تكاثرت كلمات العلماء السابقين في مدح التصوف
والإشادة به باعتباره "العلم المظهر لحقائق الإيمان، والمجلي للتزكية الواردة
في القرآن، والمحقق لمقام الإحسان الوارد في الحديث النبوي، والداعي إلى تحلية
الباطن بالفضائل، وتخليته عن كل القبائح والرذائل".
لكن وبحسب باحثين وشيوخ طرق صوفية فإن التصوف
المعاصر "ابتعد في كثير من تجلياته المعاصرة عن جوهر التصوف، وغلبت عليه
الشكليات والمظاهر، وشاعت فيه الممارسات الطقوسية، مع دخول أدعياء كثر شوهوا صورة
التصوف النقية، وكدروا صفاء مشربه ومسلكه".
انحرافات كثيرة
ووفقا لشيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية
الهاشمية في الأردن، إسماعيل الكردي فإن "مظاهر وصور
الانحرافات انتشرت في
أوساط المتصوفة أكثر بكثير من وجوه الاستقامة والسلوك القويم على المنهج المشرق
المعبر عن حقائق الدين وأخلاقياته وسلوكياته".
وأوضح الكردي أن "التصوف منهج سلوك
وتربية، وهو مقيد بعلم الشريعة وأحكامها، وهو العلم الذي اهتم شيوخه وأئمته بتزكية
النفوس وتطهير القلوب، والاشتغال بالأعمال والأذكار والأوراد، والاستقامة على طريق
الحق، والتخلق بأخلاق الدين".
ولفت الكردي في حديثه لـ"
عربي21" إلى
أنه ومن خلال مشاركته في مؤتمرات كثيرة عُقدت داخل الأردن وخارجه لبحث كثير من
القضايا المتعلقة بالتصوف، لمس أن ثمة حاجة ماسة وضرورية لإعادة ترتيب الأوراق،
ومراجعة مسار التصوف المعاصر، وتنقيته مما علق به من شوائب وممارسات غريبة شوهت
صورته، ونفرت عامة المسلمين منه.
وأضاف: "أكبر تحدٍ يواجه الطرق
الصوفية
الحقيقية وشيوخها المرشدين، كثرة الأدعياء والدخلاء الذين دخلوا على التصوف من غير
بابه، فأساءوا إليه أيما إساءة، وأقحموا عليه ممارسات ناشزة وغريبة، ومارسوا باسمه
أعمالا قبيحة ومرذولة".
وتابع بأن "بعض الذين ينتسبون إلى التصوف
اليوم لا يبالون في مجالس الذكر والحضرات من اختلاط الرجال بالنساء، كالطريقة
اليشرطية، وبعضهم يكفرون ابن تيمية وبعض اتجاهات المسلمين الأخرى كما تفعل جماعة
الأحباش وهم يدعون أنهم شافعية أشعرية صوفية".. متسائلا: "متى كان المتصوفة يكفرون المسلمين بهذه
الشدة والغلظة والقسوة؟".
وانتقد الكردي بشدة تشبث بعض الطرق الصوفية
المعاصرة كثيرا بالرؤى والمنامات، وبالتالي بناء مواقف عليها، والاستناد إليها في
التفسير والتأويل، داعيا إلى التعامل مع الرؤى بميزان الشرع والانضباط بأحكامه
المنصوص عليها.
واستدرك: "لكن مع شيوع تلك الانحرافات، وتفشي
ظاهرة الدخلاء على التصوف، فما زال للتصوف الحقيقي طرقه وشيوخه المرشدون، ومن بحث
عنهم وجدهم، وهم بحمد الله مؤهلون لتربية أتباعهم، ونشر علوم
التزكية والإحسان في
الأمة، كل على قدره واستطاعته".
