كتاب عربي 21

الرأي ما رأى الرئيس!

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)

قبل سنوات طويلة اجتمعنا على نيل القاهرة لتأسيس صحيفة جديدة، تبارى الحضور في تقديم أفكار مبتكرة، بغرض التميز وتجنب التشابه مع الصحف المنافسة، واقترح أحدهم فكرة للصفحة الأخيرة بحيث تصبح "صفحة أولى استشرافية"، ودار الحوار حول صعوبة الفكرة وكيفية معالجتها ومن يستطيع كتابتها؟ ووصل العصف الذهني إلى ضرورة وجود "مانشيت" يتصدر الصفحة الأخيرة عن حدث لم يحدث لكنه سيحدث بعد أيام!! تصور البعض أن الفكرة ساخرة وبدأ النقاش يأخذ طابع الخفة والتندر، امتعض الصديق الذي اقترح الفكرة.. وهو صانع صحف كبير وموهوب درس الإعلام في جامعة دولية مرموقة ولم يقصر جهده على الأروقة الأكاديمية، بل انخرط في مهنة الصحف وامتلك خبرة وحساسية كبيرة في صناعتها وإدارتها وتسويقها، وبعد فترة من الصمت ومتابعة الآراء المتفكهة تذمر الصديق العزيز من الخفة التي بدأت تطغى على النقاش، وأكد أنه يطرح فكرة جادة ومهمة، واستعاد نقاشا قديما بيني وبينه عن "ماكينات صناعة الكلام"، واستشهد بمعلومات تفصيلية من كتاب "إدارة العقول لأستاذ علوم الاتصال الأمريكي هربرت شيللر، موضحا أن من يتحكم في الكلام يتحكم في المجتمعات، واقترح أن أتولى كتابة المانشيت الرئيسي مع تفاصيل وافية مع عناوين فرعية لأحداث أخرى أقل أهمية لكنها ستحدث أيضاً، وذلك من خلال مقال مستقبلي بعنوان "مصر الأسبوع المقبل"، وسأل الزملاء: إزاي ده يحصل؟

(2)
نظر إليّ الصديق وهو يبتسم ابتسامة أعرف معناها جيداً بحكم عملنا وصداقتنا، والابتسامة تعني: رد أنت.

فقلت: الدكتور يقصد أن نناقش "سوق الكلام" في مصر، وأعتقد أن عملنا في دواليب الصحف الأسبوعية ساعد على امتلاك حساسية خاصة بالأحداث التي يمكن أن تشغل الناس وتجذبهم للكلام والنقاش؛ في وقت الصدور الذي يتأخر أحيانا أكثر من 24 ساعة عن وقت التحرير.

قال زميل: هذا كلام نظري لا يصلح للصحافة، إلا إذا كان على سبيل الفكاهة والسخرية، فكيف سنجعل من المستقبل مادة صحفية جادة كما تقولان؟

قلت: هناك مداخل كثيرة لذلك، ونحن نمارسها بالفعل، فمثلاً لدينا جميعا "أجندة" لأكثر من نصف أحداث العدد المقبل من أي صحيفة، فنحن نعرف المواسم والأعياد المهمة، وجدول زيارات ومؤتمرات رئيس الدولة والمسؤولين، والمهرجانات والندوات، ومواعيد جلسات القضايا المهمة في المحاكم، ومباريات الكرة الجماهيرية.. إلخ.

قال آخر: لو تصورنا أننا نجهز لإصدار الصحيفة اليوم، فماذا ستتناول في مانشيتات الأسبوع المقبل؟

قلت: الضجة التي ستثار عن زيارة "كارلا بروني" بصحبة الرئيس الفرنسي ساركوزي، وكيف ستتعامل الصحف مع اللقب الذي يسبق اسمها: صديقته؟ أم خطيبته؟ أم عشيقته؟ وكيف ستكون التعليقات الرسمية وآراء علماء الدين والتغطيات التلفزيونية والصحفية. طبعا لم تكن مصر في ذلك الحين تستيقظ وتنام على "السوشيال ميديا"، لكن الكلام كان يدور على المقاهي والنواصي وداخل البيوت، كما كانت قلة قليلة عرفت طريقها إلى المنتديات الالكترونية، وبشائر "البلوغرز" بدأت التدوين في نطاق نخبوي ضيق.

