قضايا وآراء

لماذا تصرّ "القوى الديمقراطية" على شيطنة "حركة النهضة"؟

1300x600
لا يختلف المراقبون للشأن التونسي في أنّ السمة الغالبة على العلاقة بين "القوى الديمقراطية" والإسلاميين هي سمة الصدام والصراع. وقد كانت حدّة العداء للإسلاميين تزداد في الأزمات التي عرفتها البلاد خلال فترة الترويكا. وهي أزمات ارتبطت بالاغتيال السياسي وبالتهديدات السلفية بتغيير نمط حياة التونسيين وغير ذلك من التهديدات الحقيقية والمتخيلة -. ولكنّ تلك الحدة لم تخفت حتى بعد رحيل الترويكا وتولّي نداء تونس-الوريث الشرعي لا الوحيد للتجمع المنحل- مقاليد الحكم وسيطرته المباشرة على الرئاسات الثلاث-رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب-، وذلك لأنه اختار أن يتحالف مع حركة النهضة بعد أن فرض عليها تمثيلية وزارية غير معبرة عن حجمها النيابي وثقلها الشعبي. 

في الفترة الأخيرة، عادت حدة الصراع مع حركة النهضة إلى الضوء بعد أن طرح رئيس الدولة إمكان تشكيل حكومة وحدة وطنية. فكان أن سارعت العديد من "القوى الديمقراطية"-حتى تلك التي لا تمتلك ولو نائبا واحدا في البرلمان-  إلى مهاجمة  حركة النهضة وإلى محاولة إضعاف موقعها التفاوضي بوضع جملة من الشروط التعجيزية التي على الحركة الوفاء بها إن هي أرادت أن "تُطبّع" مع الحقل السياسي التونسي. وهو ما يعبّر عن لازمة صدامية تطبع  سلوك  أغلب "الديمقراطيين" في علاقتهم بحركة النهضة، بحيث تبدو هذه العلاقة محكومة في كل سياقاتها باللاتواصل والإقصاء والتهميش في حدها الأدنى، ومفتوحة على التهديد ب"تَونسة" السيناريو المصري في حدها الأقصى. وسنحاول في هذا المقال أن نقف في نقاط معدودة عند جملة من المحددات الصريحة والضمنية التي تحكم علاقة "القوى الديمقراطية" بحركة النهضة منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 التأسيسية:

1- يجب انتقاد النهضة  في المسألة الأمنية لأن ربط الإرهاب بنظام بن علي أو بهشاشة الدولة بعد 14 جانفي 2011،  سيفتح الباب أمام مساءلات "محرجة" للمسار"التوافقي" الأهمّ، ذلك المسار الارتكاسي الذي أرجع "صُنّاع صانع التغيير"إلى واجهة المشهد السياسي والاقتصادي والإعلامي والأمني-وهو التوافق الذي لا يتحدث عنه السياسيون عادة  كي يستطيعوا شيطنة أية توافقات مع الإسلاميين- ، كما أنّ"تجهيل" الشعب التونسي بصورة منهجية وقصف عقول المواطنين بمعلومات مغلوطة وبمقاربات تسطيحية واختزالية يمنع من تشكّل "رأي عام" قادر على طرح الأسئلة الحقيقية واجتراح أجوبتها بنفسه بعيدا عن أي وصاية من لدن "المكلفين بمهمة" عند غرفة عمليات الدولة العميقة من الإعلاميين والمحللين وأشباه الخبراء. 

2- يجب تكثيف الخطابات الكارثية حول فترة الترويكا وتأثيم تلك التجربة، لأنّ حصر تاريخ تونس في فترة حكم الترويكا واختزال أزمة الحقل السياسي في حركة النهضة وفي حليفيها  سيمنع أي مساءلة "جذرية" للدور الذي لعبته النخب"التقدمية" في تكريس نظام بن علي وتبرير اختياراته الثقافية وقبضته الأمنية وشبكاته الزبونية -المافيوزية التي يراد لها أن تكون هي"قاطرة" الجمهورية الثانية بالمفهوم"التوافقي" الأصلي ، ذلك المفهوم الثوري المضاد الذي يجب دائما إبعاده عن السجال العمومي قصد شيطنة "التوافق المشتق"-أي التوافق مع حركة النهضة حتى عندما يكون ضمن أفق إصلاحي بعيد عن استحقاقات الثورة وانتظارات ناخبي النهضة ومستضعفيها. 

