كتاب عربي 21

متى يتم التخلص من لعبة الأقنعة؟

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600

هناك من يدعي بأن الصراع العلماني الإسلامي ليس سوى مجرد فرضية مغلوطة، وأن الاستمرار في محاولة التخفيف من حدته وتداعياته؛ هو وقت ضائع وجهد بلا معنى.. وهذا الرأي يردده الكثيرون في تونس وفي خارجها، بناء على منطلقات نظرية وسياسية تختلف من طرف الى آخر.

يتمنى المرء أن يصدق هذا القول، خاصة في السياق التونسي. فالمتأمل في هذه التجربة غير المكتملة والهشة؛ يجدها قد أقدمت على قطع خطوات هامة في سبيل تفكيك عدد من الألغام التي كانت تشكل مبررا لتجدد المواجهات الحادة بين العلمانيين والإسلاميين. حصل ذلك على أكثر من صعيد، سواء في صياغة الدستور الجديد، أو عند وضع بعض التشريعات الخاصة بقضايا حساسة كانت في مرحلة سابقة ساحة للخلاف والاشتباك بين الطرفين. بل إن العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس تجاوزت الجدل الإيديولوجي، وانتقلت إلى خوض تجارب عملية، ليس فقط بتأسيس جبهات معارضة للدكتاتورية، وإنما تم أيضا تشكيل حكومات ائتلافية لم تكن قبل الثورة واردة في أي سيناريو من السيناريوهات الممكنة. تم ذلك في عهد الترويكا، ثم تجددت المحاولة مع تحالف النهضة النداء بعد حرب شرسة بينهما كادت أن تدفع بالبلاد نحو المجهول.

 

 

المتأمل في التجربة غير المكتملة؛ يجدها قد أقدمت على قطع خطوات هامة في سبيل تفكيك ألغام كانت تشكل مبررا لتجدد المواجهات الحادة بين العلمانيين والإسلاميين

 


بسبب هذه التجارب، ظن الكثيرون أن الانقسام الإيديولوجي بين ذوي الخلفية الدينية والخلفية العلمانية قد تم تجاوزه على المستويين النظري والعملي، لكن المتابع لما يجري على أرض الواقع يكتشف أن لعبة القط والفأر مستمرة، وأن كل طرف منهما لا يزال يصر على القول بأن منافسه أو خصمه ليس صادقا في تبنيه لاختيار المصالحة الفكرية والسياسية. لهذا، يسعى كل طرف من جهته نحو البحث عن أدلة أو مؤشرات في سلوك المنافس وفي خطابه، من أجل اثبات الإدانة بهدف إخراجه من الحلبة.

هناك جانب مسرحي أصبح طاغيا على الحياة السياسية التونسية، مما جعل عقلية المناورة تتغلب على الوضوح والنزعة المبدئية. وهذه المعضلة هي التي جعلت الثقافة السياسية لدى الجميع تتعثر بشكل ملحوظ ولا تتقدم بجرأة نحو بناء الثقة بين اللاعبين الجدد.

 

عندما تتحدث مع الأطراف التي توصف بكونها علمانية، تجدها تؤمن ضمنيا أو تصريحا بأن حركة النهضة ومن يؤيدها في الأوساط الدينية لم تتطور بشكل جدي وقطعي

عندما تتحدث مع الأطراف التي توصف بكونها علمانية، تجدها تؤمن ضمنيا أو تصريحا بأن حركة النهضة ومن يؤيدها في الأوساط الدينية لم تتطور بشكل جدي وقطعي، كما أنها لم تتجاوز حتى الآن عتبة الإخوان المسلمين. ومنهم من يذهب إلى أكثر من ذلك؛ بالادعاء أن التيار الغالب داخل النهضة لا يختلف كثيرا عن مرجعية "الدواعش". وبالتالي، ما يصدر عن قيادة النهضة ليس سوى مسوح خارجية كجزء من القناع الذي قررت أن تستعمله الحركة بعد الثورة؛ لتتمكن من خلاله البقاء في الحكم دون أن تثير انزعاج الغرب.

أما الطرف الإسلامي، ممثلا في حركة النهضة، فإن القناعة السائدة لدى الكثير من أعضائه وأنصاره تقوم على القول بأن أغلبية العلمانيين ليسوا ديمقراطيين، وأن إقناعهم بأن الحركة الإسلامية تعيش تحولات جادة وصادقة أمر يكاد يكون مستحيلا. ويحمّل هؤلاء المسؤولية الرئيسية لليسار عموما، واليسار الراديكالي خصوصا. ويعتقد هؤلاء أن اليسار التونسي بالذات "عقيم" ويرفض التطور، وهو صدامي بالضرورة، وسيبقى يعمل على جر الإسلاميين بكل الطرق والوسائل الى ساحات المواجهة خارج دائرة المؤسسات وصناديق الاقتراع.

ماذا يعني هذا القول؟

يبدو أن الركن الصلب من الخطاب الإيديولوجي الذي تشكل لدى طرفي النزاع في مرحلة الستينات؛ لا يزال فاعلا ومحددا لشخصية هؤلاء. وإن الذين تخلصوا من ذلك الإرث الصدامي والمنغلق عددهم قليل، ولم يتحولوا إلى تيار قوي ومؤثر؛ من شأنه أن يصبح قادرا على تأسيس مرحلة جديدة تختلف فيها آليات التفكير وأساليب العمل.

 

الركن الصلب من الخطاب الإيديولوجي الذي تشكل لدى طرفي النزاع في مرحلة الستينات؛ لا يزال فاعلا ومحددا لشخصية هؤلاء

إن الذين راهنوا على إمكانية بناء الكتلة التاريخية التي بشّر بها البعض بعد غرامشي، في السياق العربي الإسلامي، مثل عابد الجابري وغيره، هم مضطرون حتى الآن للاعتراف بأن رهانهم يواجه عقبات كأداء حالت ولا تزال دون الوصول إلى نقطة اللاعودة.

رغم هذه المعاينة المؤلمة والقاسية، فإن المتأمل جيدا في المشهد الراهن لا يمكن أن يتجاهل أو يغض الطرف عن الدينامية التحتية المتواصلة، والتي تثبت بأن شيئا ما قد تغير رغم مناورات المناورين وادعاءات عشاق الحروب الإيديولوجية.

التعليقات (0)