زرت مقر المحكمة
الجنائية الدولية بمدينة لاهاي الهولندية عام 2003، أي بعد عام واحد من تأسيسها. ولاحظت حينها أن المقر يقبع في المدينة ذاتها التي تحتضن محكمتين دوليتين أخريين؛ إحداهما هي محكمة العدل الدولية، والثانية هي المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة. وكان السؤال الذي طرحته على المسؤولين في المحكمة الوليدة: هل هناك مقومات وضمانات حقيقية كي تمارسوا مهام قانونية على المستوى الدولي تتجاوز نطاق عمل هاتين المحكمتين؟ وكانت الإجابة أن المحكمة كانت حلما قديما في العالم وأنهم سيحاولون. وبعد 15 عاما من هذه الإجابة، تستحق هذه المحكمة وقفة، خاصة مع
تهديدات غير مسبوقة
أطلقها مستشار الأمن القومي الأمريكي، جون بولتون، تستهدف المحكمة منها احتمال فرض عقوبات عليها.
تأتي هذه التهديدات الأمريكية على خلفية طلب تقدمت به المدعية العامة للمحكمة، فاتو بنسودا، لفتح تحقيق في اتهامات بارتكاب
جرائم حرب وقعت في أفغانستان، وتشمل قائمة المتهمين أفرادا في الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات "سي آي إيه"، الأمر الذي يعني احتمالية إدانة أي من هذه الشخصيات، مما يمثل سابقة دولية خطيرة للولايات المتحدة وسياساتها العسكرية خارج أراضيها.
كان يمكن للأمر أن يمر مرور الكرام، على اعتبار أن الولايات المتحدة غير مصدقة على نظام روما الأساسي، وبالتالي غير ملتزمة بإجراءات المحكمة. لكن يبدو أن الخطوة الجريئة التي اتخذتها المدعية العامة
تنطوي على تهديد مهم للأفراد الأمريكيين المتهمين، وماهية التهديد غير واضحة من الأخبار المتداولة، لكن ما يدل عليه هي حالة العصبية والخروج عن الشعور والأعراف الدبلوماسية لدى بولتون، وتلويحه بهذه التهديدات.
إن
المحكمة الجنائية الدولية كيان فريد في العدالة الدولية، فكل المحاكمات الدولية في التاريخ كانت تتسم بصفة التأقيت ومحدودية الاختصاص تجاه الأفراد. فهناك مثلا محكمة نورنبيرغ بعد الحرب العالمية الثانية التي شكلت لمقاضاة مجرمي الحرب من ألمانيا النازية، أو محكمة العدل الدولية الحالية التي تختص في فض المنازعات بين الدول ككيانات اعتبارية. لكن أن تؤسس محكمة لمحاكمة الأفراد جنائيا على مستوى الكوكب، فهذه سابقة جديدة. صحيح أن مهام عملها مرهون بموافقة الدول كي تصبح المحكمة عنصرا مكملا لقضائهم الوطني، إلا أن أثرها قد يمتد لرعايا دول غير مصدقة على ميثاق روما الأساسي، مثلما قد يحدث مع الجنود الأمريكيين.
الغضب الأمريكي تجاه المحكمة ليس محصورا في إمكانية محاكمة جنود الولايات المتحدة، ولكنه يمتد - بحسب تصريحات بولتون نفسه - إلى الطلب الرسمي الذي تقدمت به السلطة الفلسطينية للمحكمة لفتح تحقيق في الممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. ومن المعروف أن هناك عدة محاولات على قدم وساق منذ فترة لتقبل المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في هذه الممارسات، لكن الخطوة التي اتخذتها السلطة غير مسبوقة، وقد تفضي بالفعل إلى فتح تحقيق رسمي. وسيشكل هذا خطرا على كثير من الجنود والمسؤولين الإسرائيليين عند سفرهم للخارج، رغم أن إسرائيل غير مصدقة على ميثاق روما.
تطبيق العدالة على المستوى الدولي يختلف عن المستوى المحلي، لعدة اعتبارات منها الاعتبارات السياسية وعدم تطور القانوني الجنائي دوليا. لكن لا يمنع هذا من حقيقة مفادها أن الممارسات القضائية والقانونية هي تراكمية بطبيعتها، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، بمعنى أن كل قضية تؤسس لمبدأ قضائي جديد وتفتح أفقا جديدا للعدالة. وهناك أنظمة قضائية، مثل النظام البريطاني مثلا، ليس لديه دستور كمرجع أعلى لتطبيق القوانين، ولكن يعتمد على السوابق القضائية وأحكام المحكمة العليا كمرجع.
وهذا يعني أن التطور المتمثل في إمكانية محاكمة جنود أمريكيين على جرائم حرب في أفغانستان أو جنود إسرائيليين جراء جرائمهم في فلسطين؛ هو سابقة قانونية وتطور مهم له ما بعده بغض النظر عن الضغوط السياسية التي قد تتعرض لها المحكمة. بالإضافة لهذا، فإن التهديدات الأمريكية إذا دخلت حيز التنفيذ، فستكون معركة مهمة في تاريخ المحكمة؛ لاحت بعض بوادرها الآن مع التصريحات الفرنسية التي تدعم فيها المحكمة في مواجهة الولايات المتحدة.