هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تصدير: "آخرُ ما يخرج من قلوب الصِدّيقين حُبُّ الرئاسة"
خلال تاريخها الطويل عرفت حركة النهضة التونسية (ذات المرجعية الإسلامية) العديد من الأزمات؛ التي استطاعت في كل مرة أن تخرج منها بأخف الأضرار. وليس ما يميز الأزمة الحالية المرتبطة بالقوائم المترشحة للانتخابات التشريعية القادمة؛ هو أنها قد خرجت للعلن وكسرت قانون الصمت (أو الانضباط الحزبي) الذي ميز الصراعات الداخلية في الحركة، بل إن ما يميزها أساسا أنها ليست خلافا بين شخص وحزب (كتلك الخلافات التي حصلت سابقا بصورة فردية ولأسباب مختلفة بين العديد من القيادات، من أمثال رياض الشعيبي ولطفي زيتون وحمادي الجبالي وبين مؤسسات الحركة)، فهي خلافات بين العديد من القيادات التاريخية للحركة وبين المكتب التنفيذي، ومِن ورائه رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي.
ونحن هنا نتحدث عن قيادات وازنة في الحركة، من أمثال عبد الحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي وسمير ديلو ومحمد بن سالم، وغيرهم. ولسنا محتاجين في هذه المقدمة إلى التذكير بأن الشيخ كان قد هدّد بالانسحاب في المؤتمر الأخير للحركة، إذا ما عدّل المؤتمرون القانون وجعلوا الوصول للمكتب التنفيذي بالانتخاب لا بالتعيين كما أراد، وقد كان له ما أراد على كُره من الكثيرين.
ومن هذا المنظور، يمكننا أن نقول إن ما وقع من تعديلات على 29 قائمة من أصل 33 قائمة نهضوية للانتخابات التشريعية كان أمرا متوقّعا، بصرف النظر عن التطمينات الشفوية التي قدمها الشيخ راشد الغنوشي لقيادات النهضة؛ بعدم التعسف في استعمال حق المكتب التنفيذي في تعديل القوائم التي أقرّها "كبار الناخبين" (أي أعضاء المكاتب الجهوية والمحلية ومجلس الشورى الجهوية والمشاركون في المؤتمر العاشر.. الخ)، وهو ما أكده القيادي النهضوي محمد بن سالم في إحدى تدخلاته الإذاعية. فالقانون الأساسي للحركة لم يُحدد للمكتب التنفيذي سقفا للتدخل بالتعديل أو الرفض للقوائم الانتخابية، وهو ما يعني عمليا أنّ الأمر متروك لاجتهاد هذا المكتب أو لتوازنات القوة ومراكز القوى فيه، دون أن ننسى ما قد يصدره الشيخ راشد نفسه من "تعليمات" شفوية لمن يدينون بوجودهم في المكتب التنفيذي لـ"ثقة" الشيخ، لا لثقة الناخبين النهضويين.
بعيدا عن منطق المصادرة على النوايا، وبعيدا عن الخضوع الأعمى للنسق الحجاجي للمغاضبين أو للمدافعين عن قرارات المكتب التنفيذي، فإنّ القراءة السياسية للأزمة الحالية داخل حركة النهضة تشير إلى رهانات أكبر من الرهان البرلماني، وأعمق من نبرة "نكران الذات" التي تملأ تدوينات المغاضبين من أمثال عبد الحميد الجلاصي وعبد اللطيف المكي وسمير ديلو. فالتعديلات التي أدخلها المكتب التنفيذي قد ضربت هؤلاء في مقتل.
فلو أخذنا مثلا حالتي الجلاصي والمكي، فإن تغيير دوائر ترشحهم الأصلية تعني (في أفضل الأحوال) دخولهما في صراعات مفتوحة مع المترشحين عن تلك الدوائر ومع قواعدهم الانتخابية، كما تعني فقدانهما (حتى في صورة وصولهما للبرلمان) الدعم القاعدي الذي قد يحتاجان إليه في حرب الخلافة على رئاسة الحركة. فالكل يعلم أن القانون الأساسي للنهضة يمنع الشيخ راشد من الترشح في المؤتمر القادم، ولكنّ فرضية "تعديل" هذا القانون (أو الانقلاب عليه) تظل قائمة، خاصة أمام تزايد نفوذ الشيخ وعدم قدرة القيادات المنافسة له على التوحد وتقديم مرشح "توافقي" لخلافة الشيخ في رئاسة الحركة. أما سمير ديلو فقد تكلم لأنه أقصي من رئاسة قائمة جهة بنزرت، وهو ما يجعله خارج المجلس النيابي القادم، وما يفقده الكثير من قدرته على التأثير وطنيا أو حزبيا.
