قضايا وآراء

هل غادرنا حقّا مربّع الاستبداد وقمع حرية التعبير؟

1300x600
أعاد الحوار الذي أجراه الرئيس التونسي السابق مع قناة التاسعة التلفزية إلى الواجهة مسألة استقلالية الإعلام، كما أعاد إلى السجال العمومي تلك المخاوف المرتبطة بنوازع التغول التي حذر منها الكثير من التونسيين قبل فوز نداء تونس في الانتخابات التشريعية والرئاسية معا. ورغم أنّه لا يمكن الجزم بتعرّض قناة التاسعة إلى ضغوطات من مؤسسة الرئاسة- لأن صاحبها لم يقم بندوة صحفية ولم يرفع قضية في الغرض-، فإنّه قد سبق لنقابة الصحفيين أن عبّرت أكثر من مرة على لسان نقيبها الأستاذ ناجي البغوري، عن قلقها من التضييقات المتنامية على العمل الصحفي بعد انتخابات 2014 وهيمنة نداء تونس على مفاصل الحكم وعلى الرئاسات الثلاث. وهو ما يجعلنا نُرجّح صدق الروايات التي تتحدث عن ضغوطات "شديدة" من كبار موظفي القصر -خاصة من السيدين نور الدين بن تيشة وسليم العزابي- على قناة التاسعة، وغيرها من المنابر الإعلامية العمومية والخاصة؛ قصد إقصاء رموز المعارضة الراديكالية من أمثال السيدين محمد منصف المرزوقي ومحمد عبّو وغيرهما.

لا يمكن فهم هذا الوضع المنذر بالعودة إلى مربّع الاستبداد –حيث تتولى مؤسسة الرئاسة وظيفة وزارة الإعلام، وحيث يخلف السيدان بن تيشة والعزابي عرّاب "أحادية الصوت" والقمع المنهجي لحرية التعبير، في عهد بن علي "غوبلز تونس" عبد الوهاب عبد الله-، لا يمكن فهم هذا الوضع إلا بربطه بجملة من التراكمات والمسارات الارتكاسية، التي جعلت من الحتمي أن تتجه الأمور إلى هذه الزاوية المهددة لآخر ما تبقى من مكتسبات الثورة، أي المهددة لحرية التعبير. ولفهم ذلك بصورة أفضل قد يكون علينا أن نستعرض –ولو بطريقة اختزالية– ما حصل بعد "الثورة" التونسية في 14 جانفي 2011. 

في مستوى الخطاب، لم يختلف كل الفاعلين الجماعيين في تونس بعد الثورة على ضرورة إصلاح المنظومة الإعلامية المتحدرة إلينا؛ من عهد بن علي ونظامه الاستبدادي الذي هيمن على الحقل العام وجعل الإعلام مجرد أداة للدعاية والتزييف. وقد انعكس هذا الإجماع الوطني في الكثير من القرارات لفائدة القطاع الإعلامي، وخاصة من خلال دسترة هيئة تعديلية -لا رقابية- تشرف على القطاع الإعلامي وتكون شريكا حقيقيا للسلطة في التعيينات التي تقوم بها على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية. كانت "الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال" مكسبا حقيقيا للإعلام – وذلك رغم أنها كانت في فلسفتها الأصلية جزءا من مشروع "الإنقاذ"، الذي كان الرئيس المخلوع ينوي الالتفاف بها على مطالب الثورة قبل 14 جانفي 2011-.

بصرف النظر عن محصول هذه الهيئة وعن كل الطعون التي تم توجيهها إلى تركيبتها ودورها الحقيقي في إعادة إنتاج التضامنات المهيمنة على القطاع الإعلامي قبل الثورة، وبصرف النظر عن الانتقادات الموجهة إلى الحكومات المتعاقبة من جهة عدم تفاعلها الجدي مع مقترحات هذه الهيئة، فإنّه لا يخفى على أحد أنها لم تكن في مستوى الانتظارات، وأنها لم تكن أيضا على مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، بحيث عجزت عن أن تكون –بحكم تراكم القرارات المنحازة والمؤدلجة- جزءا من الحل، بقدر ما نجحت في أن تصبح هي نفسها مظهرا من مظاهر الأزمة وتجسيداتها المؤسساتية، بل والقيمية أيضا.

