هل سيكون من الظلم أن نقارن
فرنسا في هذه الأيام بروما القديمة؟ ربما ستكون المقارنة مقبولة من الجميع إن عدنا مئتي عام (وحتى مئة عام كافية) في الماضي، وسنجد المقارنات قد تبدو منطقية، وسنجد تفوقا فرنسيا كاسحا، ليس في مساحة الأرض التي تسيطر عليها فرنسا مقارنة بروما، ولكن في حجم الجنون التي مارسته فرنسا ضد
أفريقيا، وخاصة الغرب الأفريقي، ولكن هل هذه المقاربة ستكون صحيحة الآن؟
نعود قليلا لروما القديمة، ونتذكر ألعاب الكولوسيوم في حلبة الموت والنداء الشهير "نحن المقبلون على الموت... نحييك" الذي كان يطلقه المحاربون المجبرون على القتال حتى الموت، وكانت هذه الألعاب من الأمور المثيرة جدا للجماهير، ولا يمكننا نسيان الترتيب الطبقي للجماهير في المدرجات من منصة الإمبراطور حتى أماكن العبيد الذين يشاهدون مباريات الموت وقوفا.
والعبودية كانت إحدى ركائز بناء المجتمع "القديم" في روما، وربما نجت روما من مصير الهند الطبقي الصارم جدا؛ نظرا للاحتياج الدائم للمقاتلين وقدرة المقاتل على الصعود الطبقي، حتى الوصول في بعض الأحيان لمراكز مرموقة بعد جيلين من التحرر. فالجيل الثالث تخلى عن آثار عبودية أجداده.
روما التي كانت واحدة من أكبر الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ، وشهدت واحدة من أكثر تجارب العبودية إثارة وقسوة، ولكنها كانت عبودية بنمط كلاسيكي.. حلقة حول الرقبة، وصك ملكية ونظام اجتماعي واقتصادي يجعل فكرة القدرة على التحرر مستحيلة إلا بقرار حصري للمالك. واستطاعت الثقافة الحاكمة أن تجعل العبد الأسير أن يقبل على الموت دون ضجة كبيرة، بل ويحيي مالكه الذي دفعه للموت "نحن المقبلون على الموت... نحييك".
مرت آلاف السنين منذ انتهاء الإمبراطورية الرومانية على الأرض، ولكن المؤكد أنها بقيت في العقل الجمعي، وأصبحت روما القديمة هي النموذج الذي يدور الكثير حوله، ولكن تم تطعيمها بأفكار دارون ونيتشه التي أصبحت محددات جديدة للنموذج. فلم تعد بحاجة للكولوسيوم ليكون القتل ممتعا، ولكن شرعيا ومقبولا أخلاقيا، بل هو أمر طبيعي في كل الأحوال. ففي المئتي عام السابقة؛ ما حدث بأفريقيا من جرائم لا يمكن تصديقها تجاوز كوارث العبودية الرومانية بكثير. ففي روما لم يكن دارون قد أتى بعد، أما في تلك الفترة فإرهاصات أفكار دارون كانت قد بدأت، ثم تبعها بنظريته التي جعلت العبودية ليست فقط تعبر عن فائض القوة كما كان في السابق، بل تعبر عن حق التميز والوجود في قمة هرم التطور، فقد جعلت تلك الأفكار استخدام "أنواع" من البشر أمر أخلاقي، وهي ربما أكثر الأمور خطورة فيما حدث من فرنسا وغيرها بالتعامل مع أفريقيا كمزرعة للبشر الأقل في سلم التطور. فالرجل الأبيض على القمة والأسود هو الحلقة الفاصلة بين البشر والحيوانات، ولا يمكن إنكار أن العنصرية لصيقة بالبشر وقد حاربتها الأديان، إلا أنها المرة الأولى التي تتكون فيها نظريات ترسخ لهذا المعنى وتجعله "أخلاقيا".
ألعاب الكولوسيوم والعبودية والعنصرية، ذلك الثلاثي القديم الحديث لا زال يدور بنا منذ كولوسيوم روما إلى الآن؛ عابرا لدارون ومئات الملايين الذين راحوا ضحية ألعاب السلطة وألعاب الجوع وألعاب دارون.
قد يدعي أحد أن الأمر لم يعد كذلك، فقد أصبحت فرنسا وهي واحدة من مراكز الحضارة الغربية الاستعمارية "القديمة" وتحولت الآن لقبلة الديمقراطية والحداثة، فلماذا الربط مع روما القديمة بكل مظاهر العبودية والقهر؟
أعتقد أن مثلت الكولوسيوم والعبودية والعنصرية لا زال موجودا، بل أصبحت العنصرية لها جانب علمي وربما أخلاقي، كما أن استمرار سيطرة فرنسا على غرب أفريقيا بالقوة الناعمة والخشنة، إذا تطلب الأمر، يجعل هذا المثلث ما زال قائما؛ صحيح أنه تغير شكل الكولوسيوم وأصبح مدفوع الأجر، وكذلك انتهت "بشكل ما" العبودية القهرية وساعد النظام الاجتماعي والاقتصادي على القبول بالعبودية الاختيارية، إلا أن مركز كل الأزمات "العنصرية" لا زال مستقرا في العقل الأوروبي ومنه الفرنسي، وربما كان التواجد الأفريقي الكبير بالمنتخب الفرنسي الفائز بكأس العالم ليس دليلا على انتهاء العنصرية الأوروبية تجاه أفريقيا خصوصا، وإنما دليل على وصول الكولوسيوم لمستوى ممتع للجميع، فلم يعد القتل اللحظي مرتبطا بالألعاب، ولكنه لا زال يحمل روح الكولوسيوم الروماني القديم مغلفا بوجه الحداثة، ففرنسا البيضاء فازت بألعاب الكولوسيوم الحديثة بوجوه سمراء، وهي ما تزال مستمرة بسحق الغرب الأفريقي تحت الاستعباد القديم وما زالت مصرة (ليست وحدها بالتأكيد) على دارون ونيتشه كمحددات لتعاملها مع الأفارقة. وما زالت أفريقيا تصدر المقاتلين الذين يرددون العبارة القديمة "نحن المقبلون على الموت... نحييك". ليس بالضرورة المتصارعون في الحلبات الجديدة هم الذين سيموتون فورا، ولكن شخصا ما في مكان ما في العالم يدفع ثمن تلك المباراة. ليست الأزمة في
كرة القدم أو أي لعبة أخرى، ولكن الأزمة في مثلث الكولوسيوم - العبودية - العنصرية، وطالما بقي هذا المثلث فكل الألعاب تحت مظلة الحداثة، ستبقي ألعابا كولوسومية حتى لو لم نر الدماء في حلبة النزال، ولكنها بالتأكيد موجودة في مكان ما آخر.