بصرف النظر عن الأصول الجهوية لأغلب المغاضبين (وهم لا ينتمون جميعا إلى الجنوب التونسي باعتباره النواة الصلبة لحركة النهضة، مثلما أن منطقة الساحل هو النواة الصلبة للأحزاب التجمعية الجديدة)، وهو ما يطرح إشكالية خلافة الشيخ على رئاسة الحركة، وتأثير العصبيات الجهوية المهيمنة على النهضة فيها مثل باقي الأحزاب (رغم أن هذه القضية تبقى من الممنوعات في السجال العمومي التونسي).
وبصرف النظر عن علاقة أزمة القوائم الانتخابية بالتوجهات السياسية التي دافع عنها الشيخ وأنصاره في القيادة، ضدا على العديد من القيادات الوازنة، فإن دعوة 57 عضوا من مجلس الشورى الحركة لجلسة استثنائية يظهر أن الخلاف أكبر من أن يُختزل في عامل مفرد، مهما كانت أهميته وقدرته التفسيرية. ولا شك في أن الجلسة الاستثنائية للشورى ستكون حاسمة في مستقبل الحركة، فاتساع رقعة الخلاف بين القيادات النهضوية، وعدم الوصول إلى تسويات مرضية لكل الأطراف؛ قد يعني دخول الحركة في أزمة غير مسبوقة قد يكون لها تأثيرات كارثية على مسار الانتقال الديمقراطي برمته. ذلك أن النهضة (رغم كل المآخذ المشروعة على أدائها السياسي بعد الثورة) تظل الجسم السياسي الأوحد الذي يمنع المنظومة من الارتداد إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، بل إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.
ورغم كل الفوارق التي تمنع من قياس وضعية حركة النهضة على وضعية حزب نداء تونس أو الجبهة الشعبية، فإن حدة الخلافات بين القيادات النهضوية وطبيعة رهاناتها الاستراتيجية قد تغري الباحث في الشأن التونسي بتوقع الانشقاق أو تأسيس كيانات حزبية جديدة. ولكنها فرضية مستبعدة، خاصة بعد أن أثبتت الانشقاقات السابقة أن لا مستقبل لأي قيادي خارج الحركة، اللهم إلا في هامش الحقل السياسي. ومهما كانت مخرجات المجلس الاستثنائي لمجلس الشورى، فإن التصدع الذي أحدثته أزمة القوائم الانتخابية لن يمرّ بغير تأثيرات مؤكدة في تحالفات حرب "الخلافة" ومآلاتها، وستكون له تداعيات كبيرة على المشهد السياسي التونسي بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة.
للمرة الأولى بعد الثورة، اختار الشيخ راشد الغنوشي أن يدخل الانتخابات التشريعية. ولعل ما يثير الانتباه في هذا القرار هو ترشحه عن دائرة "تونس 1" بالعاصمة، وليس عن بعض دوائر الجنوب كما هو متوقع. إنه ترشح ذو رمزية عالية، فالنهضة التي تكاد تتحول في الوعي الجمعي إلى حزب جنوبي؛ يختار رئيسها أن ينافس المنظومة القديمة في مركز سلطتها، وبين قواعدها الانتخابية الأكثر عددا. ولمّا كان من المؤكد وصول الشيخ إلى البرلمان، فإن ترؤسه لكتلة النهضة، بل للمجلس النيابي أصبحت أمرا لا مهرب منه، خاصة إذا ما استحضرنا أمرين: استمرار منطق التوافق في الداخل، وحصول ذلك التوافق على الضوء الأخضر من القوى والإقليمية والدولية المهيمنة على القرار السيادي التونسي. وهو ما يعني حصول تفاهمات دولية تتولى النهضة بمقتضاها رئاسة المجلس النيابي، وتترك رئاسة الوزراء ورئاسة الدولة لمرشحين من النواة الصلبة للمنظومة القديمة (أي لشخصيتين من بلدية العاصمة ومن أهل الساحل). ولا شك في أن الخيار الاستراتيجي لحركة النهضة بدخول مؤسسات الدولة والخروج من منطق مواجهتها؛ يؤيد هذه الفرضية.
ختاما، قد يكون من الصعب الجزم بأن التعديلات التي أُدخلت على القوائم الانتخابية لحركة النهضة هي لحظة من لحظات حرب الخلافة على رئاسة الحركة، ولكنّ استحالة الجزم لا تعني انتفاء موجبات الترجيح. فإذا ما نجح الشيخ راشد في تمرير ما أقرّه المكتب التنفيذي في الجلسة الاستثنائية لمجلس الشورى، فإنه سيكتسب نقطة حاسمة في صراعه ضد خصومه السياسيين داخل الحركة، سواء أقام بذلك كله ليمهد لتعديل القانون الأساسي حتى يترشح مرة أخرى لرئاسة الحركة، أم قام به ليمهّد الطريق لمرشحه الشخصي لخلافته. ولكن في صورة فشله في تمرير تلك التعديلات، فإنه سيفقد الكثير من مكانته الرمزية ومن سلطته التنظيمية، وقد يؤذن ذلك بذهاب ريحه (وريح شيعته من أنصار التوافق اللامشروط مع المنظومة الحاكمة) خلال المؤتمر القادم للحركة.
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية