أرجع مسار صندوق الزكاة في المغرب إلى نهاية السبعينيات، وتحديدا سنة 1979، حينما كان هناك خصاص في الموارد المالية للدولة، إذ فكر الملك الراحل حسن الثاني في إدخال مورد الزكاة إلى موارد الدولة، وأعلن عن مباراة حول أحسن الطرق والسبل للاستفادة من الزكاة، وفاز بها العلامة عبد الكريم التواتي الذي ألف كتابا حول الزكاة والنظام الضريبي في الإسلام، اقترح فيه إدخال الزكاة في ميزانية الدولة على أساس أن تحترم الأحكام الشرعية في مواردها ومصارفها. وهكذا، يضيف بلاجي، تبعا لهذا القرار، اقترح في القانون المالي إدخال الزكاة لحساب خصوصي ضمن الميزانية العامة، وقدر له مبلغ 50 مليون درهم.
وعن سبب عدم تفعيل هذا الحساب الخصوصي، يعلل بلاجي الأمر بالمناقشات التي أثيرت بخصوص الأحكام الشرعية الواجب الانضباط لها وقضية الرقابة الشرعية، وما إذا كانت للمغرب الجاهزية لإعمال هذه الاعتبارات الشرعية، فتم التأجيل لأخذ الوقت الكافي لإنضاج التصور، واقترح بدل هذا الصندوق، ضريبة للتضامن الوطني، في حين بقيت الزكاة كبند في الحسابات الخصوصية، ولا يزال هذا الوضع، يؤكد بلاجي، إلى اليوم ، إذ يوجد في قانون المالية لكل سنة، بند يتعلق بالصندوق الخاص بالزكاة، تكتب أمامه عبارة مشهورة هي: "للتذكير" ومعناها الحساب قائم، لكن مداخله لم تتحدد طرق وكيفيات تحصيلها وصرفها بعد..
أما الدكتور عبد الرحمان لحلو، الخبير الاقتصادي الشهير، في حديث خاص لـ "عربي21"، فلم يختلف كثيرا مع ما طرحه الدكتور عبد السلام بلاجي، سوى أنه أضاف شيئا مهما، يتعلق بدراسة هذا الموضوع داخل المجلس الوزاري سنة 1982، وإحالته على الحكومة نفس السنة، واعتماده في قانون المالية كحساب خصوصي، مع تأجيل استصدار قانون منظم لإعادة التدقيق في الموضوع. وفي تفسيره لهذا التردد، يرى عبد الرحمان لحلو أن العملية قد يكون شابها بعض الترددات لدى جهة معينة داخل جهاز الدولة، لا يعلم عنها كثيرا.
أما الأستاذ محمد بلبشير الحسني، فيعود في حديث خاص لـ "عربي21"، بالموضوع إلى بعض التفاصيل المهمة، إذ كون إلى جانب ثلة من الأكاديميين جمعية خاصة بشؤون الزكاة، اشتغلت على بلورة اقتراحات عملية لتنزيل صندوق الزكاة، وإزالة الالتباسات التي طرحت وقتها بخصوص علاقة الزكاة بالضريبة، وعلاقة صندوق الزكاة ببعض المؤسسات القائمة.
ضمن هذا المسار، يحكي الأستاذ محمد بلبشير الحسني أن الجمعية قامت أولا بمحاولة دراسة تمثلات المجتمع المغربي حول الزكاة، وبشكل خاص معارفه حولها واستعداداته لنجاح هذا الورش، وتمثلاته للعلاقة بين الزكاة والضريبة، وما إذا كان إقرار الزكاة سيؤول إلى التأثير على موارد الدولة وتشجيع التملص أو الغش الضريبي.
وتبعا لنتائج الاستبيانات والدراسات التي قامت بها الجمعية، ظهرت الحاجة لإصدار مجلة "شؤون الزكاة" التي خصصت أزيد من سبع أعداد لتكثيف المهمة التوعوية والمعرفية بخصوص الزكاة، وطرق حسابها، والعلاقة بين الزكاة والضريبة، فضلا عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية للزكاة، وتم في هذا السياق استثمار التجارب التي تم التعرف عليها في سياق مشاركة الجمعية في عدد من المؤتمرات التي كانت تعرض بها تجارب تفعيل صناديق الزكاة.
