هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مساءلة المشهد الثقافي، ومناقشة قضاياه الشائكة، وما يرتبط بصراع الهوية وتدخل السياسي في صراع اللغة والسياسة اللغوية، وموقع المثقف إزاء هذا الصراع فضلا عن وظيفته ومسؤوليته حيال قضايا وطنه، وتحليل وتفسير أسباب تراجع المشاريع الثقافية، موضوعات يصعب مقاربتها دون أن يكون المثقف عضويا بلغة غرامشي، يضع رجله برسوخ في مربع الثقافة، ويعرف واقعه السياسي، وينحاز لقضايا وطنه من الموقع العضوي الذي يفترض في المثقف أن ينطلق منه وأن ينتج فيه الرؤية والموقف معا.
لئن هذه القضايا اليوم تعدت الإطار المحلي القطري، وتشابهت تعبيراتها وأشكالها في مختلف الأطر العربية من خلال تراجع المشاريع الثقافية وانعطاف السياسة الثقافية لجهة دعم الفلكلور والتعبيرات الهجينة التي ليس لها تعلق لا بالتراث ولا بالأنوار من حيث هي منطلقات للنهوض، ولئن السياسة اللغوية في عدد من الأقطار العربية أصبحت أشبه ما تكون بفوضى عارمة تدعم الشتات والتجزئة من حيث تريد أن تتأسس على الانفتاح والانخراط في مجتمع المعرفة، فإن مناقشة مثل هذه القضايا تتطلب محاورة ضيف ثقيل يضع رجله في البحث العلمي الأكاديمي من جهة، ويضع رجله الثانية في مربع الالتزام السياسي العضوي للمثقف، وترسخ رمزيته في مجاله الحيوي الأكاديمي.
اختار موقع "عربي"21 أن يحاور الناقد والباحث المغربي سعيد يقطين، الذي كان له دور كبير في تجديد الدرس الأدبي بالجامعة المغربية والعربية، حيث كرس جهده البحثي لخدمة السرديات العربية، سواء من خلال نحت مفاهيم تليق بها، أو عبر تتبع المكونات السردية في النصوص العربية قديمها، وحديثها، كما أغنى المكتبة العربية بعدد كبير من المؤلفات التي باتت تشكل مراجع لا يستغنى عنها للباحثين والأكاديميين، دون أن نغفل حجم الجوائز العربية التي حصدها بجهده الأكاديمي ورؤيته النقدية، ونظراته العميقة في حقل الثقافة وقضاياها.
في هذا الحوار، نتناول مع الدكتور سعيد يقطين أربع محاور في أربع حلقات، تناقش الأولى أسباب تراجع المشاريع الثقافية العربية وتخصص الثانية للسياسات الثقافية بين التحديث ودعم التقليد، وتتناول الثالثة رؤية سعيد يقطين للعلاقات التفاعلية التي تربط الثقافة باللغة واللغة بالهوية والتنمية، أما الحلقة الرابعة فيتم فيها مناقشة الثقافة ضمن محيطها الإقليمي ومسؤولية المثقف في مواجهة حالة التشظي التي يعيشها الحقل الثقافي.
في أسباب تراجع المشاريع الثقافية
ـ عربي21: تميزت العقود الأخيرة ببروز مدارس فكرية مغربية، لها مشاريعها الثقافية، وبينها تقاليد في الممارسة النقدية، فنتحدث عن مشروع العروي والجابري وطه عبد الرحمن ومحمد سبيلا وغيرهم، في حين يلاحظ في الآونة الأخير تراجع كبير في هذا المجال، في نظرك إلى ماذا تعزو ذلك؟ هل الأمر يتعلق بتراجع أداء الجامعة؟ أم بتراجع الحقل الثقافي ككل؟
ـ سعيد يقطين: حين تتراجع الجامعة تتراجع الساحة الثقافية، والعكس صحيح، رغم أن العلاقة بينهما ليست دائما متطابقة، إذ قد تتطور الساحة الثقافية وتتراجع الجامعة، وقد يحصل أن تتراجع الساحة الثقافية إذا ما تقدمت الجامعة وغدا أداؤها، آنئذ، موجها لما يمكن أن يعتمل في تلك الساحة نفسها، فيعمل على تغيير مسارها. غير أن تفسير بروز المشاريع الثقافية المشار إليها في السؤال يفرض علينا النظر في السياق الذي تبلورت فيه، ومن ثمة يمكننا الجواب عن التراجع الحالي كما يتبدى من خلال السؤال.
تشكلت المشاريع الثقافية المغربية سواء في مجال الفلسفة أو الدراسات الأدبية أو في العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وكل الذين اشتغلوا بمشاريع خاصة هم بصورة أو بأخرى نتاج الحركة الوطنية التي كانت تناضل من أجل الاستقلال، وظلت الروح الوطنية محفزة للاشتغال ببناء مجتمع جديد. كما أنها ظلت مرتبطة بقوة بما كان سائدا على المستوى العربي والعالمي سياسيا ومعرفيا. لذلك عمل كل في اختصاصه على تأسيس مشاريع والبحث فيها من خلال التفاعل مع الأسئلة التي كان يطرحها الواقع العربي، وبما كان يروج عالميا.
ارتبطت تلك الأعمال بما كان يمور في الساحة السياسية من زخم نضالي، إذ كان أغلب هؤلاء منخرطين بشكل أو بآخر في مسار التغيير. لذلك يمكن اعتبار المناخ السياسي العام، ومن ورائه المجتمع السياسي، وراء تلك المشاريع. إن ارتباط السياسي بالثقافي في الوعي والممارسة دفع، إلى حد ما، في اتجاه خلق مجتمع ثقافي تجمع بين مكوناته تصورات مختلفة للتغيير الاجتماعي، وطرائق معرفية في ممارسة العمل الثقافي. وكل واحد من الذين أشرت إليهم في السؤال، وغيرهم كثير، وبعضهم ما يزال يواصل إلى الآن، كان وليد هذا المناخ العام، وإن كانت لكل واحد منهم خصوصيته في طريقة التعامل مع تلك اللحظة التاريخية.
