إن كنت من أهل الريف أو الصعيد، فلا بد أن عينيك اعتادتا مشهد المُزارع الذي يترك ما بيده ويعتدل في وقفته، ويرفع السبابة نحو السماء موحد، وهو يرمق موكب
الجنازة في تبجيل في أثناء مرورها.
مشهد المارة الذين يتوقفون أمام الجنازة، ينظرون إليها في جدية ويغمغمون بالشهادتين في ورع غير مفتعل.
المصريون بشكل عام يتعاملون مع الموت بنوع من التقديس لا ترى فيه أثرا للافتعال. ربما كنت بحاجة إلى القليل من الجهد لتلمس مظاهر تبجيل (حدث الوفاة) في المدن الكبرى نظرا لكثافتها السكانية، ولكنك كلما أوغلت في الصعيد أو وجه بحري،أصبحت هذه المظاهر أكثر وضوحا.
الكل ينسى خلافاته في هذه الظروف، فهذا مريض يتحامل على نفسه ليقدم واجب العزاء، وهذا جار خاصم منذ اختلفا على حدود أرض زراعية، قد نسي كل شيء مؤقتا وجاءه واضعا نفسه رهن إشارته.
الجارات اللواتي يتركن أطفالهن في رعاية إحدى القريبات ليمكثن اليوم بطوله لمواساة نساء الدار ولإعداد الطعام لجموع المعزين.
الجميع ينسون خلافاتهم في هذه اللحظات.
ابن المتوفى يحصد القدر الأكبر من التعاطف والمواساة في هذه المناسبات.
تقاليد هي في حقيقتها اتفاق مجتمعي غير مكتوب.
مظاهر وتقاليد اعتادها المصريون، تراها أوضح ما يكون في قرى وجه بحري والصعيد.
حالة الوفاة في حد ذاتها جسر يتجاوز الخلافات بين المتخاصمين، لتتحول مناسبة الوفاة أحيانا إلى حدث تُصفى فيه الخلافات، حتى الخلافات العميقة التي قد تصل إلى الدم، قد يبددها استرضاء يحوي نفحة من رائحة الموت، كما يحدث حين يسير أحدهم إلى حيث عائلة القتيل، حاملا كفنه على يده مسترضيا، لتتوقف حالة الثأر بين العائلتين.
لا أحد في مصر يمزح مع الموت، أما أن يتجاوز الجميع هذا الاتفاق غير المكتوب ليدوسونه بأقدامهم بل وليستقبلوا ابن المتوفى بالتهكم والسخرية والسباب، ويصل بهم العداء أن يطردوه من جنازة والده التي كان من المفترض أن يحظى فيها بالمواساة، فأنت أمام عداء لا يميز، لا يملك عينين ولا يتصل بعقل، مخزونات من الغضب لم تعد ترى، شلالات من الغضب تكتسح ما أمامها دون تمييز.
لم يتجاوز أهل قرية شطورة بسوهاج الاتفاق المجتمعي غير المكتوب، ولم يكسروا التابو الاجتماعي.
ربما كان والد
أحمد موسى متبرئا منه لاعنا ما يفعله، ربما أوصى ألا يحضر جنازته، ربما كان هذا هو الأرجح، وربما كان هذا هو السبب المباشر في طرد أهالي شطورة له من جنازة والده.
لا نعلم على وجه اليقين، إلا أن الحدث كله باعث على الأمل أيا كانت دوافع الأهالي.
وقد يقول قائل، إن أحمد موسى لا يستحق عناء أن نتحدث عنه، ولكن الحقيقة أننا بصدد مؤشر ثوري بامتياز.
شرارة غضب تندلع ويتعالى أزيزها في وجه أحد أكثر الوجوه الانقلابية قبحا.
أحمد موسى الذي لا تفارق أذنه الإيربيس التي تنساب عبرها تعليمات شاويش أمن الدولة أو المخابرات الحربية، الذي يلقنه ما يقول على الهواء، هو أقرب وجوه مدينة الإنتاج الإعلامي لشاويش الانقلاب وأشدهم لصوقا به، وأكثرهم ولاء لمنطلقاته الفكرية الضحلة.
وهو لسان حال شاويش الانقلاب شخصيا، بل وتحافظ عليه مؤسسات العسكر حتى إنهم منعوه من مرافقة شاويش الانقلاب إلى زفة الأمم المتحدة الأخيرة، حتى لا يتعرض لما تعرض له من قبل في الزيارة الماضية في باريس، حين ضُرب على قفاه وصار حديثا للجميع.
وهو إضافة إلى ذلك من أشد أعداء
الثورة، ومن أكثر الأبواق الانقلابية بغضا للإخوان المسلمين، واتساقا مع منطلقات مؤسسات العسكر.
طرد أحمد موسى من جنازة والده، ليس حدثا عاديا، بل مؤشر ثوري يحتاج لقراءة واعية. مؤشر ثوري يكشف عن نار تشتعل تحت الرماد تنتظر ريحا توجهها.
نحن بصدد احتياطي غضب هائل مخزون في الصدور، ينتظر خطابا ثوريا ليفجره ويوجهه.
أمامنا حالة انعدم فيها تأثير إعلام العسكر تماما، أمامنا الآن حالة تحول فيها إعلام العسكر إلى أبواق باردة، تزعق من استوديوهات الإنتاج الإعلامي ولا تجد من يقتنع بها.
إعلام العسكر تحول إلى جزيرة منعزلة وسط بحر من الغضب، ينتظر شرارة ليشتعل كالبراكين مكتسحا كل شيء في طريقه.
وهو ما يفرض على الإعلام المناهض للانقلاب، الخروج من حالة الرخاوة الثورية وتبني خطاب يليق بالمرحلة، ومع كل الاحترام للسادة الزملاء العاملين بهذه القنوات وكل التقدير للنقاط التي أحرزوها على إعلام العسكر، فالمرحلة تتطلب الآن الخروج من خانة الرخاوة الثورة التي وقع فيها الإعلام المناهض للانقلاب لإصراره على مخاطبة النخب، وارتداء دروع الثورة ومخاطبة الجماهير المتعطشة إلى خطاب ثوري حقيقي يحشدها ضد الانقلاب.
كل التحية والاحترام لأهالي سوهاج، ولكل أهالي الصعيد، الذي أعتقد أنه سيكون من أهم شرايين الثورة.