يبدو الأمر مختلفا في رد الفعل الشعبية تجاه أزمتي مؤسستي
الأزهر والقضاء مع نظام
السيسي، وهما اللتان كانتا من أشد داعميه، ومهدّتا لوصوله إلى السلطة منقلبا على أول رئيس مدني منتخب.
ففي معركة القضاء، أنهى النظام المعركة سريعا لصالحه دون أي رفض شعبي، بينما يواجه النظام ممانعة حتى الآن في معركته مع الأزهر.
في معركة القضاء أقر النظام قانون الهيئات القضائية الذي يعيد هيمنة مؤسسة الرئاسة أي السلطة التنفيذية على القضاء، عبر منح الرئاسة الحق في تعيين رؤساء الهيئات القضائية بالمخالفة للدستور، الذي ضمن استقلال السلطة القضائية، خاصة في اختيار رؤسائها عبر جمعياتها العمومية.
ورغم كل صرخات القضاة واستغاثاتهم لمجلس النواب وللسيسي شخصيا، وتذكيره بـ"جمايلهم" وأدوارهم "القذرة" لصالحه، وتنبيههم إلى أن هذا القانون يخالف الدستور، إلا أن ذلك لم يشفع لهم في وقف مناقشة القانون.
بل إن السيسي سارع بالتصديق على القانون قبل مرور 24 ساعة على صدوره من البرلمان قطعا للطريق على أي ضغوطات سواء محلية أو حتى دولية.
واللافت للنظر، أن القضاة (أو على الأقل نواديهم) خاضوا معركتهم هذه المرة منفردين وبدون أي ظهير شعبي، على عكس مرات سابقة ساندهم الشعب والقوى السياسية والمجتمع المدني فيها، مثل معركتهم ضد نظام مبارك في العام 2006، التي تظاهر فيها الآلاف، وكان في مقدمتهم الإخوان والقوى الليبرالية.
وبالمناسبة، كان من بين المعتقلين على خلفية تلك المظاهرات الدكتور محمد مرسي والشاب علاء عبد الفتاح، وكلاهما تم حبسهما بأوامر من القضاء.
وتدثر القضاة بفئات شعبية معارضة لحكم الرئيس مرسي، وفتحوا ناديهم لقيادة التمرد ضد حكمه، أما في في معركتهم الحالية، فقد بدوا مكشوفي الظهر تماما من الدعم الشعبي، ذلك أن الفئات الشعبية المؤيدة للسيسي تؤيد ما يفعله دوما دون نقاش، وتعتبر كل من يعارضه خونة وخطرين على
مصر.
أما الفئات المعارضة للسيسي، فإنها لا تنسى للقضاة (في معظمهم) وقوفهم لدعم هذا الانقلاب، وإصدارهم لآلاف الأحكام الظالمة بالإعدام والمؤبد والسجن المشدد، ومصادرة الأموال والممتلكات بحق رافضي الانقلاب ومعارضي النظام عموما.
كما أنها لا تنسى القطاعات الشعبية الأخرى، أن القضاة قبضوا بمواقفهم تلك مع النظام امتيازات ومكافآت وبدلات جديدة استفزت جموع العاملين في الدولة الذين توقفت رواتبهم، بينما زادت أعباء المعيشة عليهم في ظل ارتفاع صاروخي لأسعار السلع والخدمات.
وزاد الطين بلة أن نسبة كبيرة من القضاة (قد تكون أغلبية) لم تبد حماسا كافيا للوقوف ضد قانون الهيئات القضائية، ولم تسارع للاحتشاد من تلقاء نفسها في مقار نوادي القضاة في القاهرة والأقاليم كما فعلوا من قبل.
والسبب في ذلك هو خشيتهم من بطش النظام، وإمكانية خفض ومكافآتهم وبدلاتهم، ومنع توريث أبنائهم.
وأشار رئيس نادي القضاة محمد عبد المحسن لهذا الخذلان والانقسام في موقف القضاة في رسالة وجهها للقضاة يشرح فيها جهوده في هذه الأزمة.
إذ تساءل رئيس النادي في رسالته، "ما هي القرارات التي كانت ستتخذها تلك الجمعية (العمومية الطارئة) في ظل الرفض العام لدى القضاة؟ اتخاذ أي قرارات حاسمة سبق وأن اتخذوها من قبل، مثل وقف العمل أو تعليقه وما شابه، لاختلاف الظروف والأحوال في البلاد عما سبق، أم هو الحضور المشرف أن كان فقط؟".
