أكثر ما اتصفت به الحركة الإسلامية (
الإخوان المسلمون) هو اتخاذها العمل شبه السري، إذ يمكن وصفها بالمنظمة نصف السرية على مبدأ علانية الدعوة وسرية التنظيم. لكن كيف نشأت السرية في فكر الإخوان؟ وما هي الآثار التي تركتها السرية عليها؟ وهل الظروف تسمح للإخوان بالتحول من السرية إلى العلنية؟
1- تاريخ السرية
العمل السري لم يكن جزءا من فكر الإمام البنا في بدايات تأسيس جماعة الإخوان، إذ كان ينتهج أسلوب الدعوة والإرشاد والتربية. واتخذ من المقاهي والطرقات والأسواق والمساجد ساحة للعمل، مع الابتعاد عن العمل السياسي.
كان تنظيم الإخوان مفتوحا للجميع، ينضم إليه كل من رغب، فكانت هذه الصيغة ميزة من ميزات مرحلة التأسيس في عهد البنا، إذ بقي الإخوان كهيئة ذات صبغة دينية إصلاحية تركز على التزكية وبناء الضمير الإنساني.
وفي تطور على مسار البنا الفكري وبعد قراره دخول العمل السياسي، تعرض لأول اعتقال في عام 1941 ولمدة 23 يوم تقريبا، بعدها خرج الإمام البنا من السجن؛ وكان قد بدأت تتشكل لديه القناعة في تشكيل تنظيم سري غير معلن في بدايات عام 1942، متأثرا بالبيئة السياسية المحيطة التي كانت تقوم على بناء الأحزاب الشمولية القوية للوصول للسلطة، وتنتهج العمل السري في تكوينها التنظيمي، وخاصة المدارس التي تحاول استرجاع عهود الامبراطوريات العظمى القديمة، كما هو في المشروع الإيطالي والمشروع الألماني. وقد أشار الإمام البنا لذلك في رسائله.
أنشأ البنا التنظيم السري عام 1942، وكان الهدف المعلن منه هو تشكيل تنظيم من النخبة الإخوانية يكون هدفه مقاومة المحتل الإنجليزي في
مصر وإعادة روح المقاومة، وكذلك التحضير لمقاومة احتلال العصابات الصهيونية للأراضي الفلسطينية.
في تلك الفترة كان المفكر سيد قطب يهاجم السرية في الفكر الإخواني، قبل أن يلتحق في صفوف الإخوان بعد عودته من الغرب ويؤصل للعمل السري، إذ إنه وصفهم بالحشاشين الجدد، فقد كان سيد يمازح أخاه محمد قطب رحمه الله كلما رآه راجعا من اجتماعات الإخوان فيقول له: "إزاي الحسن الصباح بتاعكم؟". والحسن الصباح (ت 518 هـ) هو مؤسس الفرقة الإسماعيلية- النزارية، وهي الفرقة التي اشتهرت بين المسلمين بالحشاشين، إذ كان يذاع ويشاع عنهم طاعة شيخهم طاعة عمياء، ويمارسون العمل السري وأعمال العنف ضد كل من يختلف معهم.
بعد ذلك بدأت تتبلور ثقافة السرية لدى تنظيم الإخوان، وبدأ التأصيل الشرعي للعمل السري والحديث عن سرية الدعوة وعلانية التنظيم، ثم أصبح للفكر السري السيطرة على دعوة الإخوان ويلتهم كل مفاصلها، حتى وصل إلى مرحلة لا يريدها الإمام حسن البنا؛ إذ أدرك الراحل خطورة العمل السري في دعوة الإخوان، وقال لفريد عبد الخالق رحمه الله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت إلى التربية والتعليم. وتبرأ بعدها من التنظيم السري ومن عملياته بعد أن انحرف عن مراده وعن الغاية، التي قام من أجلها، لكن يد الغدر لم تمهل الراحل البنا، فتم اغتياله على يد أجهزة الملك فاروق.