وفي شرحه لتطور أداء الجمعية في علاقتها بموضوع تسريع تفعيل صندوق الزكاة، كشف بلبشير الحسني، عن جملة لقاءات قامت بها الجمعية مع المسؤولين سواء في المالية أو في رئاسة الحكومة، وذكر في هذا السياق اللقاء الذي جمع الجمعية بوزير المالية السيد محمد برادة سنة 1994، والتقرير الذي سلم إليه بخصوص رؤية الجمعية لتفعيل صندوق الزكاة، وجوابها عن الإشكالات التي يثيرها هذا الموضوع، لاسيما ما يتعلق بالضريبة أو بالتأثير على مواد الميزانية، أو بأوجه صرف صندوق الزكاة، وما إذا كان سيدخل ضمن الميزانية العامة أم خارجها، وأن الوزير وعد بالنظر في الموضوع، لكن خروجه من الوزارة أنهى الموضوع حسب محمد بلبشير الحسني.
وذكر بلبشير الحسني في هذا السياق مراسلة الجمعية لرئيس الحكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي والسيد عباس الفاسي من بعده وعدم تجاوبهما، ثم لقاؤها برئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، واستماعه وتشجيعه له لكن، دون نتائج تذكر على حد قول الأستاذ بلبشير الحسني.
في تفسير أسباب عدم تفعيل صندوق الزكاة
مع تأخر تفعيل صندوق الزكاة والذي طال لمدة أربعين سنة، لم تتوحد وجهات نظر المتخصصين حول أسباب ذلك، فالدكتور عبد السلام بلاجي، يرى أن الأمر لا يتعلق بأي إعاقة لجهة ما داخل جهاز الدولة، وإلا لما تم تكليف لجنة مشتركة من قبل وزارة الأوقاف ووزارة المالية، وإصدارهما لدليل مشترك يعالج كل المسائل المتعلقة بمداخيل الزكاة ومصاريفها، ويستدل بلاجي لدعم وجهة نظره بإعداد ظهير شريف لإخراج الزكاة إلى حيز الوجود، واستشارة مصالح الأمانة العام للحكومة له ـ باعتباره كان موظفا بإدارة البرلمان ـ في بعض بنود ومواد هذا الصندوق الذي كان يسند جباية الزكاة وصرفها إلى الجماعات المحلية، إذ وافق الملك الحسن الثاني على هذا المشروع، يضيف بلاجي، ولم ينقصه إلا التوقيع فوافته المنية قبل ذلك.
ويعزو بلاجي أسباب تأخر تفعيل صندوق الزكاة إلى جملة أسباب فرضها سياق كل مرحلة على حدة. ففي البدء كانت هناك الرغبة في التأني، وطلب بعض الوقت حتى تتوفر شروط الانضباط لأحكام الشريعة وتأطير المراقبة الشرعية لهذا الصندوق، ثم أثيرت القضية التقنية بإحالاتها الشرعية والسياسية، وتتعلق بالصيغة التي تدمج فيها الزكاة في مالية الدولة ومدى أثر ذلك على مواردها، فضلا عن طريق تحصيلها وتوزيعها والحساسية التي يمكن أن تثيرها، ثم تأخر التفاعيل مرة أخرى سنة 2004 بسبب ظهور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وعدم نضج تصور للعلاقة بين الصندوق وبين هذه المؤسسة الوليدة.
