قضايا وآراء

أمريكا بعيون زائر من غزة (4)

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

أمريكا دولة قوية اقتصادياً وسياسياً ولكنها لم تقدم المثال المرتجى في العدالة الاجتماعية وتحقيق الرفاه لكل مواطنيها.

ينطوي هذا البلد على كثير من مشكلات التمييز وتفاوت الفرص والعنصرية مما يقتضي استمرار النضال الحقوقي الداخلي في سبيل العدالة و المساواة.

 

سلوك يشبه الاستيطان الإحلالي 

"gentrification" مصطلح باللغة الإنجليزية لا توجد كلمة تقابله في اللغة العربية، ويعني أن يقدم الأثرياء إلى أحد الأحياء ويشتروا عقاراته بأثمان مرتفعة فترتفع الأسعار وترتفع الضرائب فتصبح الإقامة في ذلك المكان فوق احتمال الفقراء فيضطرون إلى النزوح من ذلك المكان، هذا السلوك يشبه الاستيطان الإحلالي لكن بوسيلة المال وليس القوة.

خلال جولتي في أمريكا مررت بمصانع مغلقة؛ حدثني أصدقائي من الأمريكيين قصة هذه المصانع؛ نقلها أصحابها إلى دول أخرى مثل شرق آسيا ليحظوا بتشغيل العمالة الرخيصة، ونتيجة هذه الحركة فقد مزيد من العمال الأمريكيين فرص عملهم بينما تضخمت ثروات أصحاب رؤوس الأموال بتقليل تكلفة الإنتاج. هذا المثال هو تعبير واضح عن النظام الرأسمالي الذي يهتم بالأرباح دون مراعاة المسؤولية الاجتماعية، و النتيجة هي تعاظم التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء.

 

مدينة فقيرة

زرنا مدينة ديترويت شمال الولايات المتحدة، مدينة تبدو منذ النظرة الأولى فقيرةً قليلة الخدمات مقارنةً مع مدينة شيكاغو محطتنا الأولى، مدينة ديترويت كانت في الماضي مهد مصانع السيارات، لكن إغلاق المصانع فيها أفقد سكانها فرص عملهم فنزحوا من المدينة وتناقصت خدماتها.

في مدينة ديترويت زرنا متحفاً يوثق تاريخ استعباد الأمريكيين الأفارقة، على جدران المتحف تحكي قصة قدوم الإنسان من أفريقيا، وهو ما يعني أن الهوية الإفريقية حاضرة بقوة في قلوب الأمريكيين الأفارقة، يحدثنا الأمريكيون الأفارقة قصصاً من حقبة الاستعباد كيف كان مستعبِدوهم يفرقون بينهم ويحرمونهم من القراءة والكتابة كي يقطعوا تواصلهم بمنبعهم الأصلي في إفريقيا ويخلصوهم لخدمتهم في البيوت والحقول دون أي هوية ثقافية.

اللغة الإنجليزية حين ينطق بها الأمريكيون الأفارقة تبدو أصعب من اللغة الإنجليزية التي ينطق بها الأمريكيون البيض، يفسر صديقي هذا الاختلاف بأنه محاولة من الأفارقة لتمييز أنفسهم حمايةً لهويتهم الخاصة من الذوبان، فاللغة هي شكل من أشكال رفض التكيف مع الهيمنة الثقافية التي يمارسها الأقوياء.

 

في متحف ديترويت تتجسد قصة رحلة الاستعباد البشعة وفيه محاكاة للسفينة التي كان ينقل بها الأفارقة من بلادهم إلى أمريكا


وما يفعله الأمريكيون الأفارقة عبر اللغة يفعلونه أيضاً عبر تسريحة الشعر واللباس الزاهي، فالجدائل الخاصة بشعور الأفارقة ولباسهم المتميز هو طريقة لإعلان الهوية الثقافية.    

في متحف ديترويت تتجسد قصة رحلة الاستعباد البشعة وفيه محاكاة للسفينة التي كان ينقل بها الأفارقة من بلادهم إلى أمريكا مع تسجيلات لأصوات السياط والصراخ. كان المستعمرون البيض يذهبون إلى شواطئ أفريقيا ويخطفون الأفارقة من مواطنهم ويضعونهم في أقفاص حديدية في السفن ثم يبحرون بهم عبر المحيطات وصولاً إلى أمريكا، فمن مات في الطريق بسبب المرض وسوء المعاملة والجوع والعطش ألقوه في المياه، وتذكر الأرقام أن ملايين الأفارقة ماتوا أثناء رحلة النقل، ثم من يصل حياً يباع في الأسواق ليصبح عبداً مسلوب الإرادة بعد أن ولدته أمه حراً.

