هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قد يكون من المشروع عند تتبع المسارات المختلفة لبلدان الربيع أن نتحدث عن "الاستثناء التونسي"، فتونس لم تعرف انقلابا عسكريا كالذي عرفته مصر، ولم تكتو بنيران الحرب الأهلية كما هو شأن ليبيا أو اليمن، ولم يستطع نظامها أن يستمر انطلاقا من تحالفات دولية وإقليمية كما هو حال النظام السوري. ولكننا أيضا قد لا نحتاج إلى تبني نظرية "المؤامرة الكونية" أو مفهوم "الربيع العبري" كي نتساءل عن معنى هذا الاستثناء وطرائق اشتغاله ومحصوله بعد سبع سنوات من ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر- 14 كانون الثاني/ يناير المجيدة.
وللإجابة الأولية عن هذه القضايا، يمكننا أن ننطلق من سؤال محوري نصوغه على الشكل التالي: هل "الاستثناء التونسي" هو مسار حقيقي للانتقال الديمقراطي، أم إنه تعبير مجازي عن حقيقة سلطوية مؤداها استمرارية المنظومة القديمة في الحكم (بخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى) بطريقة "ناعمة" و"ديمقراطية"، بعد أن استحال عليها (لأسباب موضوعية) أن تعيد مواقعها ومصالحها بالقوة العارية (أي بالانقلاب).
منذ الأيام الأولى للثورة، كان من الواضح أنّ مساراتها ستتحدد بصورة كبيرة بطبيعة العلاقة التي ستجمع بين المستفيدين منها (وهم أساسا من أصحاب السرديات الكبرى، خاصة الإسلاميين واليساريين)، كما كان من الواضح أيضا أن الخاسر الأكبر من الثورة (أي التجمعيين والشبكات الجهوية والزبونية المرتبطة بهم) لن يقبل بالأمر الواقع، وسيحاول اللعب على التناقضات بين الإسلاميين والعلمانيين (في المستوى المحلي)، وعلى القوى الإقليمية والدولية التي تتوجس خيفة من النموذج الثوري التونسي، تلك القوى التي ستسعى في الحد الأقصى إلى دعم سيناريو انقلابي صريح، ولكنها ستسعى (في الحد الأدنى) إلى إضعاف مسار الانتقال الديمقراطي بدعم التناقضات الأيديولوجية، وفسح المجال أمام ممثلي المنظومة القديمة للعودة إلى المشهد العام، باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، ومن سدنة "النمط المجتمع التونسي" المهدّد بحركة النهضة وبالإسلاميين عموما.
استمرارية المنظومة القديمة في الحكم (بخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى) بطريقة "ناعمة" و"ديمقراطية"، بعد أن استحال عليها (لأسباب موضوعية) أن تعيد مواقعها ومصالحها بالقوة العارية (أي بالانقلاب)
لو أردنا اعتماد الاستعارة، لقلنا إن "كعب أخيل" الثورة التونسية كانت الصراعات الهوياتية والثقافية التي طبعت الثورة التونسية منذ أيامها الأولى. ففي ظل احتدام الصراعات الدائرة بين الإسلاميين واليساريين، كان من المستحيل مجرد التفكير في أن تجمع بينهما "كتلة تاريخية" بالمفهوم الغرامشي للكلمة. وبدل تلك "الكتلة التاريخية" المهدرة، كانت الصراعات الهوياتية تدفع نحو تشكيل "كتلتين أيديولوجيتين" لا وظيفيتين من منظور استحقاقات الثورة: كتلة أيديولوجية أولى شكّلها التقارب "المذهبي" بين السلفية وحركة النهضة أساسا (وهو تقارب تحكمه وحدة الخلفية المذهبية والمظلومية والاستهداف الممنهج من "العائلة الديمقراطية")، وكتلة ثانية شكّلها التقارب "البراغماتي" بين القوى اليسارية وورثة التجمع، بقيادة حركة نداء تونس. وقد نتج عن الكتلة الأيديولوجية الأولى نوع من التهاون النهضوي بالخطر السلفي على مقومات العيش المشترك بين التونسيين، وأفرزت الكتلة الأيديولوجية الثانية عودة التجمعيين إلى واجهة المشهد السياسي، باعتبارهم الطرف الأقوى والأقدار(ماديا ومؤسساتيا ورمزيا من خلال السردية البورقيبية) على حماية "النمط المجتمعي التونسي".
في هذه السياقات، كنا في الظاهر أمام صراع بين مشروعين مجتمعيين متناقضين، ولكننا كنا في الحقيقة أمام خطابين صداميين يخدمان المشروع المجتمعي القائم بصورة مقصودة أو غير مقصودة. فالنهضة التي أرادت أن تظهر بمظهر الشريك للقوى العلمانية، كان قد أضعفها سلوكها السلبي أمام السلفية وتهديداتهم المتتالية للسلم الأهلي ولنمط حياة المواطنين، وهو ما جعلها بالتالي في موضع الاستهداف من كافة خصومها. فحركة النهضة قد أعطت خصومها (بل أعداءها الذين يتمثلون الصراع معها باعتباره صراعا وجوديا) الحجج اللازمة لاتهامها بالمسؤولية عن جميع انحرافات الثورة ومفاعليها الكارثية، خاصة تردي الأوضاع الأمنية (وهي مسؤولية تتراوح عند هؤلاء بين المسؤولية القانونية والمسؤولية السياسية). أمّا القوى اليسارية، فإنها بتغليبها منطق الصراع الثقافي وباستصحابها لثنائية التناقض الرئيس (مع الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية)، قد وجدت نفسها تُطبّع مع ورثة التجمع وتعتبرهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، وهو خيار جعل صراع القوى اليسارية ينحرف عن مدارات الصراع الطبقي إلى مدار الصراع الهوياتي، كما جعل تلك القوى تضع رساميلها الرمزية وملحقاتها النقابية والجمعياتية والإعلامية في خدمة المنظومة القديمة، ولو على حساب الثورة.
كنا في الظاهر أمام صراع بين مشروعين مجتمعيين متناقضين، ولكننا كنا في الحقيقة أمام خطابين صداميين يخدمان المشروع المجتمعي القائم بصورة مقصودة أو غير مقصودة
لم يكن الصراع السياسي والثقافي والإعلامي والمدني والحقوقي بين الإسلاميين والعلمانيين في جوهره صراعا بين مشروعين مجتمعيّين
هذه الوقائع لا تعني بالضرورة شيطنة "الاستثناء التونسي"، بل كل ما تعنيه هو التعامل النقدي معه باعتباره أداة وظفتها السلطة لتكريس خياراتها ومصالح من يقف وراءها