في عهد الترويكا، لم يكن إصلاح الإعلام يعني "واقعيا" الشيء نفسه بالنسبة إلى مختلف الأطراف المتصارعة على الهيمنة على الرساميل المادية والرمزية للبلاد، والراغبة في توجيه الرأي العام وتشكيله بطريقة تخدم أنظمة تفكيرها الدينية أو العقلانية. كما لم تكن نوايا الإصلاح منفصلة عن سياقاتها وعن وظائفها في تغيير موازين القوى بين النهضة والترويكا -بصفة عامة-، وبين "العائلة الديمقراطية" بقيادة نداء تونس الوريث الشرعي –لا الوحيد- للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل. خلال تلك الفترة "الانتقالية " والهشة من تاريخ تونس، كان ما تعنيه النهضة بإصلاح الإعلام بالنسبة لغيرها نوعا من إرادة الهيمنة، ومن الرغبة في توظيف الإعلام العام لأغراض حزبية وإيديولوجية مخصوصة. وهو منطق فيه نسبة من الصحة رغم أنه لا يقول الحقيقة كلها. أمّا «استقلال الإعلام» وحرية التعبير اللذان تدافع عنهما المعارضة بكل مكوّناتها، فقد كانا بالنسبة للنهضة نوعا من تثبيت الرأسمال البشري- الشيو-التجمعي- في مواقع الفعل والقرار وذلك قصد توظيفه في إدارة الصراع "الوجودي" ضد الترويكا ونواتها الصلبة، أي ضد النهضة نفسها. 

لقراءة سياسات الترويكا وتدبرها من مواقع مختلفة، يمكننا أن نركن إلى منطق التبرير –أي يمكننا مثل مشايعي النهضة أن نبرر العجز عن الإصلاح بانتفاء القدرة لا بانتفاء الرغبة، أي يمكننا أن نسلّم  بعجز الحكومة "الفعلي" عن خلخلة الحقل الإعلامي أو تغيير بنيته ووظيفته باعتباره جزءا من القوى المعارضة للشرعية "الانتخابية"، والمنحازة موضوعيا للمعارضة الانقلابية-، كما يمكننا أن نعتمد منطقا آخر ينطلق من موقع ضديد مفاده أنه لم يكن من مصلحة الترويكا -وخاصة النهضة- إصلاح المنظومة الإعلامية، لا لأنّها كانت تحتاج إلى "فاسدين" يقبلون وضعية الاستلحاق والاستكتاب والتدجين"فقط"، بل لأنها كذلك محتاجة إلى "فاسدين" يساعدونها -من حيث لا يقصدون- في حملتها الانتخابية المبكّرة، وفي سياسة تسريع "الدمار الذاتي" التي اعتمدتها النهضة ضدّ أغلب القوى المعارضة المتحالفة مع الإعلام. وبصرف النظر عن القيمة التفسيرية والوجاهة العلمية للتفسيرين الواردين أعلاه، فمن المؤكد أن فترة الترويكا لم تعرف قمعا نسقيا للحريات الإعلامية، ولم تكن تسطيع ذلك بحكم التفاف أهم الفاعلين السياسين والمدنيين والنقابيين في صف حرية الإعلام-وذلك بصرف النظر عن المقصود بتلك الحرية والمستفيدين منها من خارج الحقل الإعلامي-. 

