بعد غياب دام حوالي خمس سنوات ظهر زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروف اختصارا بتنظيم "داعش" يوم الاثنين 29 من شهر نيسان (أبريل) الماضي. الظهور كان مفاجئا لجميع الملاحظين تقريبا خاصة بعد انكسار التنظيم وانهزامه في آخر معاقله في الموصل بالعراق وفي الرقة بسوريا بعد أن ترك وراءه خرابا كبيرا وعددا مرتفعا من الضحايا خاصة من المدنيين الذين وقعوا أسرى مليشياته المسلحة.
أكثر الأشياء إثارة للانتباه في هذا الظهور الجديد إنما تتعلق بالتوقيت، فلماذا ظهر البغدادي الآن وبعد خمس سنوات؟ السؤال الثاني يتعلق بمضمون الخطاب الذي بثه التنظيم على لسان زعيمه وقد تضمن تلميحات لأحداث جارية تتعلق أساسا بمسار الثورات العربية.
الإرهاب سابق للثورات
رغم التحفظ الكبير على التسمية فإن مصطلح الإرهاب هو مصطلح أجنبي على الحضارة العربية الإسلامية على الأقل في استعمالاته الحديثة. فاللفظ كان منتشرا كغيره من التسميات التي يصف بها طرف ما في نزاع ما عدوَّه أو الطرفَ المقابل من أجل شيطنته وتبرير استعمال العنف أو القوة ضده. فالقوات النازية مثلا كانت تصنف المقاومين الفرنسيين على أنهم إرهابيون وكذلك فعلت كل الجيوش الغازية عبر التاريخ بما فيها القوات الفرنسية التي كانت تصف ثوار الجزائر بالإرهابيين أو المتمردين.
لكن في الحالة العربية المعاصرة طفا مصطلح الإرهاب مؤخرا إثر أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الغامضة والتي اتهمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية تنظيم القاعدة بأنه وراء العملية وشنت حربين على دولتين مختلفتين باسم محاربة الإرهاب وهما أفغانستان والعراق. تم تدمير أفغانستان وقتل عشرات الآلاف من أهلها وكانت مسرحا لعمليات إبادة طالت قرى بكاملها، أما في العراق فتم احتلال البلد الذي ارتكبت فيه أبشع الجرائم العسكرية عبر التاريخ باسم الحرب على الإرهاب وتنظيم القاعدة. ثم خفت اسم التنظيم وبهُت ذكره.
لكن منذ اندلاع الحركات الاحتجاجية العربية في تونس ثم مصر وليبيا وسوريا برز تنظيم جديد باسم تنظيم الدولة الإسلامية ليعلن قيام الدولة الإسلامية في سوريا عام 2013، أي في قلب انتصارات ثورات الربيع العربي. لكن لا بد من التذكير هنا بأن التنظيم هو امتداد لتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق الذي هو بدوره امتداد لتنظيم "جماعة التوحيد والجهاد" الذي أسسه الأردني أبو مصعب الزرقاوي في العراق منذ 2004 أي سنة واحدة بعد الغزو الأمريكي للعراق.
تنظيم "داعش" نجح في إنقاذ نظام الأسد في سوريا من السقوط
اللافت في الأمر هنا هو أن المنطقة العربية تحتوى على حاضنة جهادية غامضة النشأة والتمويل لكن يبدو أن الجهاد الأفغاني الذي صنعته المخابرات الأمريكية بمساعدة السعودية كان النواة الأولى واللبنة الأساسية لهذه الحاضنة. تم إذن ما يشبه تحريك الفواعل والأدوات من أفغانستان إلى الصومال ثم العراق ثم سوريا خلال الثورة وهكذا دواليك.
"داعش" في قلب الربيع العربي
لا يستطيع أحد أن ينكر أن السلّم الذي صعدت عليه الدولة العميقة والثورة المضادة للعودة إلى المشهد من جديد كان سلّم محاربة الإرهاب ومقاومة الجماعات المتطرفة. أي أن حجة محاربة الإرهاب كانت السبيل الذي مكّن للانقلاب في مصر وسمح كذلك بعودة حفتر في ليبيا وأعطت الضوء الأخضر لنظام بشار الأسد كي يقتل أكثر من مليون مدني في سوريا ويمسح من على الخارطة مدنا بكاملها.