أما الدكتور عبد الرحمان لحلو فله وجهة نظر أخرى، فالدولة المغربية ـ في تقييمه ـ كان لها دائما عقدة ربط الشأن الاقتصادي بالشأن الديني الذي هو مجال سيادي حصري خاص بالملك. وأن ذلك يظهر حتى على مستوى الدروس الحسنية التي نادرا ما كانت تلامس القضايا الاقتصادية. وما يؤكد ذلك، يضيف عبد الرحمان لحلو، أن البنوك الإسلامية انتشرت في العالم كله، وتأخرت كثيرا في المغرب، ويعتبر لحلو أن الانفتاح على المالية التشاركية من قبل الدولة وإصدار ظهير 2015، يمثل ثورة إيديولوجية، وأنها تؤشر على بداية انفكاك هذه العقدة، وأن قانون الزكاة يمكن أن يأتي عقب التأمين التكافلي الذي تجري آخر حلقات إخراجه إلى حيز الوجود هذه الأيام.
ويرى لحلو أن التردد والتخوف من خوض هذه التجربة لم يعد له مبرر أمام نجاح عدد من التجارب الزكوية في العالم العربي والإسلامي، لاسيما في الكويت والإمارات والسعودية، وظهور صيغ كثيرة متعددة وثرية، لطرق تحصيل الزكاة وأوجه صرفها وكيفيات إنشاء الصندوق، وعلاقته بموارد الدولة، بين صيغة الصناديق المستقلة وصيغة الصناديق المدمجة في ميزانية الدولة،هذا فضلا عن كيفيات المراقبة الشرعية في هذه التجارب، والآثار الإيجابية التي كانت لهذه الصناديق سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية.
ويعزو هشام بلامين، الخبير في مجال المالية التشركية، أسباب تأخر صندوق الزكاة، في حديث خاص لـ "عربي21"، إلى غياب الإرادة السياسية لتفعيله، لاسيما وأن اهتمام الدولة بآليات الاقتصاد الإسلامي بدأ حديثا خاصة مع تعديل القانون البنكي الذي سمح للأبناك التشاركية بالاستغال في احترام لقواعد الشريعة السمحاء في المعاملات المالية.
أما الدكتور عمر الكتاني، الخبير الاقتصادي وأستاذ العلوم الاقتصادية بجامعة محمد الخامس بالرباط، فله تفسير مختلف، فهو يرى أن الأمر يرجع لثلاثة أسباب، أولها هو الجدل الذي أثير حول علاقة الزكاة بالضريبة، ومخرج استقلالية الصندوق الذي اقترح لمعالجة هذا الإشكال وتردد الدولة في ذلك، أما الثاني فيتعلق بالتخوفات التي أثيرت بخصوص إلزامية الزكاة، وتردد الدولة في التعاطي مع مقترح الطوعية، وأما السبب الثالث، فيتعلق ـ حسب الدكتور عمر الكتاني ـ بالخوف من أن تكون الصيغة المقترحة غير ضامنة لثقة المجتمع، إذ كانت الدولة تتصور بأن بإمكانها خلق صندوق الزكاة والتصرف به بأريحية، لكن الإشكالات التي أثارها والأجوبة التي قدمت لضمان فعاليتها، كانت غير متطابقة مع ما كانت تصبو الدولة إليه من هذا الصندوق.
صندوق الزكاة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية: تعارض أم تكامل؟
على أن هناك تفسيرات أخرى تم الدفع بها في لحظة صعود الملك محمد السادس للحكم، وودعوته إلى اعتماد مبادرة وطنية للتنمية البشرية تولت برمجة عدد من المشاريع الاجتماعية المدرة للدخل، إذ تذهب بعض الآراء إلى أن هذه المبادرة أقبرت مشروع صندوق الزكاة، جلت محله وأن هناك تخوفا من أن يكون إحياء هذا الصندوق وتفعيله مؤثرا على مخرجات المبادرة.