3- يجب قتل النهضة رمزيا -والتلويح بقتل النهضويين ماديا كما فعل الكثير بعد الانقلاب المصري وفي كل أزمة أمنية- ، لأنّ اتهام النهضة والترويكا سيمنع من أي مساءلة لفترة حكم الغنوشي-التجمعي الصريح- والباجي قائد السبسي -التجمعي-الجديد-، كما سيمنع أي محاسبة للأداء الكارثي لحكومة"التكنوقراط" ولحكومة الحبيب الصيد من بعدها وذلك من جهة الأداء السيء في المسألة الأمنية والأداء الأكثر سوءا في المسألة الاقتصادية. ويهدف هذا القتل الرمزي وما يصاحبه من دعوات للقتل الحقيقي إلى مساعدة "النواة الصلبة للنظام" في حرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للأزمة باعتبارها أزمة "منظومة" تسلطية استبدادية-بجهازها الايديولوجي وذراعها الأمنية- ، وهي منظومة موروثة عن نظام المخلوع ويراد لها أن تهيمن على الحقل العام من جديد، لكن مع استعمال تبريرات"ثورجية" وبالاستفادة من الشرعية الانتخابية"المشبوهة" بالمال السياسي الفاسد  بحيث تستثمر المسار الانتقالي برمته  قصد الهيمنة كرّةً أخرى على المشهد العام.

4- لا يجب الكف عن ابتزاز النهضة والدفع بها نحو الحائط وذلك لأنّ ذلك سيؤدي -في حده الأدنى-وظيفة انتخابية –أي تقليص حظوظ حركة النهضة وكل من يخاطر بالتحالف معها  في الفوز في أي استحقاق انتخابي قادم بدءا من البلديات ووصولا إلى أي انتخابات أخرى سابقة لأوانها في صورة شغور منصب رئيس الجمهورية-، كما سيؤدي هذا الاتهام -في حده الأقصى-وظيفة"ابتزازية" لحركة النهضة ،وهو ابتزاز يترواح بين التلويح بحل الحركة-بتهمة التواطؤ مع الإرهاب ورعايته عبر بعض قياداتها "المشيخية"-، وبين الحل الفعلي للحركة في صورة ما سمحت الوضعية الإقليمية والإملاءات الدولية بذلك ولو بعد حين.

5- يجب معاملة النهضة باعتبارها جسما غريبا عن الحقل السياسي التونسي، بل عن المجتمع التونسي -وكأن من ينتمون إليها أو يتعاطفون معها قد جؤوا من المريخن أو كأنهم ليسوا نتاج الدولة التونسية وخياراتها الكبرى اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا-، لأنّ اتهام النهضة والترويكا يعمل على استمرار الاصطفاف على أساس هووي-ثقافوي ، وهو ما يمنع من إدارة الصراع بمفرداته وأسئلته وأجوبته الحقيقية التي هي جميعا ذات جذر اقتصادي يرتبط بمطلبي إعادة توزيع الثروة والسلطة-. كما يعمل هذا الاتهام على تكريس سلطة "اليسار الثقافي" المرتد على مفاهيم الصراع الطبقي والذي أصبح مجرد طابور خامس في خدمة الاستراتيجيات البرجوازية ، بالإضافة إلى شرعنة الخطابات اللاوظيفية "للترسبات المخابراتية" التي أعيد رسكلتها تحت مسميات كثيرة تتراوح بين"الإعلامي" والنقابي" و"الخبير" وغير ذلك من الأسماء التي مدراها الفراغ القيمي والبؤس المعرفي. 

6- ينبغي استرهاب الوعي الجمعي بالنهضة وبحركات الإسلام السياسي كلها، لأن عدم اتهام النهضة يعني مواجهة العطالة التفسيرية والأزمة البنيوية  لكل السرديات "الحداثوية" التي تعجز عن حل تناقضاتها وتجاوز مآزقها النظرية والعملية  بدون البحث عن "أضحية" نموذجية ، أو بدون "التثبيت" المرضي على "خارج مطلق"(بالمعنى الدّريدي للكلمة)،أي بدون "خلق" عدو مطلق لا يقبل أي صيغة من صيغة التواصل والتعايش، عدوّ لا يمكن التعامل معه إلا بمنطق"التنافي". فالنخب العلمانية التي يعبر عنها مصطلح "العائلة الديمقراطية" تصرّ على إدارة الصراع على أساس أنه "صراع وجودي" لا على أساس أنه "صراع سياسي" يرتبط بحراك اجتماعي وثقافي واقتصادي يوجب التفكير في الأسس الفلسفية للجمهورية الثانية بعيدا عن الترسبات الايديولوجية والمقاربات الثقافوية التي طبعت الفلسفة السياسية "للجمهورية الأولى" بلحظتيها البورقيبية-الدستورية والنوفمبرية-التجمعية. 