إذا كانت النهضة خلال حكم الترويكا قد اختارت سياسة الاستفادة من "تثبيت" الوضع الإعلامي المأزوم، بل اختارت الدفع به إلى أقصى درجات التناقض الذاتي: تناقض بين الخطابات الإعلامية ذات النفس النيو-تجمعي ومطالب الثورة وانتظارات الناخبين، وتناقض بين تلك الخطابات والقطع مع ميراث بن علي المهيمن على المشهد الإعلامي، فإنّ نداء تونس قد اختار بعد وصوله إلى سدّة الحكم أن يستعيد ممارسات سلفه التجمعي، تلك الممارسات القائمة على إفراغ المكتسبات الدستورية والقانونية من روحها وجعلها بلا قيمة في الواقع. فنداء تونس قد ورث عن التجمع وعن المخلوع الاحترام "الصوري" للمؤسسات، ولكنه ورث عنها أيضا قدراتهما المافيوزية على إفراغ القوانين والمؤسسات من أي دور لا يخدم استراتيجيات الهيمنة المرتبطة بالقصر وبمراكز النفوذ الجهوية والمالية والإيديولوجية المرتبطة به.

ولعل ما يسهّل عمل الردة عن حرّية التعبير ومكتسبات القطاع الإعلامي، هو ارتباط الأغلب الأعم من الجهات المشرفة على الإعلام بالمنظومة التجمعية قبل الثورة وانحيازها الصريح للمنظومة النيو-تجمعية بعد الثورة. وهو ما يعني –لو استعرنا مصطلحا شهيرا لمالك بن نبي- "قابلية" القطاع للتدجين والتوظيف وذلك بحكم ارتباط مصالح مموّليه بورثة التجمع وحلفائهم الإيديولوجيين في اليسار الثقافي.

فاسترتيجيات الهيمنة لا يمكن أن تنجح إلا قليلا في حقل إعلامي يرفض تلك الهيمنة، ولكنها ستنجح لا محالة عندما يكون الفاعلون في ذلك الحقل مستعدين للتخلي عن جزء من محصول عقولهم -بل عن عقولهم كلها- مقابل جملة من الهبات والامتيازات المادية والرمزية التي يوزّعها القصر الرئاسي مباشرة –عبر التعيينات- أو عن طريق حلفائه –عبر الإشهار خاصة-. ولا شك في أن نداء تونس -بحكم غياب أي إرث ديمقراطي أو ممارسة ديمقراطية بين قيادييه - سيواصل سياساته الرامية إلى "تجفيف منابع المعلومة المعارضة"، كما أنه سيواصل استعمال كل الأساليب التي ورثها من سلفه التجمعي وعقليته الأمنية-الاستبدادية. وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى قدرة المجتمع السياسي أو المدني على مواجهة هذه النوازع الاستبدادية ومواجهتها قبل أن تصبح  أحادية الصوت هي القاعدة وتعدديته استثناء.

بعد ما تعرض له الرئيس السابق محمد منصف المرزوقي من "تضييقات" إعلامية تراوحت بين التدليس والصنصرة، وبعد ما تعرضت له قناة  التاسعة من "ضغوطات"، قد يكون على المتدخلين في القطاع الإعلامي –أعني تحديدا أولئك الراغبين في ممارسة حريتهم في التفكير والتعبير بعيدا عن وصاية القصر أو غيره - أن يُفكروا بجدية في مدى تمثيل "الهايكا" لهم، بل في مدى قدرة هذه المؤسسة الدستورية على حماية الإعلاميين في مواجهة تغوّل الدولة. كما قد يكون عليهم أن يخرجوا من وضعية "الرضع الدائمين" حيث يعتمدون على السياسي أو النقابي لتحقيق المكاسب وحمايتها، وهو ما يعني ضرورة فتح ملف "حرية الإعلام" المهددة بنوازع التغوّل في مؤسسة الرئاسة ومن وراءها من اللوبيات المالية والجهوية. وكما قال المثل العربي القديم"ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، فإنّ تشكي الكثير من الإعلاميين "على استحياء" من عودة الممارسات الرقابية الاستبدادية سيكون فاقدا للمصداقية إذا لم يعلنوا ذلك صراحة من أعلى المنابر التابعة لهم قبل غيرها، وإذا لم يُتبعوا كل ذلك برفع قضايا لدى المحاكم، وذلك لتتبع كل من سيثبت البحث تورطه في هذه الممارسات التي أصبحت تهدد حرية التعبير باعتبارها المكسب الأوحد الذي لم تنقلب عليه إلى الآن "الماكينة" النيو-تجمعية.