هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي وأحد "الرؤساء الثلاثة" في تونس ما بين موفى 2011 وموفى 2014 و"أب الدستور التونسي الجديد". من أبرز الشخصيات الحقوقية والنقابية والسياسية والثقافية الوطنية التونسية المثيرة للجدل منذ أكثر من 40 عاما. اعتبره بعض العروبيين والإسلاميين وحلفائهم "علمانيا اشتراكيا قريبا من فرنسا"، ويعيب عليه بعض العلمانيين واليساريين والدستوريين معارضته بقوة قمع الإسلاميين وحلفائهم قبل 2011 ثم مشاركة حزبه معهم في "الترويكا" التي حكمت البلاد ما بين 2011 و2014.
بدأ ابن جعفر مسيرته السياسية في الجناح الطلابي والشبابي في الحزب الدستوري بزعامة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة قبل أن ينحاز إلى الليبيراليين واليساريين المعتدلين الذين انشقوا عليه ثم أسسوا صحيفة "الرأي" المعارضة وحزب الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة الوزير السابق أحمد المستيري في 1977 والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في 1978.
برز ابن جعفر بعد 1994 عندما أسس مع نخبة من رفاقه حزب التكتل الديمقراطي، وبعد 1996 عند تأسيس المجلس الوطني للحريات. ثم كان ابن جعفر من بين القيادات اليسارية والعلمانية المعتدلة التي قادت في آخر عهد ابن علي حراكا حقوقيا سياسيا معارضا ضمن ما عرف بجبهة 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2005، التي كانت أول ائتلاف موسع للمعارضة تشكل في عهد ابن علي بمشاركة فصائل علمانية وإسلامية وأخرى يسارية وليبيرالية للمطالبة بالحريات والديمقراطية ومعارضة نظام الحكم.
التقيناه في "عربي21"، فكان معه هذا الحوار الشامل حول المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي التونسي عشية انتخابات رئاسية وبرلمانية وسط تخوفات من الانعكاسات السلبية للحرب في ليبيا والمتغيرات الإقليمية بما في ذلك في الجزائر والسودان:
س ـ أستاذ مصطفى بن جعفر، يتابع التونسيون والمراقبون المستجدات في تونس والدول العربية التي شهدت ثورات من أجل الديمقراطية والإصلاح وتلك التي تشهد حاليا حراكا شعبيا طموحا، مثل الجزائر والسودان، بقدر كبير من الحذر والتخوف من المستقبل.
ألا تعتقد أن السبب الرئيسي وراء تعثر الثورة التونسية والثورات العربية التي اندلعت في 2011 والحراك الشعبي الحالي في الجزائر والسودان غياب قيادة كفؤة ونزيهة ونخبة لديها رؤيا ومشروع واستراتيجية؟
ـ فعلا، تمرّ تونس وكثير من الدول العربية بمأزق سياسي اجتماعي كبير، وقد عجزت السلطات الجديدة عن معالجة الأزمات الهيكلية والمشاكل الظرفية التي كانت تسببت في الانتفاضات الشبابية الاجتماعية واحتجاجات المهمشين وثورة الشباب في موفى 2010 ومطلع 2011.
لكن السبب ليس افتقار بلداننا لنخب لديها رؤيا وتصورات ومشاريع، بل تعمد بعض اللوبيات المالية والإعلامية والسياسية تهميش الخبراء والزعامات التي لديها رؤيا وتصورات استراتيجية وعرفت بنزاهتها.
أغلب السياسيين والمثقفين والنشطاء النزهاء الذين لهم رؤية ومشروع أصبحوا يهمشون أو يتعرضون لمضايقات مالية ومحاصرة إعلامية وسياسية.
