هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثار تصدُّر الأستاذ الجامعي قيس سعيد ترتيب المتسابقين نحو قصر قرطاج جدلا كبيرا في تونس وخارجها، فهناك من يعدُّه مرشحا إسلاميا سلفيا قد يشكل خطرا على القيم العلمانية والمكاسب التي حققها العلمانيون في مجال الحريات، ولذلك لم يخف العلمانيون تذمرهم وحزنهم وخوفهم من قيس سعيد والواقع غير السعيد الذي سيرتسم في حالة ترسيمه رئيسا للجمهورية، وهناك من يعدُّه ثائرا قوميا يعبر عن آمال كثير من الطبقات الشعبية التي عانت من الأنظمة الشمولية التي تحرسها الشرعية الثورية.
ولذلك لم يخف قطاع من الشعب أو على الأقل الذين صوتوا له ابتهاجهم بهذا
الفوز الذي سيعيد تشكيل الحياة السياسية بمعايير أكثر ديمقراطية تمكن الشعب من
استعادة مكانته في معادلة الديمقراطية كما وضعها اليونانيون أول مرة والتي تعني "حكم
الشعب"، وهناك من يعدُّ فوز قيس سعيد ضربة حظ استفاد هذا الأخير منها بسبب
فساد وكساد الماكنة الحزبية وتغيُّر ذهنية الناخب الذي أصبح يبحث عن الرجل المستقل
والمستقيل من السياسة الذي لا يرتبط بأي تشكيلة حزبية وأجندة سياسية.
هذه
هي أهم مواقف وردود الأفعال في الشارع التونسي بأطيافه المختلفة وخارج تونس من فوز
المرشح قيس سعيد بالمرتبة الأولى في الدور الأول من المنافسة الانتخابية على
كرسي الرئاسة في قرطاج، وهي مواقف وردود أفعال متوقعة بالنظر إلى التنوُّع
الإيديولوجي الذي يميز المشهد السياسي في تونس.
لا
تهمني مواقف الطبقة السياسية من الفوز الذي حققه قيس سعيد ولا تهمني مظاهر التهليل
والتهويل ولا مظاهر العويل التي أحدثها هول المصيبة التي خلَّفها فوز قيس سعيد في
انتخابات رئاسية رآها بعض مناهضيه أكبر منه وأكبر من تطلعاته وطموحاته لأنهم
تعودوا على أن الغلبة فيها لا تكون إلا للماكنات القديمة التي تحتكر المشهد
السياسي والاستحقاق الانتخابي رغم أنف الصندوق الذي لا تحتكم إليه إلا شكلا ثم
تفعل بعدها ما تشاء.
ما يهمني هو الوقوف على عناصر القوة الخفية التي مكنت الأستاذ
الجامعي "قيس سعيد "من افتكاك المرتبة الأولى في سباق رئاسي غير متكافئ من
ناحية الإسناد بين مترشحين من العيار الثقيل أغلبهم من رموز السلطة القائمة أو
السابقة أو من الأحزاب العتيدة التي وُلدت قوية من أول يوم بعد إعادة تشكيل
الخريطة السياسية والحزبية في تونس بعد ثورة الياسمين ومنها حزب "حركة النهضة"
الشريك المنافس لحزب "نداء تونس"، هذا الأخير الذي أسسه وأرسى قواعده
الرئيس الراحل "الباجي قايد السبسي".
يمثل
فوز الأستاذ الجامعي قيس سعيد في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في تونس
مفاجأة لدى كثير من المتابعين لأن هذه النتيجة لم تكن متوقعة في ظل المعايير
القديمة التي تحكم العملية الانتخابية والتي لم تشجع أي مغمور سياسي من خارج دائرة
الحرس القديم المغامرة بدخول معترك انتخابي يقذف به خارج السباق لأول وهلة أو يتيح
له فرصة إضافية من أجل إضفاء بعض المصداقية على العملية الانتخابية التي تقتضي
الاحتفاظ ببعض أرانب السباق إلى آخر المشوار.