لا يرى الدكتور عبد السلام بلاجي أي تعارض بين صندوق الزكاة والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أحدثها الملك سنة 2004 لتأطير عدد من المشاريع الاجتماعية، ويرى بدلا من ذلك أن صندوق الزكاة يمكن أن يكون من إحدى أهم الآليات لتمويل بعض برامج التنمية البشرية، شريطة تأطير هذه العملية بالضوابط الشرعية ومستلزمات الرقابة الشرعية، وهو الرأي نفسه، الذي سبق للأستاذ محمد بلبشر بالحسني أن تبناه، ودافع عنه، مستدلا بدراسة قام بها أحد الخبراء في الأمم المتحدة ممن كان يشتغل إلى جانب أكاديميي جمعية شؤون الزكاة، والتي استندت إلى تجارب في بعض دول إفريقيا لدعم الزكاة لمشاريع القروض الصغرى والمتوسطة، والتي نجحت في توفير الفرص المدرة للدخل ل لعدد كبير من الساكنة في هذه المناطق، إذ رأى محمد بلبشير الحسني أن صندوق الزكاة يمكن أن يكون، إلى جانب ميزانية الدولة العامة، من أكبر الداعمين لبعض البرامج الاجتماعية الفعالة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، خاصة وأن من بين أهدافها تشجيع البرامج المدرة للدخل.
أما الأستاذ هشام بلامين، مدير الاستشاري والمتخصص في المالية التشاركية، فيرى في حديث خاص بعربي 21، أن هناك تشابها بين المؤسستين في الأهداف والمخرجات المرجوة، وأنه ليس هناك أي تعارض بينهما، فالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية يتم تمويلها من الحكومة، وصندوق الزكاة يتم تحصيل موارده من الأفراد والشركات بمصارف محددة شرعيا، بل التكامل والانسجام هو ما يطبع العلاقة بين المؤسستين حسب بلامين، نظرا للتشابه بينهما في الفئة المستهدفة، وأن ما يبرر الاختلاف بينهما فقط هو الحكامة المتبعة والنتائج بالتبع، فما يزيد على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي الحكامة الشرعية أو الرقابة الشرعية، باعتبار أن أموال الزكاة منصوص على تحصيلها وصرفها بنصوص شرعية محددة.
ويتبني الدكتور عمر الكتاني وجهة نظر أخرى، فالمشاريع الاجتماعية التي تعتمدها الدولة كثيرة، والمفترض أن تتنوع هذه المشاريع، وأن يسود بينها نوع من التكامل والتنافس في الوقت ذاته، فصندوق الزكاة، يمكن أن يمول بعض مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ويمكن أن يستقل أيضا بمشاريعه، وأن احتكار أي مؤسسة من مؤسسات الدولة المعنية بالمشاريع الاجتماعية للعمل الاجتماعي هو مضر لهذا العمل، ولا يتيح فرصا لتنافسها وتكاملها.
فالمفروض، حسب الدكتور الكتاني، أن يوجد الهدف أولا، قبل أن يتم التفكير في الوسائل والصناديق، فالدولة يلزمها إنتاج رؤية للمشاريع الاجتماعية أولا، ثم بعد ذلك يتم التفكير في الوسائل والصناديق التي يمكن أن تمول هذه المشاريع على أساس أن يقع التنافس بينها، فأكبر مشكل اليوم، حسب الكتاني، ليس هو المشاريع الاجتماعية، فالدولة تعتبر المستثمر الأول في هذه المشاريع، وإنما المشكلة في كلفتها، فالكلفة التي تقام بها بعض المشاريع، تزيد بكثير من كلفة قميتها في السوق بنحو 20 إلى 30 في المائة، ولذلك، فالمطلوب، حسب الكتاني، أن لا تبقى هذه الصفة الاحتكارية للمشاريع الاجتماعية، وأن يقع التنافس على مستوى الاستثمار والكلفة والعائد والاثار بين مختلف هذه المشاريع والجهات التي تستثمر فيها.
أي صيغة لتفعيل صندوق الزكاة من غير حساسية
يرى الأستاذ محمد بلبشير أن هناك دراسات وتقارير وأوراق أنجزت وتم بعثها لبعض المسؤولين لاسيما في القطاعات المعنية، تحاول أن ترفع الالتباس في العلاقة بين الزكاة والضريبة، كما أن هناك صيغا مفكرا فيها للعلاقة بين صندوق الزكاة وبين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وأن التخوف من حدوث ارتباك أو تناقض بين الزكاة وبين الإطار القانوني والمؤسساتي للدولة لم يعد له ما يبرره، وأن تأخر المغرب في تفعيل صندوق الزكاة جعله يقف على تجارب كثيرة ومتنوعة لتطبيق الأنظمة الزكوية، ويمكن له أن يستثمرها ويكيفها بحسب خصوصية الإطار القانوني والمؤسساتي للدولة، كما أشار بلبشير إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا الصندوق في تمويل المشاريع الاجتماعية للدولة، ويستشهد بهذا الخصوص برقم تقديري قديم لمبالغ الزكاة التي تم توقع تحصيلها سنة 1994 والتي تصل إلى حدود 500 مليار سنتيم.
