قضايا وآراء

كامب ديفيد وصالون الحلاقة

1300x600
لا يزال بعض المدافعين عن اتفاقية كامب ديفيد يستندون إلى تلك الواقعة المشهورة عن "أنور السادات" والتي يشاركه فيها البطولة حلاقه الخاص، والتي جرت أحداثها في بيت الرئيس بالجيزة أثناء الحلاقة.

تقول الرواية إن "السادات" أراد كعادته أن يستطلع اتجاهات الرأي العام بشأن قراراته وتحركاته المثيرة للجدل، فسأل حلاقه الخاص عن ذلك أثناء ما كان يحلق له شعر رأسه، فنقل له الحلاق اعتراض الشارع على اتفاق الحكم الذاتي الذي أجراه نيابة عن الفلسطينيين في كامب ديفيد، فأجابه السادات بما ينم عن إحساس مفرط بالعبقرية؛ بأن ضرب له مثالا جعل فيه صالون الحلاقة هو مركز وموضوع الصراع نيابة عن أرض فلسطين بما فيها القدس والأقصى!!

فقال له: تصور أن بلطجيا هاجم محل الحلاقة الذي تملكه وقام باحتلاله بكل كراسيه!! ثم جاءك من يقول لك إنه مستعد لأن يعيد إليك أحد كراسي الصالون!! وبعد ذلك سيتركك أنت وشطارتك في التعامل مع هذا البلطجي من داخل المحل ومن فوق الكرسي الذي أحضره لك!! هل تقبل ذلك أم ترفضه؟ فأجابه الحلاق بتلقائية شديدة سوف أقبل طبعا!! فقال له السادات: هذا ما فعلته بشأن الفلسطينيين!!

هكذا يتم التسويق لقواعد وأسلوب تفاوض يريدوننا أن نقتنع بأنه المنطق الأقوى لإدارة عملية صراع تعد الأعقد على الإطلاق بين الصراعات التي عرفها العصر الحديث!! في الوقت الذي شهد العالم كما شهد التاريخ أن اليهود هم أخطر وأسوأ مفاوضين عرفتهم الكرة الأرضية!!

فإذا كان هذا المنطق الساداتي قد أقنع الحلاق بهذه السرعة، فإننا لم نقتنع به حتى الآن، ولا زالت الساعات بل اللحظات التي تمر على المنطقة العربية منذ كامب ديفيد وحتى هذه اللحظة تؤكد خطأ وخطيئة السادات في كامب ديفيد، والحالة الوحيدة التي نعتقد أنها يمكن أن تبرر الفعل الساداتي وتجعله مقبولا ومستساغا في الشارع العربي هو أن نتحول جميعا إلى حلاقين للزعيم الملهم!!

كما أننا رغم ذلك لنا عليه بعض التحفظات أو التساؤلات مثل:

1. ماذا لو أن البلطجي انفرد بصاحب الصالون وأعاد طرده من المحل، بعد أن يكون قد انتزع منه اعترافا بالشراكة الذي أعطاه شرعية ضرورية لاستكمال مشروعه وتم تحييد الوسيط أو الوصي الذي تفاوض نيابة عن صاحب المحل؟

2. وماذا لو رفض البلطجي أن يعطى حقوقا أخرى فوق الكرسي الذي يمثل بداية المشوار في نظرية السادات ويمثل نهاية المشوار في نظر البلطجي؟

3. وماذا لو نقض البلطجي اتفاقاته، وهو مشهور عنه ذلك، وقام مرة أخرى باسترداد الكرسي الذي تنازل عنه بالمفاوضات؟!

4. وما الذي يمنع من أن يكون البلطجي يخطط لاستكمال مشروعه بعد تحويل هذا الوسيط إلى حليف؟!

5. وإذا حدث ذلك هل سيقوم هذا الحليف بإعلان الحرب على حليفه من أجل إخلاله بحقوق أصحاب المحل الأصليين؟ أم سيكون ساعتها قد أصبح على أتم استعداد لمحاربة أخوة الدين والعروبة والمصير حتى لا يتهدد السلام الاستراتيجي الذي بناه مع الغاصب المحتل؟

إننا بهذا التصور نفترض أننا لم نزل في عقد السبعينات، ولم يكن قد مضى أكثر من ثلاثين عاما على كامب ديفيد، ولم يكن قد تبين كل أهداف إسرائيل منها بما في ذلك هدفها من مجاراة السادات فيما سمي بالحكم الذاتي للفلسطينيين.