نفس العائلات المتنفذة منذ عهد بورقيبة
س ـ لماذا ؟
ـ لأن نفس العائلات واللوبيات المتنفذة في عهد بورقيبة وابن علي هي المتنفذة اليوم. النتيجة هي أن المواطن أصبح يتساءل بعد 8 أعوام من تحركاته من أجل التغيير والإصلاح وتحقيق مطالب ثورية: ما هو الفرق اقتصاديا واجتماعيا بين الأحزاب المتنافسة على الحكم؟
تونس لم تتحرر بعد من الاصطفاف الأيديولوجي
ـ هذا صحيح ولكن المشهد السياسي تشكل بعد ثورة 2011 بطريقة سريعة واستفادت من الحريات أساسا اللوبيات القديمة، والمشكل أن أغلب أصحاب التصورات والمشاريع والديمقراطيين الاجتماعيين الوسطيين المتصالحين مع شعبهم وثقافتهم ليس لهم موقع.
قبل الثورة كان في البلاد مشاريع أحزاب منها حزبنا حزب التكتل والحزب الديمقراطي التقدمي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. البقية كانت السلطة تختارها وتوجهها بما يذكر بمقولة "معارضة صاحب الجلالة".
ورغم إعادة تشكل المشهد السياسي فقد وجدت البلاد نفسها أمام أحزاب لديها رصيد حاولت أن تلعب دورا لكن خانتها الإمكانيات المالية والإعلامية، ولوبيات توجه المشهد نحو إعادة إنتاج المنظومة القديمة.
بعد 8 سنوات عن الثورة ليس دينا قانون أحزاب والتمويل العمومي للأحزاب غير منظم، وهذا بفعل فاعل..
مسؤولية الرؤساء الثلاثة؟
س ـ لكن السيد مصطفى بن جعفر ترأس البرلمان الانتقالي، المجلس الوطني التأسيسي، لمدة 3 أعوام، وكان أحد الرؤساء الثلاثة الذين حددوا ملامح تونس الجديدة مع الرئيس المنصف المرزوقي ورؤساء الحكومة المتعاقبين حمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة؟
ـ كنا مشغولين بصياغة الدستور والقوانين ومتابعة الملفات المستعجلة في ظروف استثنائية جدا.. والتحدي الكبير أنه ليس هناك قواعد منظمة بوضوح لقانون اللعبة بين الأحزاب ومؤسسات الدولة والمجتمع..
نحن لا نتنصل من مسؤولياتنا ومستعدون للنقد الذاتي، لكن نسجل أنه بفضل جهود الائتلاف الحكومي والمجلس الوطني التأسيسي والرئاسات الثلاثة أمكن إبعاد تونس عن منطقة الخطوط الحمراء التي وصلت إليها بعض الدول العربية، وخاصة تلك التي شهدت ثورات شعبية وتغييرا سياسيا شاملا مثل ليبيا واليمن وسوريا ومصر..
أين اليسار واليمين؟
س ـ بحكم خبرتك الطويلة في منظمة الأحزاب الاشتراكية الدولية وفي الحركات السياسية التونسية والعربية، هل يمكن اليوم تصنيف الأحزاب والحركات السياسية التونسية حسب مواقفها من الظلم الاجتماعي والاقتصادي وموقفها من الاستعمار الاقتصادي العالمي الجديد؟ هل يوجد في تونس اليوم طرف يميني ليبرالي قريب من الغرب الرأسمالي وآخر يساري حليف للحكومات الوطنية والتقدمية العالمية وثالث وسطي ديمقراطي اجتماعي أم أن هذا العهد قد ولى بعد انهيار جدار برلين والمعسكر الاشتراكي الشرقي؟
ـ هناك غموض في المشهد السياسي والحزبي وتداخل للأوراق وتقاطع بين الشعارات والتصريحات الظرفية ..وأعتقد أن التصنيفات التقليدية الاجتماعية السياسية للأحزاب والكتل السياسية موجودة بيمينها ويسارها ووسطها..
لكن لدينا في تونس إشكاليات وتصنيفات أخرى من بينها الاصطفاف حسب الموقف مما يسمى بتيارات "الإسلام السياسي" أو الأطراف السياسية التي لديها مرجعيات دينية.. والمشهد السياسي يتميز بالاصطفاف بين المناصرين والمعارضين لصيغ التعامل مع أنصار هذه التيارات بما في ذلك حركة النهضة ودورها السياسي..
هذا الاصطفاف دفع بعض أصدقائنا الديمقراطيين من تيارات مختلفة نحو انتقاد تجربة الائتلاف الثلاثي ما بين 2011 و2014، والذي كنا طرفا فيه مع حزب المؤتمر بزعامة السيد المنصف المرزوقي وحركة النهضة بزعامة السيد راشد الغنوشي.
الرشوة والبطالة والفقر
س ـ بعد 8 أعوام عن التغيير في أعلى هرم السلطة في تونس واندلاع الثورات العربية، هل ما زلت تؤمن بسلامة المسار رغم تزايد نسبة منتقديه مع التركيز على استفحال ظواهر البطالة والفقروالفساد والرشوة وتدهور الأحوال المعيشية والأوضاع العامة؟
ـ النخب والأحزاب منقسمة بين متمسك بالثورة ومكاسبها ورافض لها جملة وتفصيلا.. مع المطالبة بـ "غلق القوسين" والعودة إلى المربع الأول.. أي إلى مرحلة ما قبل الاحتجاجات الشعبية الشبابية والاجتماعية والمسار الثوري ..النتيجة في ظل الترويج لمثل هذا الخطاب وربط الأزمات والمشاكل الاجتماعية الاقتصادية والأمنية بالثورة أن المواطن أصبح في حيرة كبيرة..
النخب التي لديها مشروع ورؤيا تهمشها لوبيات مالية وإعلامية
بصراحة علينا أن نقر أن المبالغات بأنواعها لا تساعد على تطوير المشهد السياسي ولكن تزيد "اللخبطة" الحالية تعقيدا.. لا ينبغي أن ننسى أن من بين أسباب تعثر مسار التغيير في تونس والثورات العربية أن المتحكم في تطورات المشهد السياسي هي لوبيات المال الفاسد عبر وسائل الإعلام وبعض الجمعيات.. ولا يمكن في مثل هذا المناخ أن تنجح الأحزاب والأطراف التي تعترض على الفساد والرشوة وعلى بعض الاجندات المعادية للديمقراطية والتغيير..
لوبيات مالية وإعلامية
س ـ بصراحة، هل تعتبر أن الذين قادوا الثورة التونسية والثورات العربية في 2011 كانوا زعماء وقياديين لديهم رؤيا استراتيجية ومشاريع إصلاح وتغيير؟ أم أن تسارع الاحتجاجات ثم الأجندات الدولية أقحمت النخب في مسار صراع على المواقع والكراسي لملء الفراغات التي أحدثتها الاطاحة برأس النظام وأقلية من المقربين منه؟
ـ صحيح أن الذين قادوا الثورة لم تكن لديهم مشاريع وتصورات شاملة.. لكن النخب التونسية نجحت عموما في تنظيم عملية الانتقال الديمقراطي وأحدثت مؤسسات المرحلة الانتقالية ووفرت أرضية لتبرز الكفاءات والبدائل والرؤى.. في البلدان الديمقراطية العريقة نفسها لا يكفي أن تكون الأفضل ولكن يجب أن تسمع وأن يبلغ صوتك..
وبحكم هيمنة مؤسسات المال الفاسد على كثير من وسائل الإعلام استغلت أطراف معارضة للتغيير وللمسار الثوري المنظومة القديمة وإمكانياتها.. لذلك لم ينتصر بعد صوت المؤمنين بتونس الجديدة وبقيم الديمقراطية والتقدم والشفافية والقطع مع الفساد والاستبداد..
معارك أيديولوجية؟
س ـ وهل هناك اليوم في تونس طرف ثقافي سياسي لديه مشروع سياسي اجتماعي اقتصادي شامل. أم أن لكل طرف أولوية أيديولوجية خاصة في معاركه الانتخابية: الانتصار للهوية بالنسبة للنهضة وحلفائها مقابل معاداة الإسلاميين ومشروعهم الثقافي المجتمعي جملة وتفصيلا من منطلقات إيديولوجية بالنسبة للطرف المقابل؟
ـ الأمور نسبية.. للأسف فإن السباق الانتخابي تحركه أحيانا أجندات ظرفية توظف كل شيء بما في ذلك الأيديولوجيا.. لكن هدف البعض كان ولا يزال استبعاد الطرف المقابل أو الإطاحة به بكل الطرق.. حزب النداء مثلا هل كان لديه قبل انتخابات 2014 مشروع غير إسقاط حكومة الترويكا عموما واستبعاد قيادات حركة النهضة خاصة؟ حزب النداء لم يكن لديه مشروع.. والدليل أنه انقسم وفشل.. رغم تصويت حوالي مليون ونصف المليون من الناخبين لفائدته في انتخابات 2014..