لم يكن من الممكن إعادة الأنظمة القمعية التي سقطت دون حل سحري يسمح بغطاء دولي لكل الجرائم التي قد ترتكب. كان هذا هو السياق الذي نشأ فيه تنظيم "داعش" الذي نجح في إنقاذ نظام الأسد في سوريا من السقوط كما قدم التنظيم ضوءا أخضر لتدخل كل الجيوش الدولية التي تدعي محاربته والقضاء عليه.
نجح التنظيم إذن في تدمير المسارات الثورية من ناحية أولى وفي تبرير احتلال البلاد من ناحية ثانية، وهو ما يجعل منه تنظيما وظيفيا خُلق لمهمة تاريخية معينة هي وحدها التي تبرر حجم الإنفاق الضخم الذي رُصد له والهالة الإعلامية التي صاحبته.
إن ظهور زعيم التنظيم اليوم يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا لأن المجموعات المقاتلة تحت رايته انحسرت مؤخرا وأعلنت هزيمتها وانسحابها من المدن التي كانت تسيطر عليها، وقد صرح المسؤولون الأمريكيون مؤخرا بأن التنظيم قد انتهى إلى غير رجعة. فما الذي عاد بالرجل اليوم؟
إن في مسارات الثورات العربية الجديدة أو ما سمي بالموجة الثورية الثانية الجواب الشافي عن هذا الظهور المفاجئ لزعيم التنظيم. فمسار الثورة في الجزائر والسودان نجح في إزاحة اثنين من أعمدة النظام الاستبدادي العربي وهو ما ينبئ عن انطلاق الموجة الثورية الثانية التي لم تتأخر كثيرا.
هذا الوضع الجديد هو الذي دفع وكلاء التنظيم إلى إخراجه إلى العلن من جديد حتى ينهض بنفس الوظيفة التي ينهض بها عادة وهي إحلال الفوضى ونشر الاقتتال بواجهة إسلامية برّاقة حتى يتمكن أعداء الثورات من ارتكاب كل الفظاعات بحجة محاربة الإرهاب والتطرف.
انكشاف الدور الوظيفي
لا يعود الانكشاف الكبير لدور هذه المنظمات الإرهابية التي تدعي الجهاد إلى ما ارتكبته من جرائم فحسب، بل يعود كذلك إلى ما حققته لصالح أعداء الثورات من مكاسب. فصورة زعيم التنظيم وهو يقلّب أوراق "ولاية تركيا" المسلمة السنية بين يديه أثارت عاصفة من التعليقات. لماذا يحارب التنظيم تركيا التي دعمت الثورات واستقبلت آلاف اللاجئين وهي الدولة التي يحاربها محور الشر العربي الداعم للانقلابات والفوضى في المنطقة؟ ثم لماذا يدعم البغدادي الحرب القذرة التي يشنها الانقلابي حفتر في ليبيا ضد المدنيين في العاصمة طرابلس؟
لقد صار المشهد اليوم على درجة كبيرة من الوضوح في ما يتعلق بدور هذا التنظيم ونشأته وحركته والهدف الذي خلق من أجله. لم يكن هدف القاعدة ولا هدف جماعة التوحيد والجهاد ولا هدف "داعش" إلا تبرير قمع الشعوب وترهيبها لكي تبقى داخل حظيرة الطغاة. "داعش" وقبلها القاعدة هي الباب الذي يعبر منه المستعمر الجديد إلى أرض العرب وهما الوسيلة المثلى التي يمكن لها أن تُسكت
الرأي العام الدولي الذي تحولت عنده الحرب على الإرهاب إلى حرب مقدسة.
ليست الحرب في الحقيقة حربا "على الإرهاب" بل هي "حرب بالإرهاب" ضد كل محاولة لتحرر الشعوب وخروجها من ربقة الاستبداد بما هو وكيل إقليمي للاستعمار الجديد.
لم يكن هدف القاعدة ولا هدف جماعة التوحيد والجهاد ولا هدف "داعش" إلا تبرير قمع الشعوب وترهيبها
إن هذه المعادلة الجديدة في فهم دور هاته التنظيمات ووظيفتها هو الذي سيسمح للموجات الثورية الجديدة بتفادي الوقوع في ما وقعت فيه غيرها من الثورات السابقة، وهي كذلك المعادلة التي ستشكل لبنة مركزية في وعي الشعوب بدور هاته التنظيمات وبخطورتها على مستقبل الأمة بأسرها، وبأنها آخر من يمكن أن يتحدث عن الجهاد وعن التحرير وعن الدولة.