تحصد السلطة نتائج ترويضها للقضاة ورشوتهم في الفترة الماضية انقساما في البيت القضائي، جعل قسما كبيرا منهم يرضون بهذا القانون حفاظا على مكاسبهم، أو خشية من مشروع قانون أصعب تلوح به السلطة أيضا، وهو يمس بالفعل عددا كبيرا من القضاء.
إذ يخفض سن المعاش من 70 سنة (حاليا) إلى 64 سنة فقط ما يهدد بنهاية عمل آلاف القضاة.
وهكذا وجدنا أيضا بعض الهيئات القضائية تسارع لتنفيذ القانون الجديد محل الأزمة كما فعلت هيئة النيابة الإدارية التي قدمت للسيسي ترشيحاتها لاختيار رئيسها، وستلحقها هيئات أخرى، حتى وإن ظلت بعض المناوشات قائمة، وقد تنتهي هذه المناوشات بتأجيل مشروع القانون الجديد الخاص بخفض السن، ولو مؤقتا حتى تهدأ الفئات الغاضبة.
في معركة الأزهر، اختلف الأمر قليلا، فهي السلطة التي أعطت لأذرعها الإعلامية شارة البدء بالهجوم على الأزهر وشيخه، كما أن مطابخها المخابراتية أعدت مشروع قانون جديد للأزهر يحدد مدة رئاسة الشيخ، ويسمح بمحاسبته وإنهاء عمله، بالمخالفة للدستور الذي منحه استقلالا، وحصانة ضد العزل.
وألقت هذا المشروع لأحد رجالها( محمد أبو حامد) لتقديمه للبرلمان، لكن رد الفعل المجتمعي كان مختلفا عن الموقف من القضاة ولو قليلا، حيث ظهرت أصوات داعمة للأزهر في مواجهة السلطة.
والجديد أن حملة دعم الأزهر ضمت أصواتا من رافضي الانقلاب، إضافة إلى أصوات من داخل النظام، والأهم من ذلك من داخل قطاعات شعبية عادية.
وتسبب ذلك في عرقلة مناقشة القانون في البرلمان حتى الآن، وإن كنا لا نستبعد إصرار السلطة على تمرير القانون، فهي سلطة لم تعد ترى سوى نفسها، ولا تلقي بالا لأي احتجاجات شعبية.
ربما كان من أسباب الهبة الشعبية الداعمة للأزهر هو تغلغل الأزهر نفسه في بنية المجتمع المصري، إذ لا تخلو قرية ولا مدينة بل ولا شارع أو حارة مصرية من طلاب أو خريجي أو علماء الأزهر.
كما أن قطاعات واسعة من المجتمع التي استعادت وعيها، وتخلصت من الأوهام التي زرعها فيها إعلام السيسي، تنظر الآن إلى هجمة السيسي ضد الأزهر بنظرة موضوعية، وتعتبرها عدوانا غير مبرر، ورغبة حقيقية في هدم الأزهر، بل وهدم القيم الإسلامية ذاتها.
خاصة أن هذه الهجمة جاءت في أعقاب رفض الأزهر لطلب السيسي بتغيير بعض أحكام الطلاق.
ورغم أن مناهضي الانقلاب كان بإمكانهم الشماتة فقط في شيخ الأزهر بسبب مشاركته في مشهد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، ودعمه المتواصل للسيسي، إلا أنهم ترفعوا في غالبهم عن هذه المسألة، ونظروا إلى حقيقة الحملة بحسبانها ضد الأزهر مؤسسة وليست ضد الشيخ شخصيا، وأنها تستهدف تغيير هوية المجتمع من خلال محاصرة القيم الإسلامية وتبني ما يسمى تجديد الخطاب الديني الذي يواجهه الأزهر.
والمتأمل لنصوص مشروع القانون المعروض فعلا، يدرك أن الهدف هو تقليص دور الأزهر عموما، عبر وقف بناء معاهد أزهرية جديدة، وعبر اقتطاع بعض المؤسسات منه وضمها لجهات حكومية أخرى، بحيث تنتهي ما يصفونه بإمبراطورية الأزهر، جامعا وجامعة ومعاهد وهيئات علمية، وسلطة معنوية على عموم المسلمين المصريين وحتى غير المسلمين.
والغريب أن ذلك يحدث بينما كانت أجهزة الدولة جميعها في خدمة زيارة بابا الفاتيكان فرانسيس، والمبالغة في تفخيمة.