أما الدكتور عبد السلام بلاجي، فيذهب إلى أن صندوق الزكاة يمكن أن يكون أكبر داعم لميزانية الدولة، وأنه من الآليات المهمة لتمويل برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لاسيما بعض البرامج المدرة للدخل، وأن ذلك لا يتطلب أكثر من تأطير ورقابة شرعية لعمليات تحصيل الزكوات وطرق صرفها.
ويقترح بلاجي بهذا الخصوص إسناد الصندوق إلى مؤسسة مستقلة ماليا وإداريا، وأن يكون تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حتى لا يقع أي التباس أو تعارض مع مؤسسات الشأن الديني التي تعتبر اختصاصا حصريا للملك باعتباره أميرا للمؤمنين، مبديا بهذا الخصوص اعتراضه على فكرة إسناد الزكاة، جباية وصرفا، إلى المجالس البلدية والجماعية، لأنها في اعتباره مؤسسات منتخبة، ويمكن لربط الزكاة بها أن يكون له تداعيات سياسية سلبية.
أما الدكتور عبد الرحمان لحلو، فيستعرض تجارب أنظمة الزكاة خاصة في بعض دول الخليج، بين الصيغة المستقلة والصيغة المدمجة في ميزانية الدولة، ويرى أن أفضل صيغة يمكن أن تعتمد في المغرب، أن تسند إلى وكالة مستقلة تابعة لرئيس الدولة حيث يكون تدبيرها غير حكومي، ومراقب من قبل لجان المحاسبة المالية والتدقيق المحاسباتي، مع لجان رقابة شرعية لتضبط عمليات إخراج أموال الزكاة وصرفها في مجالها، إذ يمكن توجيه مصارفها بنسبة معينة، النصف أو الربع، لدعم ميزانية الخدمات الاجتماعية، وأن يتم تجنب الصيغة الإلزامية في الزكاة لأن نتائجها غير مضمونة وأن تتبنى الصيغة الطوعية.
ويقترح الدكتور محمد بلبشير أن يتم إسناد صندوق الزكاة إلى مؤسسة مدنية مستقلة برقابة حكومية وحكامة شرعية مواكبة، سواء لطرق التحصيل أو صرف الموارد، وإن إسنادها لجهة حكومية سيثير تخوفات عدة من جهة حكامتها لاسيما مع تنامي عدم الثقة لدى شرائح عديدة.
ويلح الدكتور عمر الكتاني على استقلالية الهيئة التي يوكل إليها أمر جمع الزكاة وصرفها، إذ يقترح إشرافا مدنيا على صندوق الزكاة، مستقل عن ميزانية الدولة ومواردها، يتم مراقبته محسابياتيا وشرعيا، ويمكن أن تسند الرقابة الشرعية للجنة من العلماء تحت إشراف المجلس العلمي الأعلى.
ويرى الدكتور هشام بلامين أن هناك نماذج وتطبيقات دولية ناجحة يمكن استلهامها كالنموذج الكويتي وذلك لبناء نموذج وطني يحقق التوافق الشرغي بالخصوص في المصارف الزكوية ومقاصد الشريعة إذ ي يتطلب الأمر صرف هذه الموارد المحصلة في صندوق الزكاة في بناء الإنسان عبر التعليم والصحة والمشاريع المدرة للدخل المنتجة بدورها يوما للزكاة، كما يتطلب الأمر، حسب بلامين، تجنب الدعم المباشر المفضي لخلق حالة من الريع والاتكالية لدى المستهدفين بالزكاة.