هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إن استخدام مصطلح “الاحتباس الحضاري” هو محاولة مني لمحاكاة مصطلح
“الاحتباس الحراري” الذي اخترعه عالم الكيمياء السويدي “سفانتي أرنيوس” عام 1896م،
وهدفي من ذلك بيان أن الإنسان هو سبب الخلل في كلتا الحالتين: حالة “الاحتباس
الحراري” وحالة “الاحتباس الحضاري”، فمن أسباب “الاحتباس الحراري” كما يقول
المختصون: (حدوث تغيرات في مسار دوران الأرض حول الشمس مما يزيد من قربها من
الشمس، وبالتالي تغير في كمية الإشعاع الشمسي الواصل إلى الأرض بالزيادة عن المعدل
الطبيعي، مما ينتج عنه تغيرات مناخية واضحة كارتفاع الحرارة، وذوبان الثلوج
والجليد في القطبين، واختلال مواعيد المواسم المطرية).
إذا
كان من أسباب “الاحتباس الحراري” حدوث تغير في مسار دوران الأرض حول الشمس فإن هذه
الحالة شبيهة بحالة “الاحتباس الحضاري” أو ربما كان “الاحتباس الحراري” في هذا
الجانب أوهنَ من “الاحتباس الحضاري” لأن الأول يحدث بسبب تغير مسار الدوران أما
الثاني فيحدث بسبب توقف أو تخلف ما يصطلح على تسميته “الدورة الحضارية” التي
يعرفها فيلسوف الحضارة “مالك بن نبي” رحمه الله بقوله: “إذا نظرنا إلى الأشياء من
الوجهة الكونية، فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض
مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر”.
وإذا
كان من نتاج “الاحتباس الحراري” زيادة الإشعاع الحراري عن المعدل الطبيعي، فإن من
نتاج “الاحتباس الحضاري” زيادة معدل الإخفاق الحضاري الذي أصبح السمة البارزة
لكثير من الشعوب وخاصة الشعوب العربية والإسلامية التي ضيعت مجدها الحضاري الذي
بلغ أوجه في الأندلس ثم طفقت تستدرك ذلك بتجارب حضارية وُلدت ميتة أو ماتت في
بداياتها من دون أن تحقق شيئا، وذلك حينما اشتغل “أعراب الحضارة” بقضايا الحضارة
وتصدى “أغراب الحضارة” ممن نعدّهم عنوانا للانغلاق الحضاري لمعالجة آثار الإخفاق
الحضاري.
ومن
أسباب “الاحتباس الحراري”: (الانفجارات البركانية وما ينجم عنها من اندفاع الحِمم
التي تزيد من حرارة الغلاف الجوي إلى جانب اندفاع كميات كبيرة من الغازات والرماد
الضارة بالغلاف الجوي). وهذه الظاهرة شبيهة بظاهرة الاحتباس الحضاري الذي نجمت عنه
اختلالات وانفجارات اجتماعية كبيرة ضاعت معها كل القيم الحضارية والإنسانية
وتحوَّل فيه الإنسان من عنصر بناء إلى عنصر هدم ولا أدل على ذلك من عمليات الهدم
الحضاري المنظم الذي يمارسه أعراب وأغراب الحضارة الذين يتصدرون المشهد الحضاري
ببضاعة مزجّاة أو من غير بضاعة في الأعم الغالب ويقدمون حلولا غبية للمشكلة
الحضارية، وهي الحالة التي أضرت بالمجتمع الإنساني وأعادته القهقرى إلى زمن التردي
الحضاري.
ومن
أسباب “الاحتباس الحراري”: (تزايد انطلاق الملوِّثات العضوية إلى الغلاف
الجوي من المصانع مسببة تغيرات مناخية كبيرة).
وهذه
الظاهرة السلبية شبيهةٌ بظاهرة تزايد الملوِّثات الإيديولوجية والدينية والثقافية،
التي تحوَّلت معها المواطنة إلى تهمة جاهزة تطال كل غيور على وطنه متشبث بقيمه
الوطنية، وتحوّل معها الدين إلى عنوان للرجعية والتخلف ومظهر من مظاهر التطرف، وتحوّلت
معها الثقافة الدينية والوطنية إلى ثقافة سلبية بئيسة غريبة في عقر دارها بسبب
الأفكار الثقافية المغشوشة التي وفدت علينا وأصبحت جزءا من كياننا الثقافي بإرادة
أو من غير إرادة منا.
ومن
أسباب “الاحتباس الحراري”: (القطع الجائر للأشجار والغابات التي تعمل على
تقليل الإشعاع الشمسي وامتصاص الغازات خاصة غاز ثاني أكسيد الكربون والمستخدم في
التمثيل الغذائي للنبات). وهذه الظاهرة السلبية شبيهة بظاهرة الإهمال الحضاري الذي
أصبح علامة مميزة لكثير من المجتمعات والتجمعات البشرية، الإهمال الحضاري الذي
يؤشر على حجم الكارثة التي حلت بنا وأفقدتنا كل سمت وكل حس حضاري، وحوّلت كثيرا
منا إلى خصوم احترافيين للبيئة همهم الإساءة إلى البيئة وإفساد كل ما يقوم به
الآخرون في مجال حماية البيئة. لقد فقدت مجتمعاتنا الإنسانية عنصر الحياة وعنصر
البقاء وهو العنصر القيمي والأخلاقي تماما كما يحدث في “الاحتباس الحراري” من
نقصان غاز ثاني أكسيد الكربون الضروري لعملية التمثيل الغذائي.
ومن أسباب “الاحتباس الحراري”: (تلوث الهواء نتيجة عدم وجود الرقابة
الصارمة على المصانع والمعامل التي تنفث الغازات الناتجة عن عمليات التصنيع
الهائلة التي تقوم بها إلى الغلاف الجوي دون معالجة). وهذه الظاهرة شبيهة في حالة
“الاحتباس الحضاري” بغياب آليات الرقابة على السلوك الإنساني والذي كان من نتائجه
غياب الثقافة الحضارية في حواراتنا وحاراتنا وطغيان مظاهر الفوضى الخلاقة.
إن
غياب الرقابة على السلوك الإنساني قد زاد من مظاهر التغوُّل والتهوُّر التي جعلت
بعضنا يتطاولون على القيم الوطنية والدينية والثقافية ويتنادون إلى إشاعة فكرة
الاستبداد وركوب موجة الإفساد بإيعاز من أعداء الدين والوطن.
وغياب الرقابة على السلوك الإنساني قد زاد من معدلات الجريمة داخل
المجتمع حتى أصبحنا غير آمنين على حياتنا وحياة أبنائها. وغياب الرقابة على السلوك
الإنساني قد جعل بعض العصاة يجاهرون بالمعصية ويخرجون إلى العلن غير آبهين بالأعين
التي ترقبهم والألسنة التي تلعنهم. وغياب الرقابة على السلوك الإنساني هو الذي جعل
بعض المنحرفين المفسدين يتظاهرون في مظهر الصالحين والمصلحين ويضربون عرض الحائط
بكل آداب المجتمع وقوانين الاجتماع. وغياب الرقابة على السلوك الإنساني هو الذي
جعل بعض المنسلخين من دينهم ووطنيتهم يسيحون في العالم ويصيحون بكاء –حسب زعمهم –
على خرق حقوق الإنسان والحريات الإنسانية في أوطانهم وهم يدرون أو ربما لا يدرون
بأنهم في أوطان لا نسب بينها وبين حقوق الإنسان.
عن
صحيفة الشروق الجزائرية