ألغي الرق رسمياً في الولايات المتحدة بعد حرب الشمال والجنوب، لكن العدالة الكاملة لم تتحقق، إذ لا يزال هناك تفاوت ملحوظ في الفرص الاقتصادية والاجتماعية بين السود والبيض، والأحياء التي يتركز فيها الأمريكيون الأفارقة من السهل ملاحظة نقص الخدمات فيها وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وهو ما يخلق بيئةً مؤاتيةً للجريمة وتجارة المخدرات. مررت مع شاب لبناني بأحد أحياء السود فأخبرني أن المدرسة الوحيدة في هذا الحي تم إغلاقها لأن السكان الفقراء لا يدفعون الضرائب، وهو ما يعني البقاء في دائرة مغلقة، إذ يؤدي الجهل إلى الفقر والجريمة.

 

ألغي الرق رسمياً في الولايات المتحدة بعد حرب الشمال والجنوب، لكن العدالة الكاملة لم تتحقق،


في إحدى شوارع شيكاغو يلفت نظر الزائر امتلاء الشوارع وواجهات المحلات برسومات لعلم مميز يتكون من مستطيلات حمراء وبيضاء ومثلث أزرق تتوسطه نجمة خماسية، وجداريات تصور مجموعةً من الناس تتظاهر وترفع ذات العلم، إنه علم بورتوريكو، وهي جزيرة تقع شرق الولايات المتحدة في البحر الكاريبي، ويسكنها حوالي ثلاثة مليون إنسان هم خليط من السكان الأصليين والأفارقة والأسبان. انتزعت أمريكا السيادة على هذه الجزيرة من الأسبان في نهاية القرن التاسع عشر، ومنحت سكانها الجنسية الأمريكية، لكن حقوقهم القانونية منقوصة، إذ لا يسمح لهم بالتصويت في الانتخابات الأمريكية لأن جزيرتهم لا تعد ولايةً. يتخذ السكان الذين يشعرون باضطهاد من قبل الأكثرية المهيمنة من رسم الجداريات وسيلةً للإعلان عن أنفسهم، هذا الحضور الكبير لعلم بورتوريكو على الجدران وواجهة المحلات هو تعزيز لهويتهم وإعلان رفض لهيمنة حكومة الولايات المتحدة عليهم.

 

تشابه بين حدود أمريكا وحدود غزة


يتكرر المشهد ذاته جنوب الولايات المتحدة؛ هناك السكان من أصول لاتينية وقد أصبحوا مواطنين للولايات المتحدة في القرن التاسع عشر بعد احتلالها لأجزاء واسعة من المكسيك وضم أراضيها وسكانها، يشيع في جنوب ولاية كاليفورنيا الحديث باللغة الأسبانية، وهي لغة المكسيك، في رسالة تأكيد للهوية الثقافية ورفض للمستعمِر، كذلك تنتشر رسومات الجداريات التي تحيي ذكر رموز التاريخ المكسيكي وقادته وملوكه، دار نقاش بيني وبين مواطن أمريكي من أصل مكسيكي، قال لي: نحن نرى في الولايات المتحدة محتلاً لأرضنا كما أن إسرائيل تحتل أرضكم، قلت له: ربما تبدو فكرة التحرير صعبةً وعالية التكلفة، لكني أتفق معك أن تنخرطوا في معركة نضال حقوقي للمطالبة بمزيد من المساواة والقضاء على كل أشكال التمييز والتفرقة.

 

هذه الحدود في ذلك المكان وفي كل مكان هي إعلان فشل أخلاقي وسياسي للإنسان. الناس متشابهون فلماذا تقام الجدران الفاصلة بينهم؟


مشهد الحدود المكسيكية الأمريكية يكاد يكون مطابقاً لمشهد حدود مدينة رفح بين مصر وفلسطين، كلا الحدود يقعان في الجنوب، وفي غرب رفح يوجد البحر الأبيض المتوسط بينما في غرب سان داييجو يوجد المحيط الهادي، وفي حالتي رفح وسان داييجو يتشابه الناس على جانبي الحدود في أصولهم العرقية وروابط الدم والرحم.

توجهت يوم الأحد إلى الحدود المكسيكية الأمريكية، في إحدى المواقع يتجمع السكان على جانبي الحدود  ويقيمون الصلاة. يدعو الواعظ في الجانب المكسيكي فيؤمن المصلون في الجانب الأمريكي، لا يستطيع الأقارب المصافحة والعناق فيمدون أصابعهم عبر حلقات السياج الضيقة لتتلامس. في ذلك المشهد تخشع القلوب وتنهمر الدموع، هذه الحدود في ذلك المكان وفي كل مكان هي إعلان فشل أخلاقي وسياسي للإنسان. الناس متشابهون فلماذا تقام الجدران الفاصلة بينهم؟  

التعليقات (0)