في غالب المصادمات الكلامية تكون المشكلة في أن الأطراف تتحدث بلغتين مختلفتين، حتى لو كانوا يظنون أنهم يفهمون بعضهم البعض، وتدفع هذه الحوارات بعض المتابعين إلى الجنون، وخاصة عندما تجد أحد الطرفين أو كليهما يضع قواعد كلية على الإجراءات ويرفض تماما وضعها على المفاهيم. والأكثر إبهارا أن الجميع يريد عبور تلك المشكلة المركزية للأبد، لا تفهم شيئا... دعنا نحاول الفهم معا.
منذ عدة أيام رأينا جريمة على شاطئ البحر في
مصر عندما قتل أحد المجرمين رجلا يدافع عن زوجته، ولو فرضنا أن أحد الواقفين على شاطئ البحر قد حطم رأس المجرم بعصاه في نفس المكان ونفس اللحظة، ماذا سيكون رد فعلك؟ وماذا سيكون حكمك على الرجال الثلاثة: المجرم والضحية والرجل الثالث؟ مع من ستتعاطف؟ هنا سألت سؤالا مضللا، فكلمة
التعاطف كلمة عبقرية تدغدغ المشاعر ولا يمكن أن تؤطرها أبدا، ولو أدخلنا التعاطف فكل شيء يمكن تمريره، فالجميع يتعاطف مع الجميع في لحظات معينة، وكل إنسان مهما كان مجرما ربما تأتي لحظة ما تتعاطف فيها معه.
وفي حكايتنا عن المقتول على شاطئ البحر، ستجد الكثيرين ممن يتعاطفون مع المجرم المقسومة رأسه بعصا الرجل، حيث دائما ما يثير منظر الدماء التعاطف مهما كان الوضع، كما أثارت دماء المقتول المدافع عن زوجته تعاطفنا. فالتعاطف وغيره من المصطلحات التي تدغدغ المشاعر في غالبها خادع، قد يكون مقبولا في لحظات التأثر، ولكن يتحول إلى جريمة عندما تبنى عليه مواقف.
إن الاستخدام الواسع للمصطلح في التعامل مع مجموعة من المجرمين المرتزقة هدفه الانتقال من أصل الأزمة، والتي تتعامل مع مفهوم الجريمة والخيانة، والتي ثبتت قولا وفعلا وعلى الهواء مباشرة على مجموعة من النخب الملتصقة بالعسكر؛ هدفها الانتقال إلى التعامل مع مجرد إجراءات حدثت ضدهم من شركائهم في احتلال مصر وتدميرها، وتحويل الحديث عن قيم أكثر تحديدا ومفاهيم مثبتة إلى أمور عاطفية تعاطفية تقربنا من قصص الحب الركيكة التي تباع في محطات القطارات.
والعقل النخبوي المصري عموما يجنح لذلك حتى لا يفقد مكانته المرموقة الحالية أو المتوقعة، فلنجعل الأمور بعيدة عن المفاهيم ولنلهو معا في مساحة الإجراءات ولنجعل كل شيء بالتعاطف.
أتذكر الآن رواية آنا كارنينا للمبدع تولستوي، وأنه حاول - كما فهمت من الرواية - أن يجعلنا لا نتعاطف مع البطلة في النهاية بعكس الفيلم المصري الذي ضغط على مشاعر المشاهد بكل أدواته، كي نتعاطف مع عاهرة خائنة في نهاية العمل.
لا مشكلة في كونها خائنة لزوجها ولا مشكلة في كونها عاهرة... هذا ما يطرحه العقل المصري... فقط تعاطف معها وكل شيء سيمر.
والمتعاطف له احتمالات ثلاثة:
1- إما أنه أحد مشاهدي آنا كارنينا المخدوعين بحالة التعاطف التي لا تعني أي شيء، واستطاع الإعلام تحويل هذا المشاهد من منطقة المفاهيم والقيم إلى مساحة الإجراءات، ثم أفسد عقله بمفهوم التعاطف المائع.
2- أو أنه من رجال النخب المصرية التي لا تريد أن تخسر بعضها البعض حتى لو احترق نصف شعب مصر، فربما نلتقي يوما على مائدة السلطة معا فلا مشكلة في مئات الآلاف والملايين المشردة والبائسة. المشكلة ألا نخسر بعضنا بعضا، فلنبق هنا متعاطفين ونبتعد عما قد يعكر صفونا، وسيأتي اليوم الذي نجلس فيه سويا لنتفاخر بما فعلناه من أجل مصر.
3- وأسوأ هذه الأنواع هو المتعاطف المحايد الواثق من موقفه الذي يؤمن أن كل الأمور سواء، وأن كل شيء قابل لأن يوضع على الطاولة، ولا مفاهيم مسبقة ولا تاريخ ولا ثوابت، كل لحظة هي بداية جديدة وكل شيء هو صفحة بيضاء، فلنبدأ دائما من جديد، وهذا سيبقى دائما متعاطفا مهما حدث ومهما قيل.
مما سبق أزعم أن الاستمرار في استخدام هذا المصطلح المائع والمراوغ والبائس مع استمرار تجاوز المفاهيم والقيم والأحداث التي عشناها بأنفسنا هو أحد المحاولات للقضاء على الثورة وتصعيد قوى الثورة المضادة، وبالتالي فإن الضغط الشديد لإقراره كأحد المفردات المتداولة هو من عمل الثورة المضادة، وعلى القوى الثورية التوقف عن عملية التمييع الممنهجة لكل مسارات العمل الثوري سواء بوعي أو بدونه.
تحدثنا عن المتعاطف، ولا زلنا بحاجة للتحدث عن المجنون، ويبدو أننا لسنا بحاجة لهذا الحديث، فقد كفتنا السنوات السبع السابقة.