تعتمد
الانتخابات على القوة الناعمة والقوة المالية، فمن لا يمتلكهما أو إحداهما لا
يمكنه الوصول إلى سدة الحكم، ويعدُّ قيس سعيد مثالا لهذه الفئة التي لا يمكنها
بمقتضى الحال أن تصل إلى السلطة لأن لعنة الإقصاء لسببٍ أو لآخر تنتظرها في أيِّ
مرحلة وخاصة بدعوى الشرعية الثورية التي ظلت لفترة طويلة خطا أحمر يحول بين
المترشح وطموحاته السياسية فيجد نفسه -راغبا أو مرغما- على الانسحاب، إن الشرعية
الثورية حق أريد به باطل، فتخوفات الحرس القديم من إغفال وإهمال هذا الحق مشروعة
من جهة، وغير مشروعة من جهة أخرى، مشروعة بالنظر إلى أن "الحرس القديم"
والذي يتكون من صانعي هذه الثورة يُبدي حرصه على مكاسب الثورة ويبدي في الوقت نفسه
خوفه على هذه المكاسب من أيِّ جهة ولذلك لا يأمن عليها إلا نفسه وبطانته، فيدفعه
هذا إلى فعل أي شيء ولو كان بتزوير الانتخابات أو توجيه الناخب، وغير مشروعة لأنَّ
مكاسب الثورة ليست حكرا على جهة معينة بل هي تركة مشتركة تقع مسؤولية الحفاظ عليها
على جميع المواطنين ولا تخص فئة بعينها.
عاش
"قيس سعيد" كما عاش كل أقرانه على فكرة الزعيم التي هيمنت على المشهد
السياسي والاجتماعي والتي أصبحت من المقدَّسات والمسلَّمات التي لا يجوز معارضتُها
أو القفز عليها. لقد ترسخت فكرة أو عقيدة الزعيم في النظام السياسي وهو ما جعل
مناصب القيادة محتكرة أو محجوزة مسبقا للحرس القديم ومحرمة على غيرهم. عاصر "قيس
سعيد" جزءا معتبرا من مرحلة الزعيم "لحبيب بورقيبة" والزخم الذي
رافقها. لقد فرضت فكرة الزعيم المجسدة في شخصية الحبيب بورقيبة نفسها على كثير من
التونسيين، وهي الشخصية التي تبقى رغم الانتقادات الكثيرة التي وُجِّهت إليها من
السياسيين وبعض العلمانيين والإسلاميين رمزا نضاليا له بصمته في النضال الثوري ضد
الاستعمار الفرنسي حتى استقلال تونس عام 1956.
يبدو
من خطابات "قيس سعيد" أنه متأثرٌ بالخط الثوري إلى حد كبير وخاصة في
تمسكه بفكرة معاداة الكيان الصهيوني ورفضه التطبيع معه تحت أي مسمى وتحت أيّ ذريعة
لأنه يرى أن الأمة العربية والإسلامية في حالة حرب مع الكيان الصهيوني، ومن
المعروف أن فكرة معاداة الكيان الصهيوني كانت من صميم المشروع العربي الثوري، كما
أن موقف "قيس سعيد " من الاتحاد المغاربي وحرصه على وحدته الترابية
والدينية والثقافية والتاريخية يلتقي بطريقةٍ أو بأخرى مع الخط الثوري، وقد شكَّل
هذا عنصر قوة في برنامج الأستاذ الجامعي " قيس سعيد" جعل قطاعا واسعا من
التونسيين معجبا بطروحاته ومشاريعه التي تؤكد اهتمام تونس الثورة وما بعد الثورة
وما بعد ثور الياسمين مهتمة بالقضايا العربية المصيرية.
انتهت
البورقيبية في تونس على الأقل كنظام حكم بعد وفاة السبسي وبدأت ملامح الانتقال من
الشرعية الثورية إلى الشرعية العلمية واضحة في المشهد السياسي في تونس الذي يتجه
بطريقة غير مسبوقة نحو فسح المجال للكفاءات العلمية من أجل الوصول إلى السلطة
وخاصة بعد فشل الأحزاب الوارثة للفكر الثوري في استمالة الهيئة الناخبة التي بدت
مقتنعة بقدرة الإطار الجامعي على صنع الفارق وتغيير بوصلة التوجه السياسي.
