قضايا وآراء

خواطر حول الشريعة والدستور

1300x600
رغم ما نشهده من انخفاض لمنسوب الاحتقان الإيديولوجي في تونس، ورغم كساد سوق المزايدات الهووية-الثقافوية بحكم ضرورات التوافق وإكراهات الوحدة الوطنية، ورغم أن القانون الوضعي يقابل علميا القانون الطبيعي لا الشريعة، رغم ذلك كله فإنّ الانقسام السياسي الحاد بين الإسلاميين والعلمانيين -وهو انقسام يأخذ أحيانا طابع الصراع"الوجودي" لا طابع الخلاف السياسي- يظل في بلادنا ثابتا بنيويا يهدد السلم الأهلية بالانفجار في أية لحظة. مبدئيا، يمكننا اعتبار مسألة الشريعة الإسلامية -بما تحمله من رؤية مخصوصة للعالم ولمنزلة الإنسان فيه- بمثابة القضية الأم التي تُردّ إليها جميع القضايا المشتقة الأخرى. ولو بحثنا عن النماذج المثالية التي تُردّ إليها خطابات المتدخلين في قضية تضمين "الشريعة الإسلامية" في الدستور التونسي، لوجدنا أنها لم تخرج عن أربعة. وهي نماذج مثالية بالمعنى الذي صاغه ماكس فيبر لهذا المفهوم لأنها لا توجد"صافية" في ملفوظات الخطاب، بل توجد في الأغلب متخذة سمة"الهُجنة"، فقد تتداخل وتتفاعل ولا تتنافى بالضرورة، وقد يوجد التعليل نفسه في نموذجين مختلفين، وقد يختلف بناء النسق الحجاجي بين شخصين منتميين للنموذج المثالي نفسه. وهذه النماذج المثالية هي التالية: 

1- نموذج أوّل يعتبر أصحابه أنّ التشريع الوضعي هو خطوة "تقدمية" تتجاوز جدليا المنظومة التشريعية التي حكمت المجتمعات التقليدية ما قبل الحداثية. وهذا النموذج التفسيري لا يرى أي علاقة "اشتقاق" ممكنة بين القانون الوضعي وفلسفته وبين التشريع الديني وأصوله. فالقانون هو كينونة موازية للشريعة ولا يمكن أن يتجاوز دور "الفقيه" مستوى "تسويغ" ما ابتدعه المشرّع العلماني في استقلالية عن الوعي الجمعي أو حتى في تعارض معه -بحكم الطبيعة"التقدمية"للقوانين التي قد تتقدم على واقعها و لا تكون بالضرورة مساوقة له أو معبرة عن النسق الثقافي المهيمن-. وبالنسبة للقائلين بهذا الطرح -وأغلبهم من القوى العلمانية اليسارية والليبرالية- فإنّ الحديث عن الشريعة الإسلامية هو من باب "الموقف الرجعي" في المستوى الحقوقي أو الثقافي العام ولذلك فإن رفض الشريعة هو رفض راديكالي ومطلق، بل هو رفض قد يبلغ أحيانا درجة الهوس أو ردود الأفعال المرضية كما وقع عند طرح موضوع الصيرفة الإسلامية أو موضوع الأوقاف.

2- نموذج ثان يرى الآخذون به أنّ التشريع"المدني" -وهو في الأساس لا يقابل الشريعة بل يتعمق في معانيها الكلية ومقاصدها الكبرى- ليس في الحقيقة إلا تغليبا لقراءة مقاصدية يمكن أن تجد ما يُشرّع لها داخل ملفوظات النصوص فضلا عن تأويلاته القريبة وممكناته المتناهية إذا ما رُبطت بالوقائع اللامتناهية. ولا يهمّ هذا الطرح أنّ القانون التونسي قد نشأ خارج الزيتونة، بل ضدّ اختياراتها التراثية -وإن تمّت "شرعنته" ما بعديا من طرف المؤسسة الدينية الرسمية- بل منتهى ما يعنيه هو أنه يستطيع أن يتأوّل القانون"المدني" باعتباره استمرارية للشريعة ضمن سياق حداثي. وفي هذا المنظور، يمكن أن يتجاور المنطقُ الليبرالي والمنطق التأصيلي المقاصدي في تجلياته القصوى. ولم يجد أنصار هذا الطرح -وهو الطرح الذي غلب على حركة النهضة خاصةً-، سببا يدعو إلى المراجعة الجذرية للقانون الوضعي، مع إقرارهم-لأسباب عقدية أو انتخابية براغماتية- بإمكانية الاشتغال"الموضعي" localisé على بعض الأحكام قصد ردّها إلى البداهة الشرعية وإبعادها عن دائرة التعارض عن "المعلوم من الدين بالضرورة".

