ماذا يفعل القارئ حين يطالع خبرا على الصفحة الأولى للجريدة، ثم يجد نفيا وتكذيبا له على الصفحة الأخيرة؟ حدث ذلك معي يوم الاثنين الماضي (2 يناير) حين قرأت على الصفحة الأولى لجريدة «المصري اليوم» خبرا ذكر أن الإعلامي إبراهيم عيسى «قرر الاعتذار عن عدم الاستمرار في تقديم برنامجه»، للتفرغ والتركيز على مشروعاته الكتابية والإبداعية في الفترة المقبلة. وهو موقف مقدر ومفهوم، يحدث في أوساط أكبر العائلات الإعلامية، إلا أن الحيرة أطلت برأسها حين وصلت إلى الصفحة الأخيرة من الجريدة، حيث وجدت رسما كاريكاتوريا للزميل عمرو سليم ظهر فيه رأس إبراهيم عيسى طائرا في الهواء، في حين جلس صحفي معارض إلى مكتبه ينظر إليه ذاهلا. وفي جانب من الصورة ظهر خبر إيقاف برنامج إبراهيم عيسى.
لم يكن الرسم مجرد صياغة أخرى للخبر، وإنما كان محملا برسالة لكل أصحاب الرأي الآخر حتى إذا كانوا يؤدون مهمتهم من داخل النظام وليس من خارجه. علما بأن الرجل لم يكن معارضا، ولكنه كان ناقدا. والأول يرفض كل شيء، أما الثاني فإنه يشجع ما هو إيجابي وينتقد ما هو سلبي، كما أنه لم يكن دائما صاحب رأي آخر، لكنه كان دائما ضد سياسة الرأي الواحد. لذلك فإن الإجراء الذي اتخذ بحقه يبدو مفاجئا وعميق الدلالة.
وقبل أن أستطرد في شرح هذا المنطوق، فإنني أزعم أن الذي كتب عن سبب اختفائه مختلف عما كتبه هو. فبيان القناة التي كانت تقدم برنامجه جاء ركيكا ومرتبكا. ذلك أنها اعتبرت ما أصدرته من قبيل الحرص على مبادئ الشفافية والمصارحة والمهنية، في حين أن البيان كان نموذجا لعدم الشفافية، كما أن المدير التنفيذي لغرفة الإعلام المرئي والمسموع ذكر أن القناة هي التي أوقفت البرنامج، ما يعني أن الأمر لم يكن تطوعا واختيارا لإبراهيم عيسى. وهو ما عبر عنه عنوان الخبر المنشور، الذي تحدث عن وقف البرنامج وليس اعتذار صاحبه.
الطريف في الأمر أن تصريح مدير غرفة الإعلام ذكر أن وقف البرنامج شأن داخلي للقناة يخصها وحدها؛ إذ هي أدرى بسياستها التحريرية وما يحقق المصلحة العامة ومصلحتها. وكانت تلك حدود «الشفافية» التي عبر عنها، ومن المفارقات أن صاحبنا صرح لصحيفة «المصري اليوم» بأنهم حصلوا على تأكيدات واضحة بعدم المساس بحرية الإعلام، وعدم التدخل في وقف برنامج أو إغلاق قنوات. كما أن لديهم تأكيدات واضحة من مجلس النواب بأنه ليس طرفا فيما جرى، الأمر الذي كان إشارة غير مباشرة إلى أن الأمر له علاقة بحرية التعبير.
بيان إبراهيم عيسى جاء أكثر وضوحا، «ذلك أنه تحدث عن أن برنامجه ألقى عليه الأعباء، وتعرض معه لأنواء، وأحيط بالضغوط. ففي الوقت الذي أسهم فيه في اتساع عقول، فإنه تسبب أيضا في ضيق صدور»، ثم تحدث في بيان عن اعتزازه «برأي من وضع البرنامج موضع التقدير»، وعن «تفهمه لمن أثقل البرنامج قلبه بالغضب والكراهية».
لا تدع تلك الخلفية مجالا للشك في أن جهة ما خارج القناة وخارج غرفة الإعلام المرئي هي التي قررت وقف البرنامج وإقصاء إبراهيم عيسى. وتلك الجهة لها من النفوذ ما يمكِّنها من أن تسكت أي صوت بجرة قلم. ورغم أننا لا نعرف شيئا عنها، إلا أن ذلك ينبغي أن يقلقنا، ليس فقط للغموض الذي يكتنف جهة القرار، وإنما أيضا للمدى الذي بلغه ضيق الصدر بحيث شمل الأعوان أيضا، فضلا عن مضمون الرسالة التي يوجهها القرار إلى جميع الإعلاميين وغيرهم من نشطاء المجال العام، لكي لا يتوقعوا انفراجا أو يرفعوا سقف توقعاتهم، وإنما عليهم أن يلتزموا جانب الحذر، وأن يتحسس كل منهم رقبته في العام الجديد. ورأس إبراهيم عيسى التي وضعها رسام الجريدة طائرة في الهواء عبرة لمن لا يعتبر.
لقد قرأت في صحف أمس تقريظا مستحقا وتضامنا واسعا مع المجني عليه في القضية، لكن لم يتطرق أحد إلى الجاني الذي تم تجاهله فلم ينل ما يستحقه.