اليوم هاجر أغلب "الندائيين" إلى حزب "تحيا تونس" بزعامة السيدين يوسف الشاهد وسليم العزابي.. لكن هل يمتلك هذا الحزب الجديد وزعماؤه مقومات الحركة السياسية بما في ذلك امتلاك مشروع واضح لإنقاذ الأوضاع وحكم البلاد؟
لا أعتقد ذلك.. وحسب المؤشرات الحالية فإن غالبية مؤسسي هذا الحزب وكوادره ليسوا سياسيين وإن كانت لدى بعضهم خبرة في الإدارة وحكومات حزب النداء الذي فشل على كل المستويات خلال الأعوام الماضية.. واختيار الحبيب الصيد لرئاسة الحكومتين الأولى والثانية بعد الانتخابات التي فاز فيها النداء ورئيسه دليل على أن حزب النداء كان أساسا تجمعا سياسيا ظرفيا من أجل إسقاط حكومة الترويكا والوصول إلى السلطة وليس لديه برنامج ولا مشروع ولا قيادات مؤهلة لرئاسة الحكومة.. وقد عوض لاحقا بالسيد يوسف الشاهد الذي لم يكن بدوره صاحب رصيد سياسي ولا خبرة في الحكم وتسيير شؤون الدولة والأحزاب..
تضخم مؤسسة الرئاسة
س ـ هناك من يقول إن الرئيس الباجي قائد السبسي عين الحبيب الصيد لأنه يريد أن يتحرر من هيمنة الحزب وأن يتحكم في ورقة اختيار السلطة التنفيذية.. ضمن إيمانه بالنظام الرئاسوي وبمدرسة بورقيبة التي يتضخم فيها دور الرئيس ومؤسسة الرئاسة؟
ـ هذا صحيح.. والخطأ الكبير أنه بعد سقوط ابن علي اعتقدنا أن التغيير كان جاهزا وأن مكونات الشعب والإدارة والمؤسسات مستعدة للتغيير.. ووقع التصرف وكان البديل جاهزا ومناخ التغيير مكتملا.. البعض تمسك بالقطع مع الماضي ورموزه.. والبعض حاول تسيير الأوضاع كأن الثورة لم تقع.. وقد كانت أولويتنا مع شركائنا في الترويكا إنجاز دستور يصادق عليه غالبية التونسيين والتونسيات، وهذا ما تحقق وظل فخرا لكل التيارات والأطراف السياسية بما في ذلك تلك التي كانت في المعارضة..
ولا ننسى أن الترويكا لم تنتخب لتحكم بل لتشرف على صياغة دستور والتأسيس للمرحلة الجديدة..
س ـ لكن الترويكا حكمت البلاد طوال 3 أعوام والمجلس الوطني التأسيسي لعب دور البرلمان وكانت لديه سلطة على الحكومة ومؤسسات الدولة التنفيذية؟
ـ نعم.. لكن ضمن سياق عام وسلطات مؤقتة والجميع يعترف بذلك.. وفي كل الحالات كانت الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية ونسبة النمو لحكومتي الترويكا الأفضل منذ 2011 رغم صبغتهما المؤقتة.. وقد امتنعنا عن التشهير بالأوضاع الاقتصادية التي ورثناها عن حكومة السيد الباجي قائد السبسي في موفى 2011 اعترافا منا بالصعوبات التي واجهتها وبينها خسائر تقدر بحوالي 8 مليارات دينار بسبب الحرائق والخسائر التي سجلت قبل انهيار حكم ابن علي وبعده... ثم الاعتصامات والإضرابات العشوائية والأعمال الإرهابية..