هل تطول سنوات ضياع العرب؟

أقسى مراحل حياة الأمم، تلك المرحلة التي لا لون ولا طعم لها، وهي سنوات تعيشها الأمم بانتظار التغيير، ولا يكون للحاضر فيها أي وظيفة ولا قيمة بالتالي. أما المستقبل فصورته غير واضحة المعالم، ومشوشة بدرجة كبيرة، والأصعب من ذلك عدم اليقين بشأن ولادته.

كان أنطونيو غرامشي، الفيلسوف الإيطالي، خير من وصف هذه الوضعية، عندما قال: "تتجلى الأزمة تحديدا في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأعراض المرضية"، يشبه هذا الوصف، بدرجة كبيرة، أيام العرب الراهنة، بعد 2011، بعد أن انعطف بهم التاريخ، لكن حركته تباطأت، لدرجة اعتقد معها الكثير أنها توقفت.

المستقبل صورته غير واضحة المعالم، ومشوشة بدرجة كبيرة، والأصعب من ذلك عدم اليقين بشأن ولادته

وإذا كانت هناك قناعة بأن التاريخ لا يتوقف، وهو بمنزلة طاحونة تهرف كل ما يلقى بها، فهل ما نحن بصدده إعادة إنتاج الأوضاع القديمة عبر تغليفها بأطر وهياكل جديدة، وتقديمها كحلول ومخارج للأزمة التي تربض على صدر العالم العربي، واعتبار ذلك أفضل الممكن؟

نجت جميع الأنظمة السياسية في العالم العربي من السقوط المتتالي (الدومينو)، نتيجة إخراج كرت الإرهاب من قبعاتها ووضعه على الطاولة في الوقت المناسب. إلى هنا يمكن القول إننا أمام لعبة سياسية انتهى شوطها الأول على هذه الشاكلة، لكن علينا أن نتذكر أيضا أن الكروت تحترق وتنتهي صلاحيتها، ومن غير الممكن استخدامها دائما وفي كل الحالات.

نجت جميع الأنظمة السياسية في العالم العربي من السقوط المتتالي (الدومينو)، نتيجة إخراج كرت الإرهاب من قبعاتها

وما تفعله الأنظمة العربية اليوم، لم يعد ينطبق عليه لا لعبة سياسية ولا عملية سياسية. إنها لحظات الانتشاء بالفوز، التي من المفترض أن تكون عابرة لا سياسة دائمة، فلا يمكن لهذه الأنظمة مداواة مجتمعاتها المثخنة بالجراح، ولا تلبية استحقاقاتها، ولا العبور بها إلى مرحلة الأمان؛ عبر احتفالية دائمة ومستمرة بنصرها المؤزر على شعوبها، وتعطيل كل مناحي الحياة من تنمية وتطور وتأمين خدمات اجتماعية وتعليمية، وخلق فرص عمل لعشرات ومئات الآلاف من الشباب الداخلين لسوق العمل، وكذلك تطوير للمجال السياسي بما يضمن نسبة أعلى من المشاركة، وقدرا أكبر من الشفافية والديمقراطية. ألم تكن هذه محركات الأزمة/ الأزمات التي ضربت العالم العربي؟

لكن أليست هذه الحزمة من الطلبات ثقيلة على كاهل هذه الأنظمة المدلّلة، التي اعتادت أن تأخذ دون أن تعطي، واعتادت أن تطلب من مجتمعاتها فيجاب طلبها، لا أن يطلب منها أحد ويحدد لها أطرا زمنية لإنجاز مهام معينة؟! ألم تخض هذه الأنظمة كل جولات الصراع العنيفة لتتخلص من أولئك المشاغبين، المندسين والخونة والمتخابرين مع الخارج، الذين طلبوا وطلبوا؟ ثم ألا ترون أن هذه الأنظمة انتصرت، ما يعني أنها لم تعد مطالبة بشيء، ولا يحق لأحد مطالبتها بأي شيء من هنا إلى قرن من الزمان؟

نعم، هذا هو شكل الزمن العربي القادم مع هذه الأنظمة. باختصار هي لن تحرق نفسها لتصنع "من الزفت لفتا". هذا ما كانت تعرفه قبل الأزمة، وهذا ما زالت تعرفه بعد الأزمة. هذه الأنظمة لا تعرف التطوير والتغيير، لا في زمن الهناء ولا تحت الضغط والمطالب، وهي لا تعرف من أساليب الحكم غير ما تمارسه وتقوم به. هذه الأنظمة، على رأي مسلسل باب الحارة الشهير، "شكلين ما بتحكي"، ومن يطالبها بغير ذلك فليجهز نفسه إما للسجن أو النفي أو القتل؛ لأنه بذلك يتقصّد إحراجها وإثارة البلبلة والفوضى ضدها.

ألا ترون أن هذه الأنظمة انتصرت، ما يعني أنها لم تعد مطالبة بشيء، ولا يحق لأحد مطالبتها بأي شيء من هنا إلى قرن من الزمان؟

وعلى أساس ذلك، فإن هذه الأنظمة عمليا خرجت تماما من العملية السياسي، وإن كانت أدواتها لا زالت تملك القدرة على البطش، ذلك أن أي عملية سياسية في أي مجتمع، حتى لو كان بدائيا رعويا، لا بد أن تقوم ضمن معادلة مطالب يقدمها الجمهور وقررات على شكل استجابات لهذه المطالب من قبل السلطة، ولا بد أن يكون هناك درجة كافية من الرضاء على أداء هذه السلطة، حتى أزعر الحارة يراعي هذه المعادلة ويخضع لها.

وتقول الحكمة التقليدية، من جرب المجرب عقله مخرب. والحقيقة أن الشعوب العربية تعرف أن أنظمتها وصلت إلى نهاية مشوارها، بل تجاوزت زمن انتهائها بمسافة، ولم تعد تنتظر منها شيئا، فقط تنتظر ولادة الخلف (الجديد) الذي قد يأتي معه أمل، بل لا بد أن يأتي بذلك، ولكن إلى متى ستنتظر الشعوب؟ الظن أن انتظارها لن يطول كثيرا.