وبقيت الجماعة تعيش إرثا مثقلا بالتنظيم السري، فكان لحسن الهضيبي رحمه الله الدور في تفكيك هذا التنظيم وعزل قائده عبد الرحمن السندي وفصله من تنظيم الإخوان، قبل أن يقوم هذا الجهاز باغتيالات داخل صفوف الإخوان؛ ذهب ضحيتها المهندس سيد فايز الذي وقف إلى جانب المرشد الجديد حسن الهضيبي ضد عبد الرحمن السندي، رئيس الجهاز الخاص التنظيم السري.
بعد منتصف الخمسينيات، بدأ بعض شباب الإخوان محاولة إعادة بناء الجماعة التي تلقت ضربات موجعة على يد نظام جمال عبد الناصر العسكري، فبدؤوا بتكوين تنظيم خاص بهم بمعرفة من المرشد العام في وقتها، الراحل حسن الهضيبي، فكانت تلك الخطوات نواة لتنظيم ما عرف بـ"تنظيم 65"، إذ استطاعوا تكوين تنظيم من 300 إلى 350 شخصا في جميع أرجاء مصر، وكانت تصل إليهم بعض المنشورات من أفكار سيد قطب رحمه الله عن طريق شقيقته حميدة قطب. هذا التنظيم قاده فيما بعد الراحل سيد قطب بعد خروجه من السجن.
بقي التنظيم في حالة سرية لا يعلن عن نفسه بين صفوف الإخوان، حيث إن بعض الإخوان في ذلك الوقت كان يرفض مثل هذا العمل الذي قام به هؤلاء الشباب، ويحرض داخل التنظيم عليهم ويحذر منهم، إلى أن خرج سيد قطب من السجن عام 1964 والتقى بالمرشد الهضيبي رحمه الله واستأذنه بالعمل على تكوين هذا التنظيم، فأذن له المرشد، وتم تشكيل هذا التنظيم الذي كانت السرية فيه مركبة سرية داخل صفوف الإخوان، وسرية داخل الدولة. وتم وضع نظام تربوي خاص لهذا التنظيم؛ يعتمد على كتب ابن تيمية وأبي الأعلي المودودي، وكتب محمد قطب وسيد قطب رحمهم الله، إلى أن تم القبض على هذا التنظيم وأُعدم سيد قطب بسببه، حيث اتهموا بأنهم كانوا يخططون لاغتيال جمال عبد الناصر، إلا أن سيد قطب كان ينفي ذلك ويسخر منه، وكان يوضح أن هدف تأسيس تنظيمه هذا ليكون النواة لإقامة الدولة الاسلامية، وفقا لتصوراته الفكرية عن الحاكمية والحكم.
كان لدماء الشهيد سيد قطب ومنهاجه التربوي الذي وضعه لتنظيم 65 الذي قاده؛ الأثر في إعادة صياغة المناهج التربوية لدى الإخوان في مصر، وفي كل دول العالم بعد ذلك. إذ إن الفكر القطبي استطاع التمدد وإحكام السيطرة على كل مفاصل التنظيم داخل مصر وخارجها، واستمر هذا المد لعدة عقود؛ يشكل فكر سيد قطب وتصوره مشروع الإخوان في العالم، فكانت أبرز تجليات هذا التمدد للفكر القطبي ما كتبه الراحل السوري د. منير الغضبان في كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية"، الذي أصّل به شرعا لموضوع السرية في فكر الإخوان المسلمين.
بقيت السرية كأبجدية من أبجديات الفكر داخل الحركة الاسلامية منذ عام 1940، إلى أن جاء الربيع العربي عام 2011 ربيع شعوب ضد الأنظمة الحاكمة الدكتاتورية المستبدة، إلا أنه أيضا ربيع فكري داخلي لجماعة الإخوان المسلمين، فتنادت بشكل ملفت قراءات جديدة لإعادة النظر في كثير من مسلّمات فكر المرحلة القطبية، وعلى رأسها موضوع السرية.