وشرحت فكرة تخيل "سوق الكلام" الذي سيدور في مصر من خلال نشر صور ساركوزي في الأقصر، والدوران حول تابو الجنس، واستعراض تاريخ كارلا بروني كعارضة أزياء وفتاة غلاف ثم صديقة لرئيس فرنسا، وكيف تستقبل دولة مسلمة رجلا بصحبة امرأة ليست زوجته (تزوجها بعد ذلك)؟ كما اخترت العناوين الفرعية عن مشاركة مصر في بطولة أمم أفريقيا ومشاكل اللاعبين، مع اهتمام الصحف الحكومية بمتابعة جولة مبارك في اليونان وعدد من الدول، والرد على تصريحات تسيبي ليفني التي تطاولت فيها على مصر ورئيسها، بحيث يشهد الأسبوع حملة لرد اعتبار الرئيس؛ بعد أن أدلى بحوار لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيليلة أبدى فيه غضبه من تصريحات ليفني عن تقصير مصر في منع تهريب الأسلحة إلى حماس عبر الأنفاق. ولما كنا في مثل هذه الايام قبل 11 عاما فقد أشرت أيضا إلى  مانشيتات صحف الإثارة التي تتحدث عن أخطاء في يوم ميلاد المسيح، والضجة التقليدية حول بدعة الاحتفال بالكريسماس، وما إلى ذلك من موضوعات.

(3)
لماذا أتذكر هذه الحكاية اليوم؟

يعرف صناع الصحف أن هناك طريقة منهجية في تنظيم المحتوى نسميها "إطار المضمون"، أو "جدول أولويات القضايا"، بمعنى أن كل صحيفة تهتم بالأخبار والأفكار التي تتلاءم مع مموليها ثم مع جمهورها، باعتباره المستهدف بالإقناع، وبالتالي فإن قدرة أي صحافة على النجاح تقاس بمدى إقناعها لجمهورها بتبني القضايا بنفس الترتيب الذي تسعى لفرضه؛ ليصبح هو "الحدث" ومحور الاهتمام والجدال والجذب والمد بين الناس. فإذا كان المانشيت "فستان رانيا يوسف" والتقط الناس الخيط، فهذا يعني أن الصحيفة نجحت، ونفس الحال إذا كان المانشيت من أي نوع مثل: عبد الناصر مات مسموماً، أو حماس تتآمر على مصر، أو لماذا يحلق محمد صلاح شعر صدره؟ أو ادفعوا لتمويل قناة السويس، وكذلك إذا كان: "مصر مش طابونة" أو "ما يصحش كده"، أو "شوف بطنك قد إيه؟" فإذا التقطنا المانشيت وانهمكنا في الجدال، فهذا يعني أن "صانع الكلام" نجح في قيادة ألسنتنا والتحكم في عقولنا وفي سلوكنا وفي وقتنا، وتمكن من طرد القضايا التي يريد صرف نظرنا عنها، وتحضير قضايا "كلامية" للاستهلاك اليومي في طاحونة "ضجيج بلا طحين".

(4)
لا أريد أن أمنع أحداً من الكلام في ما يرغب، لكن الكلام كاشف للأفراد وللمجتمعات. وقديما قال الفيلسوف: يا هذا تكلم كي أراك، وعندما ينتشر "الرويبضة" ويتحدث كثيراً في شأن العامة، فإنه يُغرق الجد في مستنقعات الهزل، ويقلب جدول الأولويات، ويروج للسطحية على حساب العمق والفهم، فيكره الناس العمل والتأمل والعمق والفكر، ويفضلون الخفة والسطحية والهزل، وانتظار الكلمات المثيرة لتحويلها إلى "قافية" ومضاربة في "الألش"، لنتسلى بالمصائب بدلا من الاجتهاد والاتحاد لدفعها.

