في وقت يتلهّف رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، بحثا عن أي طوق ينجيه من السقوط في الانتخابات الداخلية، وفي لحظة بائسة تشهد طفرة غير مسبوقة في علاقات "
إسرائيل" بالدول العربية والإسلامية والأفريقية، تأتي زيارة إعلاميين محسوبين على
الثورة المصرية إلى القدس المحتلة لتكسر جدار الممانعة؛ الذي طالما بنته القوة الناعمة العربية للشعوب من خلال مقولة "إذا كان للحكومات ضروراتها، فللشعوب خياراتها".
منذ واحد وأربعين عاما، أي منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد (أيلول/ سبتمبر 1978)، والجهاز الإعلامي النظامي المعادي لا يملّ من تكرار مقولاته التي تبرر وتمرر
التطبيع وقبول القامع المستبد بالتعايش الأعزل معه، فالصراع - بزعمه - نفسي لا حقيقيا، والعقلانية تقتضي التعايش مع القوي، وتفوق الخصم يقضي مسايرته، ومتطلبات الواقعية.. وغيرها من ترّهات تتجاهل الحروب والدماء والشهداء والأراضي المغتصبة، وهي هي نفس المقولات ونفس السمفونية المشروخة التي يعزفها المطبّعون باستمرار لتوقع النخب في الفخ ومعهم العاديون.
لم يكن
الصحفي أبو بكر خلاف، الذي دخل إلى الأراضي المحتلة مؤخرا بختم صهيوني وصوّر نفسه، هو الأول، بل سبقه نفرٌ كثير في الآونة الأحيرة، أحدهم تباهى بزيارته إسرائيل ثلاثا وعشرين مرة، ومنذ شهر تقريبا (منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، من السابع عشر إلى التاسع عشر تحديدا)، طردت "مجلة كل العرب" الصحفي المصري المقيم بفرنسا خالد سعد زغلول، عقب زيارته للكيان المغتصب.
لكن أهمية زيارة "أبي بكر" كونه ضمن العاملين في قنوات محسوبة على الثورة والشرعية، وواقف في خندق الثورة والثوار.
والعجب العجاب أن مبررات كل المطبّعين مكررة تبعث على التثاؤب والملل، كحضور المؤتمرات والعمل الصحفي، وهي ذات الوسائل التي يستحدمها العدو، وهي المؤتمرات العلمية مشتركة تارة، أو الأبحاث الاجتماعية والسياسية المشتركة بين أساتذة يهود وعرب تارة أخرى، أو بناء مؤسسات علمية صهيونية داخل بعض الأقطار العربية تحت غطاء أمريكي أو أوروبى غير مباشر، أو مؤسسات صهيونية مباشرة مثل "المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة".
في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، أصيبت النخب الثقافية بالإحباط وبشعور دفين بفقدان القدرة على الفعل والمواجهة المنظمة للتحديات، فاختلطت المعايير القيمية والسياسية داخل القطر العربي الواحد، والنحبة الواحدة، من جراء تداعيات كامب ديفيد.
وبعد ثمانية أعوام من نزيف الربيع العربي وفشل الحالة المصرية، عادت تلك الروح المنهزمة لتخيم على البعض، ولتصيب نفرا فشلت القوى الثورية في استيعابهم، ونجحت مخابرات الثورة المضادة في استثمارهم.
إن العقل الثوري في خطر عظيم؛ كون أولي العقد والربط منه بحاربون طواحين الهواء بلا رؤية ولا بصيرة، ويهدرون الطاقات فتهرب منهم ويجلدون ذواتهم.
لم ينتبه هؤلاء جميعا، قاصيهم ودانيهم، إلى دقة اللحظة الراهنة التي تعيشها الثورة وخطورتها، فقد تواطأت دول الثورة المضادة لتحكم قبضتها على الربيع العربي وعلى القضية الفلسطينية في لحظة واحدة. فترامب اعترف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها، مختارا ذكرى النكبة، وطوى قضية اللاجئين، وشطب حق العودة، وحاصر وكالة الغوث، وأوقف تمويل السلطة (إلا الأجهزة الأمنية لدورها في التعاون مع سلطات الاحتلال ووكالة المخابرات الأمريكية)، ودفع عواصم عربية بقيادة السعودية والإمارات لتحذو حذوه بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، والتطبيع الثقافي والفني والعلمي مع إسرائيل.. في وقت لم يوفر عقل الثورة بيئة صالحة للإعلاميين، واكتفى بممارسة عنصرية بغيضة رمت البعض في حضن العدو.