إنني أحمد الله أحيانا حتى نرى ما يؤكد خطأ نظرية صالون الحلاقة، وذلك حتى لا تنتقل للأجيال التالية على أنها أبرع نماذج التفاوض السياسي، فلقد جاء اتفاق أوسلو 1993 ليعطي "ياسر عرفات" ذلك الكرسي العبقري داخل الصالون الذي افترضه أو تصوره السادات.

فقد أعطت إسرائيل لعرفات حكما ذاتيا أفضل مما كان يأمل فيه السادات فهل نجح ذلك الكرسي أن يحل القضية الفلسطينية؟ أو أن يوقف أي قدر من شهية اليهود في قضم وابتلاع الأراضي؟! وهل التزمت إسرائيل بما اتفقت عليه مع عرفات أم انقلبت عليه وقتلته؟! ثم كيف تتعامل إسرائيل الآن مع سلطة أوسلو سوى أنها حولتها إلى إدارة تابعة للأمن الإسرائيلي ووظفتها في ضرب الحركات المقاومة واختراق الأمن القومي العربي والإسلامي أيضا؟!

ثم كيف تعاملت إسرائيل مع المبادرة العربية للسلام 2002م؟ هل قبلت بتنازلات العرب فيها والتي فاقت تنازلات السادات في كامب ديفيد؟ أم أنها كشفت أن لإسرائيل مشروعا استعماريا كانت كامب ديفيد إحدى إنجازاته الهامة، حيث اخراج القوة العربية الرئيسة من دائرة الصراع، بل وتوظيف دورها ونفوذها في تكريس هذا المشروع؟

إننا يجب أن ندرك أن هذا المنطق الساداتى يتغافل تماما أن هناك علم كامل أسمه "التفاوض السياسي"، وأن الصراع العربي الإسرائيلي يعد بلا منازع أعقد صراع يشهده العالم المعاصر.

إن هذا المنطق يغمض عينيه ويريدنا أن نسير خلفة معصوبي الأعين عن مشروع إسرائيلي كبير معلن قاعدته فلسطين بكاملها، وامتداداته تشمل أجزاء أخرى كثيرة من الدول العربية وأهدافه تقوم على تفتيت وشل حركة المنطقة العربية بالكامل ولمدى زمني مفتوح.

فلا ينبغي على المبصرين في أمتنا أن يهملوا حقيقة أن الصراع العربي الإسرائيلي يعد من أعقد الصراعات التي يشهدها عالم اليوم، ولاسيما في جانبه الفلسطيني حيث تعتمد إسرائيل على ابتلاع كامل أرضه كمقدمة أساسية لقيامها بمشروعها الكبير في المنطقة. لهذا فإن الأراضي الفلسطينية كلها تمثل في نظر المخططين الإسرائيليين القلب النابض واللحم الحي لمشروعهم في المنطقة.

وإن هذا المشروع هو امتداد حقيقي وطبيعي للمشروع الغربي بالمنطقة الإسلامية، والذي يعتبر إسرائيل هي رأس حربته فيها. لهذا فإن الغرب بكل مكوناته يقف ويصطف بكل قوة خلف تحركات إسرائيل ويؤيد كل حروبها ويتغاضى عن كل جرائمها، ولهذا فإن الجري وراء امكانيات التعارض أو التنافر بين المشروعين هو ركض وراء سراب في صحراء بلانهاية.

فالمشروع الإسرائيلي العدواني تضرب جذوره بقوة في أعماق الأرض والفكر الأوروبي والأمريكي. فإذا كانت الولايات المتحدة هي التي تقود اليوم الجهود الغربية عامة لتمكين هذا المشروع في منطقتنا، فإن فرنسا نابليون هو أول من شجع اليهود على التجمع في فلسطين لعزل بلاد الشام عن مصر، وذلك إبان حملتها الهمجية على مصر وفلسطين وبلاد الشام، وهي أول من أمدها بالمفاعل النووي في ستينات القرن الماضي والذي بنت عليه ترسانتها النووية.

وإن بريطانيا العظمى هي التي قادت الجهود الأوربية للعمل على توطين اليهود في فلسطين منذ عام 1882 وحتى 1914، إلى أن وصلنا إلى وعد بلفور الذي أعطى لليهود الحق في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.

لهذا يجب أن ننتبه لمحاولات تسطيح هذا الصراع، ومن ثم الترويج للسلام الإسرائيلي وكأنه مشروع حقيقي أخطأ كل من رفضه ولا زال يخطئ من يرفضه أو يقاومه.