كانت مواقع التواصل الاجتماعي بمنزلة المفتاح الصغير الذي فتح تلك الأقفال الصلبة المحكمة، إذ إن كثيرا من الشباب الإخواني بدأ بالتعاطي في الشأن الإخواني على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ما أثار السخط من قبل القيادات الكلاسيكية؛ أتباع المدرسة التنظيمية التي كانت تعتبر الشأن الإخواني الداخلي شأنا خاصا وأمرا مقدسا، يُمنع الاقتراب منه أو الحديث حوله عبر وسائل الإعلام، إلا أن الشبكية ومواقع التواصل الاجتماعي اقتحمت البيت الإخواني، وبدأت تبث من داخله، فكان لذلك الأمر الأثر الكبير في إعادة الحديث حول كثير من المسائل المقدسة التي كان يمنع الاقتراب منها، فأصبحت تتكون ثقافة داخل الصف الإخواني ترى أن الشأن الإخواني شأن عام وليس شأنا خاصا، وأن كل من يناقش أمور العامة من حق الشعب أن يطلع عليه ويناقشه، وأن الجماعة تقدم نفسها كحامل مشروع عام يحمل في طياته التغيير والإصلاح، لذلك من المهم مناقشة كل ما يتعلق بالشأن الإخواني في وسائل الإعلام، وإنهاء حالة السرية أو نصف السرية التي يضربها التنظيم على نفسه.
2- آثار السرية على العمل الإخواني
رغم كل المبررات التي أوردها أتباع المدرسة التنظيمية داخل الإخوان، والتي يعتبر بعضها مشروعا في تبرير العمل السري، إلا أن الواقع أثبت أن للعمل السري أخطارا كبيرة على الجماعة ومستقبلها الدعوي. وتتمثل تلك المخاطر بالتالي:
- العمل السري يُحدث حالة تجميد للشخصية الحقيقية لصالح الشخصية السرية أو الوهمية، وغالبا ما يحتدم الصراع بين الشخصية الحقيقية والشخصية السرية، مما يخلق حالة من التوجس الداخلي تجاه الحقيقة لدى الشخصية الإخوانية.
- العمل السري يكون أقرب إلى حالة الظل، وفي الظل وبعيدا عن أشعة الشمس تنمو الفطريات الفكرية دون أن يشعر بها أحد، فتكون المحاضن السرية كأبواق لتلك الانحرافات التي تنفجر في مرحلة ما بشكل مفاجئ فتصيب الجميع بالأذى.
- العمل السري يصنفه الساسة على أنه أول خطوة على طريق السير إلى عالم التطرف الفكري بجميع ألوانه وأنواعه.
- العمل السري بيئة خصبة للفساد المالي والإداري.
- العمل السري يكاد يلغي حالة التطور الطبيعي للأفكار أو يبطئ حركتها إلى حد كبير جدا، ليصل لمرحلة اللافائدة منها، حيث تكون خارج الزمان عادة.
- العمل السري يعزز نظرية المؤامرة في عقول النشء الجديد، مما يجعل هذا النشء متوجسا من المحيط به، وغير قادر على الاندماج حتى مع أقرب البيئات التي تحيط به، فتكاد ترى المنتسبين إلى التنظيمات التي تعيش مفهوم السرية يعيشون فكريا إلى جانب بعضهم البعض بمجموعات غير منفتحة على الآخرين ولا متحاورة معها، بل إنها متشككة متوجسة من كل من هو خارج هذا الإطار الفكري.
- العمل السري يجعل الفئات المجتمعية الأخرى والأنظمة الحاكمة والمؤسسات المدنية متوجسة ومتخوفة من تلك التنظيمات، وتتعامل معها بحذر شديد جدا (الإنسان دائما يعادي ما يجهله).
- العمل السري ينمي حالة نفسية لقواعد تلك التنظيمات بالاستعلاء والرغبة في اعتزال العمل السياسي وعدم الانخراط فيه.
- العمل السري يلغي حالة مأسسة العمل، ويحرم الأجيال القادمة من الاستفادة من العمل التراكمي والخبرات السابقة والبناء عليها.
- في العمل السري تغيب مفاهيم المحاسبة والشفافية والبرامج، وتسود مفاهيم الشعوبية والطرح العاطفي، وهنا يصبح التنظيم لأجل التنظيم والعمل غير النافع.