دور اليسار في الحراك الفكري
لقد لعب اليسار المغربي دورا كبيرا في إشاعة نوع من الوعي والممارسة سواء على مستوى السياسة أو الثقافة. وكان لحضور الأدب والفلسفة دور كبير في خلق مرجعية شبه موحدة تجمع بين مختلف الفاعلين في المجتمع المغربي. وحين نفهم جيدا أن اليسار المغربي هو بأحد الوجوه وريث الحركة الوطنية التي كان رموزها (علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني، عبد الله إبراهيم،،،) يجمعون بين النضال السياسي والمشاركة في المجال الثقافي نتبين الأصول التاريخية لتطور الحركات الاجتماعية والثقافية في المغرب. ورغم كون أغلب أصحاب تلك المشاريع اشتغلوا في الجامعة فإن أعمالهم كانت في الواقع وليدة الأسئلة التي كانت تفرضها الساحة الثقافية والسياسية المغربية.
حين تتراجع الجامعة تتراجع الساحة الثقافية، والعكس صحيح، رغم أن العلاقة بينهما ليست دائما متطابقة
ـ "عربي21": كان لهذه المشاريع الثقافية، بالإضافة إلى مشاريع أخرى في حقول أدبية متخصصة، مثل مشاريعك في السرد وتحليل الخطاب الروائي وغيرها، إشعاع كبير في المشرق، إلى الدرجة التي أصبحت فيها المدرسة الثقافية المغربية مغرية وذات منتوج نوعي. لكن، يبدو أن هذا الإشعاع بدأ يتراجع بشكل كبير، هل يعزى الأمر في نظرك لتراجع الثقافة بشكل عام أم بحيثيات تخص الشأن الثقافي المغربي ساهمت في تفسير تراجع الدور الإشعاعي للمدرسة المغربية؟
ـ سعيد يقطين: ما ذكرته عن الإشعاع صحيح. وما كان له ليحصل لولا المناخ العام الذي تحدثت عنه أعلاه، والذي كانت له جذور تاريخية. إن تفسير التراجع يمكن أن نبحث له عن عوامل متعددة، وإن كانت ترتد مجتمعة إلى التحولات التي طرأت مغربيا وعربيا وعالميا.
من بين العوامل التي يمكن الوقوف عليها هي أن كل تلك المشاريع كانت فردية، ووليدة مجهودات شخصية. لم تتبن الجامعة أيا منها، وكذلك المجتمع السياسي. كنت أرى عبد الله العروي في الكلية يسير منعزلا، والجابري منفردا، وقس على ذلك. لم يكن لأي منهما مكتب خاص وكاتبة، ولم تكن هناك بنيات للبحث ولا مختبرات ولا مراكز. كان كل منهما ينتقي طلبته، ويشتغل معهم، ومن بين هؤلاء كان الاستمرار الذي انقطع مع موت بعضهم أو تقاعده. وكذلك المجتمع السياسي عندما صار يراهن على الانتخابات من أجل نيل مستحقاته من السلطة بات المثقف بالنسبة إليه مزعجا. استقال الجابري من المكتب السياسي، وجرب العروي الترشح وكانت النتيجة سلبية.
يعود التراجع في تصوري إلى غياب الاستمرارية في الوعي والممارسة. فالقطيعة هي ما يطبع كل المسارات التي نشتغل في نطاقها. يبدو ذلك في الأجيال الجديدة التي ولدت منذ الثمانينيات فهي لا تعرف علال الفاسي الذي لم يتطور مشروعه حتى لدى الحزب الذي أسسه، ويمكن قول الشيء نفسه عن بلحسن الوزاني وعبد الله إبراهيم، ناهيك عن الجابري والعروي وبنشريفة ومفتاح وسواهم.
جيل بلا بوصلة
لا يعني هذا أن الواقع الثقافي المغربي حاليا متراجع بالقياس إلى ما كان عليه منذ السبعينيات بكيفية مطلقة. فهناك طاقات وإمكانات شابة واعدة، ونلمسها بجلاء في أن هذا الإشعاع ما زال متواصلا على المستوى العربي. فعلا لا نجده على النحو الذي كان سابقا للأسباب التي وقفنا على بعضها. لكن خصوصية هذا الجيل تكمن في كونه يتوجه بلا بوصلة. فالجامعة مع إحداث نظام جديد (إجازة ـ ماسترـ دكتوراه) خلقت بنيات جديدة للبحث، ولكنها لم توفر لها شروطها المناسبة. فالجامعة تتجدد بهدف المساهمة في تطوير البحث العلمي، ولكن المدرسة عموما في الوقت نفسه تولي أولوية قصوى للشغل. هذه المفارقة تجعلها هي أيضا بلا بوصلة. فلا هي تخلق الباحث، ولا هي تشغّل الموظف. ويمكن قول الشيء نفسه عن المجتمع السياسي فهو منقسم على ذاته، بلا مشروع اجتماعي، ولا ثقة فيه. وكل هم السياسي هو التنافس على مقعد في السلطة.
الأجيال الجديدة التي ولدت منذ الثمانينيات لا تعرف علال الفاسي الذي لم يتطور مشروعه حتى لدى الحزب الذي أسسه
بدأ يتلاشى الهاجس السياسي والحلم بالغد الذي يضمن العيش الكريم لجميع المواطنين، وصار ما يهم من يشتغل بالسياسة هو أن يكون له موقع يضمن له السلطة والمال