التصوف الطريق الأمثل للتزكية
من جهته أوضح الأكاديمي السوري، المتخصص في
الحديث النبوي وعلومه، الدكتور عداب الحمش أن "التصوف في الإسلام هو القيام
لله تعالى في مرتبة الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
كما في الحديث الصحيح، فمقام الإحسان هو ذاته مقام تزكية الأنفس، وهو ذاته العمل
الروحي الإسلامي".
وأردف قائلا لـ"
عربي21": "وهو
تمثّل مرتبتي الإسلام والإيمان، وتطبيقهما ظاهرا وباطنا، بمزيد من الخشية المتضمنة
للمراقبة، والالتزام المصحوب بالرجاء، والحب الذي يتحقق بمعنى استحقاق المولى
تعالى وحده أشكال وألوان العبودية المشروعة، مع الارتقاء فوق قانون الالتزام، إلى
قانون الاستحقاق وحب الكمالات الربانية".
وتابع الحمش: "هذا هو التصوف المنضبط
بدلالات كتاب الله تعالى، وصحيح الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم،
ومقاصد الشريعة ومكارمها، مع مراعاة الاجتهاد الاستصحابي في كل مسكوت عنه.
وتحدث الحمش عن تجربته الخاصة في التصوف عندما
صاحب شيخ الطريقة التيجانية، الشيخ محمد الحافظ التجاني، والذي أخبره بأن
"طريقتهم في الزاوية تقوم على ربط عوام المسلمين بالله تعالى وبدينهم، حتى لا
يتفلتوا من الدين، ولا تفسد أخلاقهم"
حاثّا له على "ملازمة الأوراد مهما كانت قليلة، والاستقامة على طريق العلم
فهو ما سيوصله إلى الله تعالى" وفق قوله.
وردا على سؤال حول أهلية التصوف المعاصر للقيام
بالتزكية والتربية، أكدّ الحمش أن "التصوف لا يزال هو الطريق الأمثل للتزكية
والترقية، بما فيه من جلسات ذكر، وأخلاق اجتماعية، وأوراد منتظمة، وتلاوة قرآن،
ودروس تثقيفية تتناسب مع العوام، وبهذا يرتقي العوام بجناحي الروح والقلب، ويُخفق
العلماء بتمسكهم بالعقل فقط، فيكونون رأس طائر من دون جناحين".
مراجعة المسار
ولفت الحمش إلى أن "التصوف الذي يقدم إلى
العامة؛ هو التصوف الابتدائي العام، وفي مدارس التصوف العلمية تجد العلم والسلوك
والأخلاق والإيمان والتآخي والحب والإيثار، كما تجد التجرد التام عن الدنيا،
والانعتاق عن إسارها إلى الحياة الروحية السامية مع الحبيب المحبوب رب العالمين،
لكن بنسب تتفاوت على قدر همة السالكين وقيامهم بوظائفهم، وتوفيق الله تعالى
لهم".
بدوره قال الباحث المغربي محمد بولعيش اللنجري
لـ"
عربي21": "كل التساؤلات المطروحة حول أهلية التصوف للقيام
بوظيفة التزكية والتربية تستحق الاهتمام والبحث، وهي تشخص الواقع السلوكي والتربوي
لكثير من الواقع الاجتماعي المعاصر، خاصة ما يتعلق منها بالطرق الصوفية ومشايخها
وزواياها ومريديها".
وأشار إلى أن البحث عن حلول لهذه القضايا،
يحتاج إلى تفكير عميق، وإعادة نظر لتقويم مسار التربية الروحية المعاصرة حتى
تواكب روح الحداثة والتطور".
يُشار في هذا السياق وبحسب مراقبين إلى أن ثمة
توجهات سياسية تدعو إلى إنعاش الطرق الصوفية ودعمها وإفساح المجال لها، لتحل محل
الحركات الإسلامية السياسية والحركية، ولتملأ الفراغ المحتمل نتيجة محاصرة تلك
الحركات والتضييق عليها، ما يضع تلك الطرق وشيوخها أمام تحديات استثمار اللحظة
الراهنة، وفاعلية الحضور والتأثير.