- العمل السري يلغي سنة التدافع الطبيعية في تقديم أهل الكفاءة والمعرفة، ويحرم التنظيمات من كثير من القدرات التي لا تستطيع تسويق ذاتها في ظل هذا الجو من الانغلاق والتكتم، فيكون الفرز القيادي للأشخاص الأكثر ظهورا في مفاصل هذا الجسم المغلق، فأصبحت الخبرات التربوية هي صاحبة الحظ الأوفر في المراكز القيادية، وهذا ما تسبب في إضعاف التصعيد القيادي الكفؤ بشكل كبير جدا، فظهرت على السطح القيادات التربوية التي تحتك بالجسم التنظيمي المغلق، وغابت القيادات القادرة على البناء والتقدم؛ كون العمل السري يحرم القواعد من التعرف على قدرات بعضها البعض، فما يكون من خيار إلا الاختيار وفق معيار المعرفة الشخصية دون إتاحة الفرصة لأفراد التنظيم من التعبير عن ذاتهم والتعبير عن قدراتهم، فتغيب القدرات وتطفو على السطح لغة العواطف والشعوبية، مما يزيد من حالة التكلس داخل جسم التنظيم، ويفقد القدرة على الاستفادة من الخبرات والقدرات لذلك الخزان البشري المتكدس بالخبرات، وتحويلها إلى ما يشبه الأتباع غير القادرين على التفكير والتطوير.
3- هل يمكن التحول من السرية للعلنية
أنصار المدرسة التنظيمية في الداخل الإخواني يؤكدون دائما أن السرية جاءت نتيجة للبيئات العربية الاستبدادية التي لا تسمح بالعمل الدعوي، وتقهر كل من يخالفها الرأي أو وجهة النظر، مدللين على ضرورة تمسكهم بالسرية بحركات الاستئصال التي قادها ضدهم في تونس نظام المخلوع ابن علي وعبد الناصر في مصر والأسد الأب والابن ضدهم في سوريا، وكثير من البلدان العربية.
إلا أن النخب الثقافية والمهتمة بشأن الحركات الإسلامية ترى أن فكرة السرية ليست أسلوبا طارئا يستخدم في حالات القمع والاستبداد، وإنما هو جزء من منظومة فكرية مؤصل لها دينيا بمجموعة من الآثار الدينية التي تحض على السرية والعمل السري، مؤكدين وجهة نظرهم بأن الإخوان تم احتضانهم في بعض بلدان الخليج والأردن، في مواجهة المد الناصري، إلا أنهم بقوا متمسكين في سريتهم وطريقة العمل وأسلوبهم في إخفاء هياكلهم التنظيمية عن المجتمع وعن الأنظمة، وأن الصحافة لا تستطيع أن تدخل إلى أروقة الإخوان الداخلية ولا تستطيع الحديث عن الداخل الإخواني.
في مصر بعد الثورة بدأ الإخوان يتحولون شيئا فشيئا من السرية للعلنية، إذ قاموا بترخيص الجماعة وأنتجوا بعض الأفلام الوثائقية عن الأسرة الإخوانية، إلا أن هذه الخطوات كلها ذهبت أدراج الرياح أمام حالة القمع التي قوبل بها التنظيم بعد الانقلاب العسكري.
لا يمكن القول بأن العمل العلني وإنهاء العمل السري نوع من الترف أو أنه يستحيل واقعيا، فجماعة الإخوان المسلمين في هذه المرحلة مطالبة، رغم قساوة الظروف، باجتراح الحلول لإنهاء هذه الحالة من العمل السري التي أضرتها أكثر مما نفعتها. ومن الأفضل في سبيل إنجاح ذلك التخلي عن اسم الإخوان الذي أصبح مستهلكا في البيئة العربية، والتوجه إلى ترخيص أنفسهم رسميا وفقا لقوانين البلدان التي تسمح بنشاطهم بمسميات ونشاطات مختلفة، وتحويل عملهم إلى العمل المؤسسي الرسمي، وإعلان بعد ذلك التخلي عن السرية بأي شكل من الأشكال، ليصلوا إلى مرحلة العلنية التامة في كل البلدان متى ما تغيرت الظروف في بعض البلدان التي تلاحقهم وتجرمهم.