ويبدو
أن الناخبين التونسيين قد وجدوا في قيس سعيد الأنموذج الأمثل لتجسيد هذا التوجه
وخاصة أنه غير محسوب على الطبقة العلمانية المعارضة لأي قانون يحمل الصبغة
والخلفية الإسلامية على غرار قانون المناصفة بين المرأة والرجل في الميراث والذي
يعدُّ من أهم مخلفات فترة حكم السبسي، ويبدو أيضا أن الناخبين التونسيين قد تخلوا
قليلا عن الإسلام الحزبي الهيكلي بتصويتهم لصالح الإسلامي المستقل إن صح التعبير "قيس
سعيد" على حساب حزب "حركة النهضة" الذي امتد وتغلغل في الأوساط
الشعبية وخاصة في أعقاب الثورة بطريقة لافتة للنظر إلى درجة أصبحت "النهضة"
بحسب المتابعين والمراقبين للشأن التونسي أكثر الأحزاب حظا لقيادة تونس ما بعد
الثورة، وهو ما لم يتحقق في أعلى هرم السلطة ولكنه تحقق على مستوى رئاسة الوزراء
بتولي "حمادي الجبالي" في وقتٍ سابق منصب رئيس الحكومة.
يمكن
القول -إذا وضعنا الأمور في نصابها ونظرنا إلى الممارسة السياسية نظرة موضوعية- بأن
فوز الأستاذ الجامعي "قيس سعيد" ليس بالحدث غير العادي أو المعادي
للفلسفة السياسية لأن المعيار الحقيقي في تمييز العمل السياسي الناجع والمناضل
السياسي الناجح هي قوة الإرادة، فمن امتلك قوة الإرادة امتلك قوة الإدارة، وقبل
هذا فإن القدرة على صناعة الأفكار تمنح صاحبها القدرة على صناعة القرار وهذه
الشروط كلها متوفرة في "قيس سعيد" ويمكن أن تتوفر في أي رجل معرفة بشرط
تحقيق العدل بين المترشحين وهو ما لم يتحقق بالصورة الكافية لأن فكرة معاداة
العلمي واتهامه بالعجز عن ممارسة السياسة وإدارة الدولة لا تزال قائمة ولا تزال
بموجبها مقولة أحمد زويل قائمة أيضا "إن الغربيين ليسوا عظماء ونحن أغبياء،
هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل".
ليس في حالة "قيس سعيد" الذي اكتسح الساحة وحقق الريادة في
الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية ما يثير الدهشة لأن الرجل استطاع أن ينزل من
برجه المعرفي الافتراضي إلى القاعدة الشعبية وأن يعطي لمشروعه الفكري بعدا
اجتماعيا يؤانس به ويلامس طلبات وتطلعات الشعب وهو ما عجزت عنه كثيرٌ من الأحزاب
العتيدة والمهيكلة التي أنفقت كثيرا من جهدها لكسب الود الشعبي. إلا أنها فشلت في
ذلك فشلا ذريعا، لأنها ركزت على عنصر الانتماء الحزبي والعمل الموسمي فلم تستطع
بالتالي كسب الثقة وسد الفجوة بينها وبين الهيئة الناخبة، وبناء على ذلك مسَّها
العقاب الجماعي من الناخبين الذي مس غيرها من الأحزاب.
لقد نجح "قيس سعيد"
الذي لا ينتمي إلى أي حزب سياسي ولا يملك واجهة سياسية ولا يملك دعما من أي جهة
لأنه بالمختصر رمى بأفكاره إلى الشارع فاحتضنها الشعب، وهكذا يجب أن يفعل كل
الجامعيين والمثقفين الذين يطمحون إلى الريادة التي حققها "قيس سعيد"
وأما بقاؤهم في المدرَّجات المكيفة والمخابر الزجاجية المغلقة فسيدعهم غرباء عن
مجتمعهم وستستمرّ غربتهم إلى أن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى حضن المجتمع.
(الشروق الجزائرية)