3- نموذج ثالث يذهب أنصاره إلى أنّ التشريع "الوضعي" يضادد بالضرورة أغلب الأحكام الشرعية، فكانت الدعوة إلى تحكيم الشرع هنا ضربا من "القطيعة" مع الموروث المنظّم للاجتماع التونسي في مستويات الأحوال الشخصية والتعاملات المالية والقيم الأخلاقية أوالمرجعيات الفلسفية المتحكمة في المجال العام - سياسةً واقتصادا وثقافة-. إننا أمام نقد جذري وغير مهادن لكل ما يؤسّس الفلسفة السياسية الحديثة. ولكنّ أصحاب هذا الطرح-وأغلبهم من السلفيين ومن المنتمين إلى حزب التحرير- وجدوا حرجا في إقناع غالبية المتلقين بوجاهة إحياء المنظومة القيمية التراثية،كما وجدوا عنتا في الدفاع عن النظام العقابي الإسلامي الذي يكاد أغلبهم يختزل فيه معنى الشريعة. ولعلّ أكبر تحدّ يواجهه هذا العقل التراثي هو عجزه عن تقديم نسق حجاجي يقنع عامة المواطنين بأنّ لهم مصلحة مادية ورمزية في الإعراض عن آخر منتجات العقل السياسي الحديث-الديمقراطية- بنسق فقهي ينحدر من الآداب السلطانية ومرايا الملوك ومن الوعي "المُتمذهب" الذي كان مهيمنا على "الجماعة الإيمانية" السّنية داخل المجتمعات التقليدية. ورغم "لا تاريخية" هذا الطرح وخطورته على النسيج المجتمعي وعلى الحريات الأساسية للمواطنين، فإنه يبقى طرحا جاذبا لبعض الفئات الاجتماعية التي استيأست من الدولة القُطرية ومن منطقها في توزيع الثروة والسلطة. ولا شك في أن تلك الجاذبية تزداد كلما فشلت التجربة الديمقراطية أو اقترب الحقل السياسي من "الملك العضوض" على حد تعبير القدماء.

4- نموذج رابع يقول المنافحون عنه بأنّ طرح المسألة هو طرح مغلوط ولذلك فهو محُوج إلى إعادة ضبط وتحرير. يتعامل هذا الطرح نقديا مع الأنساق الإيديولوجية المتصارعة ويرى في الكثير من أفكارها ضربا من التسطيح والاختزال. فليس كل ما يُنسب إلى "الشريعة" هو من شرع الله، كما أنه ليس منافيا بالضرورة للفلسفة السياسية الحديثة على عكس ما يروج له القائلون بـ"الاستثناء الإسلامي" من العلمانيين والإسلاميين. وليس كل ما يُنسب إلى القانون الوضعي مضاد بالضرورة والقصد للدين أو معطّل لنجاة الإنسان في الآخرة -اللهم إلا في اللائكية الفرنسية التي تكاد أن تكون دينا وضعيا يهدف إلى وراثة الأديان التقليدية-. ولذلك لا يكون التقابل بين تشريع وضعي/مدني وبين تشريع فقهي/ديني، بل هو تقابل بين وعي مذهبي "سُنّي" يخفي طابعه المذهبي تحت استعارة كبرى هي "الشريعة الإسلامية" -ذلك الوعي المذهبي الذي يتبني أطروحات "احتجاجية" شعبوية تختزل الأزمة الشاملة في مقاربة ثقافوية مبتسرة مفادها أن" الإسلام هو الحل"، وبين وعي "قُطري" شوفيني يُخفي إخفاقاته في إدارة مرحلة ما بعد الاستقلال تحت استعارة كبرى هي "الدولة-الأمّة" l’état-nation، ذلك الوعي الذي يتبنّى منظومة قيمية "مسقطة" على الواقع السوسيو-ثقافي العربي الإسلامي لا سند لها إلا "أسطورة" التحديث باعتباره المرجع النهائي للفعل الجماعي. وفي هذا المنظور الأخير -وهو منظور "أقلّي" لم يتمتع بقاعدة شعبية كبيرة بحكم أنه لا ينتمي لأي نسق إيديولوجي معروف ولا يتماهى مع أي فاعل سياسي-، لا يمكن الخضوع لفتنة "التضاد"الوهمي بين الإسلاميين والعلمانيين بطرح المسألة في مستوى ثقافوي. فالمجتمع التونسي لا يحتاج إلى نقض موروثه التشريعي "الوضعي" -بل هو غير قادر على ذلك إلا في المستوى الطوباوي سواء أكانت الطوبى دينية أم علمانية-، ولكن على هذا المجتمع ألاّ يؤلّه هذا الموروث التشريعي، وعليه أيضا ألاّ يجعله خارج إطار التفاوض الاجتماعي المؤدّي إلى تسويات تكون مقبولة من طرف أغلب الفاعلين الجماعيين. 

منذ "الانكسار البنيوي" الذي أعقب الحدث الاستعماري وما أعقبه من دخول القانون إلى الفضاء الإسلامي منافسا أو بديلا للشريعة، عاشت مجتمعاتنا العربية الإسلامية –بدرجات متفاوتة- "رضّة" حضارية جعلتها مثل النقطة السوداء على خارطة العالم، ولكنّ ميزة هذه النقطة في السياق التونسي أنها كانت تحتمل كل المساحة اللَّونية التي اتخذها دستورنا من خلال إجابته عن سؤال "التشريع"، أو عن سؤال "الأب الرمزي" الذي ينبغي له أن يضع في "دستوره" ما يمنع الأبناء من التفكير في قتله، أي ما يمنعهم من التفكير في الثورة عليه مرة أخرى. فإلى أي حد نجح "الآباء المؤسسون" للجمهورية التونسية الثانية في هذه المهمة، وهل كان دستورهم فعلا انعكاسا لانتظارات الأبناء "كلهم" وحاجياتهم المختلفة رمزيا وماديا، أم كان مجرد انعكاس لإرادة الأقوياء منهم وتوازنات القوّة بينهم وحدهم دون سواهم، تلك التوازنات الهشة التي قد لا تكون هي القاعدة الصلبة لبناء منتظم سياسي ثابت وقادر على مواجهة الأزمات في زمن الإرهاب الديني والاقتصادي المُعولم؟