وأخشى أن نكون قد تحولنا إلى زبائن نستهلك ما ينتجه "صناع الكلام". ولا شك في أن السيسي من أباطرة صناعة الكلام، سواء بقصد أو ببلاهة. وأعتقد أن اهتمامه بالإعلام وهوسه بالسيطرة على كل منافذ الكلام؛ خير دليل على إدراكه لنوعية الكلام الذي يريده أن ينتشر، والكلام الذي يبادر سريعا بحجبه. فالسيسي الآن هو المتحكم في بورصة الكلام، حيث تنتعش البورصة بعد كل حديث له، ويدور الناس حول أتفه السقطات والكلمات التي تخرج منه. ولا يقتصر هذا على دردشات المقاهي وتسريات مواقع التواصل، لكنه وصل إلى الصحف ووسائل الإعلام ومقالات الباحثين والكتاب، وكأنها صارت مجرد أصداء معاكسة ومتلونة لكلام يجب إهماله من شخص يجب إهماله؛ لأن مشكلة السيسي ليست في اللغة، لكن في السياسات. فلو افترضنا أنه كان فصيحا وبلاغياً ويجيد الخطابة، هل كنا نقبله ولا نجد ما ننقده ونسخر منه؟!.. نحن نسخر من السيسي فوق الصفحات البيضاء، وهو يلهو بنا ويسخر في أيامه السوداء. إنه لا يتألم ولا يضيره ما نستهلك فيه طاقتنا، بينما نحن نعاني ونتألم من قراراته وسياساته، وليس من قفشاته اللغوية. وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى توازن بحيث تتحول السخرية إلى نكتة في حديث، ولا يتحول الحديث إلى نكتة وفقط.

(5)
الخلاصة:

علينا أن نهتم بصناعة "إطار قضايا" يخصنا، ولا نستهلك القضايا بالترتيب الذي يفرضه علينا نظام الإلهاء والدواهي، ولا نسير في ركاب كلماته البلهاء، حتى ولو بالضد؛ لأن النظام عندما يهتم بصراع "ساديو ماني" مع "محمد صلاح" أو تناقض "مؤخرة رانيا" مع "مقدمة ابن خلدون"، فإنه لا يسعى لإقناعك بالانحياز مع طرف ضد طرف؛ لأنه باختصار يلعب بكل الأطراف، ويسعى لصرف نظرك عن الأسعار، والقمع، والسجناء، والمختفين قسريا، وصفقة الغاز، وقضية ريجيني، و"اغتصاب الدستور".

[email protected]

التعليقات (2)
الصعيدي المصري
الخميس، 20-12-2018 06:07 م
اقتراح للاستاذ جمال الجمل - اتمنى اواخذ به * يقينا - يطلع الاستاذ جمال الجمل على تعليقات متابعيه واتمنى ان تصادف وقرأ تعليقي هذا ان يضعه في الحسبان معروف عن الاستاذ الجمل اطلاعه الواسع في التاريخ واجزم بأنه قاريء عتيد لادبيات وروايات ذات المضامين الانسانية والفلسفية وهذا واضح من استشهاده الكثيف ضمن اسطر مقالاته الحديث هنا عن تجربته الشخصية وهل يملك استاذنا الجرأة الكافية لكتابة نقد ذاتي يتضمن ما يعتقده في اغوار نفسه البشرية وكيف تغير موقفه من الانقلاب العسكري الذي لم يكن هو نفسه يطلق عليه انقلابا ( ولا زال ) كقاريء جيد لمقالات استاذنا الجمل لا استطيع فهم ما طرأ على قناعاته بشأن الاحداث قبيل واثناء وبعيد الانقلاب العسكري السؤال هو : كيف لشخص ما يمتلك من الثقافة والاطلاع مالا يمتلكه البسطاء أمثالنا ان يفتقر الى الفراسة التي قد يتمتع اخرون اقل ثقافة واطلاعا هذه الفراسة التي لم تسعف استاذنا المحترم في ما ستئول اليه الاوضاع بعد سنوات ستة من الانقلاب العسكري بينما استطاع اخرون من العامة ان يتنبئوا بما ستئول اليه الامور هل هو الهوى ؟؟ هل هناك تفسيرات مقنعة لدى استاذنا في موضوع ذي صلة اتذكر ما كتبه الاديب والكاتب العظيم توفيق الحكيم في كتابه ( عودة الوعي ) وعن تجربته وقناعاته كمثقف وكاتب وصحفي اثناء الحكم الديكتاتوري الناصري .. ةكيف هو نفسه كان احد تروس تضليل اعلامي بقصد او بغير قصد .. واعترافه بعد ان انقشعت سحابة الغمة بأنه كان من ضمن من تم تضليلهم وان شارك هو نفسه في ذات التضليل مثيرة للتعجب والاندهاش هي اغوار النفس البشرية