تعيش جميع البلدان العربية شكل من أشكال
الأزمات، وفي بعضها تكون الأزمات مركبة، وفي بعضها الآخر متأزمة، لدرجة يمكن معها إطلاق صفة بلدان الأزمات على خريطة
العالم العربي، كما يمكن وصف الأنظمة الحاكمة بالأنظمة المأزومة.
ليس من الصعب اكتشاف هذه الحقيقة، ففي التقارير التي تصدرها المنظمات الدولية حول أكثر البلدان فساداً، وأقل البلدان شفافية، وأكثر البلدان جوعاً، وأقل البلدان استهلاكاً للماء والكهرباء، وأسوأ المدن معيشة في العالم، وأكثر البلدان التي يموت فيها الصحفيون، وأسوأ جواز سفر في العالم... وغيرها العشرات من المؤشرات الفاضحة، تجد الدول العربية حاضرة وتحقّق أرقاماً قياسية على هذه الصعد.
واللافت أن نمط الأزمات التي تعيشها البلدان العربية تخطاها العالم، أو غالبية دوله العظمى منذ زمن، باستثناء بعض دول في أفريقيا، وربما في أمريكا اللاتينية، التي رغم ذلك تتفوق على البلدان العربية في بعض الأشياء، كالرياضة مثلاً. ويمكن تشبيه هذه الأزمات التي لا يزال يرزح تحتها العالم العربي؛ بأمراض كالطاعون والجدري، حيث تخلص العالم منذ أزمان بعيدة من هذه الأمراض، وبالتالي فإن استمرار وجودها في مناطق معينة من العالم أمر خطير ونافر.
وفي هذه الحالة يبدو من الصعب التنبؤ بمستقبل هذه البلدان لأكثر من أيام أو شهور بالكثير لأنها قابلة للانفجار والتغير بأسرع مما نتوقع، كما أن الثورات فيها لا تعطي إنذارات قبل وقت طويل، بل تحصل بشكل مفاجئ. وكلنا يتذكر أنه في عشية انطلاق
الربيع العربي؛ كانت كل التقديرات والتنبؤات الخاصة بالعالم العربي تؤكد على استمرار وضعية السكينة والاستقرار، فلا شيء في سماء المنطقة ينذر بحصول تطورات غير عادية.
هذا قبل الربيع العربي، اليوم تبدو الأمور أخطر بكثير؛ لأن الأوضاع في غالبية الدول العربية ازدادت سوءاً، حتى تلك التي لم يزرها الربيع، كما أن الشعوب العربية أصبحت أكثر حساسية تجاه ارتكابات وأخطاء الأنظمة الحاكمة، ولم يعد مقبولا ما كان يعتبره الناس عاديا وطبيعيا قبل 2010، وأي حادثة مهما كبرت أو صغرت تضطر هذه الأنظمة إلى بذل مجهودات كبيرة للتخلص من تداعياتها واحتمالاتها السيئة.
رأينا قبل عامين حادثة بائع السمك في المغرب وإلى أي مدى كادت أن تخلخل الأوضاع وكيف شكلت أزمة خطيرة للحكم، كما عشنا يوميات انتفاضة البصرة نتيجة نقص الماء والكهرباء، وقبلها تظاهرات الأردن ضد قانون ضريبة الدخل و"تطيير" حكومة الملقي، وكيف أثرت أزمة قتل جمال الخاشقجي داخلياً وخارجياً على السعودية.. وفي تونس تكاد الأمور لا تهدأ، وفي مصر ثمة جمر يغلي تحت الرماد، ولا أحد يستطيع التقدير ماذا سيحصل غداً. وفي أغلب البلدان العربية ثمّة بوعزيزي جاهز ليحرق نفسه ويشعل النار في عروش أنظمة الحكم الهشّة.
العقود والسنوات الطويلة التي حكمت خلالها أنظمة الحكم العربي شعوبها، في كفة، وكل يوم بعد الربيع في كفة، وبالتالي فإن عملية قياس الزمن الحالي بالفترة السابقة، وكيف أخضعت سياسات الحديد والنار الشعوب العربية؛ أمر مخادع ويجب ألا تطمئن له الأنظمة العربية.
لكن بلا شك، الأنظمة الحاكمة ليست بهذه السذاجة، وهي بكل تأكيد تعلمت درساً لن تنساه، وملخص هذا الدرس، إن جاز القول، كلمتان: لا ثقة بالشعوب، وهي لديها استعداد دائم للغدر بأنظمة الحكم والإطاحة بها، بل وممارسة أبشع أنواع الانتقام منها. وتجربة القذافي شاهدة، فلن يشفع للانظمة الحاكمة كل جبروتها وقوتها وصلافتها التي أظهرتها في الماضي، فهذه لا تعدو أكثر من قشرة تتكسّر عند أول صرخة تنادي بإسقاط النظام.
بناء عليه، وفي محاولة لتأمين شبكة حماية لنفسها من غدر الشعوب والزمن، عملت الأنظمة العربية الحاكمة إلى ربط أنفسها بالقوى الخارجية على شكل علاقة تجاوزت علاقة التبعية التي كانت سائدة فيما سبق. نمط جديد من التبعية لم تصدر الأدبيات السياسية توصيفا له بعد، ربما لغرابته أو شذوذه، حيث وصلت تلك العلاقة إلى حد إدارة القوى الخارجية لأمور البلاد، أو مشاركتها ثرواتها، أو فرض وإملاء كل صغيرة وكبيرة، في تنازل فاضح من أغلب الأنظمة العربية عن السيادة والاستقلال.
بماذا يذكرنا هذا الواقع؟ لعل النسخة الشبيهه له ما يسمى بمرحلة الانحطاط العربي، فترة قبل الاحتلال العثماني، حينما عجزت النخب الحاكمة عن إدارة الدويلات التي تسيطر عليها، فاستدعت الخارج لحمايتها وتثبيت أركان حكمها، وفي العصر الحديث بحالة جزر المحيط الهندي التي لم يستطع حكامها إدارة شؤون بلدانها وناسها، فسلموا أمورهم لشركات الهند الشرقية البريطانية والهولندية.
منذ نهاية عام 2010، تاريخ انطلاق شرارة الربيع العربي من تونس والمواطن العربي ينام بعين مغمضة وأخرى مفتوحة، وقبل قهوة الصباح يتناول جهاز التلفزيون ليعرف ماذا حصل في ساعات نومه القليلة، والسبب في ذلك أنه بات متيقنا أن استقرار العالم العربي لم يعد ممكناً التنبؤ به حتى لساعات معدودة، وأن هذه الأنظمة الحاكمة...(مش بنت معيشة).