7- لا يجب تخفيف الضغط على حركة النهضة ولا على حلفائها في الترويكا أو من يدعو الى التطبيع معها الآن، وذلك لأنّ هذا السلوك الصدامي يبعث برسالة قوية إلى كل القوى العلمانية التي قبلت بالتعامل مع حركة النهضة أو تفكر في التطبيع معها بأنها ستطرد من "العائلة الديمقراطية" وسيتم التعامل معها من منطلق العداوة الوجودية لا الخصومة السياسية. إننا أمام شكل من أشكال الابتزاز النسقي الفعّال بحكم سيطرة"الديمقراطيين" على أهم مفاصل الدولة وعلى الإعلام والنقابات والجامعات وغيرها. ولو شئنا تلخيص ما تقدم كله في هذه النقطة لقلنا إن شيطنة النهضة والترويكا هو استراتيجية استباقية تمنع إعادة تجربة الحكم المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين  وذلك باسترهاب كل من يفكر في التقرب من حركة النهضة وتذكيره دائما بالكلفة السياسية والاجتماعية التي عليه دفعها.

8- يجب ممارسة إرهاب لغوي على حركة النهضة- وذلك لأن هذه الحركة - بصرف النظر عن طبيعة أدائها الذي يقبل في الواقع ألف احتراز وألف نقد موضوعي بعيدا عن كل التحيزات الإيديولوجية - يمكن أن تضرب خرافة الاستثناء الإسلامي في مقتل.  فلو نجحت النهضة في التطبيع مع القوى الديمقراطية وفي ترسيخ طابعها السياسي المدني فإنها ستثبت إمكانية أن يوجد إسلام سياسي متصالح مع الديمقراطية بل فاعل في إعادة بناء تعريفاتها وتوسيع حقلها الذي احتكرته القوى العلمانية طويلا. ولمنع هذا الإمكان، تسعى "القوى الديمقراطية" إلى التشكيك في أية مراجعات تقوم بها النهضة وإلى تتفيهها، بل تسعى إلى تأبيد تلك الحركة في صورة نمطية صنعها البوليس السياسي-بمعنييه الأمني والايديولوجي- في عهد بورقيبة وبن علي، وذلك قصد تسهيل عملية إقصائها سياسيا وضربها أمنيا إن واتت الظروف يوما ما. 

9- إنّ عدم اتهام النهضة يعني الاعتراف بشرعية الوجود الإسلامي في الحقل السياسي –بعد الانكسار البنيوي الذي عرفه هذا  الحقل إثر الثورة التونسية-، كما يعني  عدم اتهام النهضة  القبول بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع و"التطبيع" مع الإسلاميين والتعامل معهم على أساس أنهم "شركاء" ومواطنين "كاملي المواطنة"، لا على أساس أنهم جسم "غريب" و"مؤقت" و"طارئ" على "العائلة الديمقراطية" باعتبار تلك "العائلة"-كما تعرّف نفسها ذاتيا ،لا كما هو الواقع-  هي " المالك" الحصري والأوحد لحق الحكم والمعارضة في الوقت نفسه-. ولا شك أيضا في أنّ عدم اتهام الترويكا ونواتها النهضوية يعني التعامل "الموضوعي" مع تلك التجربة باعتبارها تجربة حكم " بشري" لا ملائكي ولا شيطاني، وباعتبارها أيضا خطوة "تقدمية" حقيقية- رغم كل هناتها المرتبطة بمنطق المحاصصة وبانعدام التأصيل النظري -، فللمرّة الأولى في تاريخ تونس يحكم العلمانيون والإسلاميون"معا"  تعبيرا عن إرادة شعبية حقيقية وبعيدا عن منطق الانقلاب المفضي بالضرورة إلى عسكرة الفضاء العام وقتل الحياة السياسية. 
لا شك في أنّ ما أعقب 14 جانفي 2011 كان "انكسارا بنيويا" حقيقيا في الحقل السياسي التونسي، وهو انكسار كان من بين أهم آثاره ضرب التجانس القسري-المفروض بحكم قوة السلطة وآلتها القمعية وليس بحكم الديناميات الاجتماعية العفوية- بين مكوّنات هذا الحقل. فقد فرضت الثورة وصناديق الاقتراع الإسلاميين باعتبارهم فاعلا جماعيا رئيسيا ينضاف إلى الفاعلين"العلمانيين" التقليديين -البورقيبين الليبراليين والقوميين واليساريين-. ولعل من أهم أسباب عطالة العقل السياسي"الحداثي"-في تجلياته العابرة للأقطار العربية- هو أنه أصرّ-ومازال- على التعامل مع الإسلاميين باعتبارهم ظاهرة سياسية "قانونية" مؤقتة، وفعل كل ما في وسعه إلى تحويل "منطق الرغبة"  إلى  منطق للواقع وللتاريخ وذلك بصرف النظر عن كلفته البشرية وعن آثاره في ضرب مسار الانتقال الديمقراطي من منظور استراتيجي.

تمنع الصور النمطية التي يتداولها العلمانيون عن الإسلاميين هؤلاء "الديمقراطيون" من التفكير فيهم خارج أسطورة "الاستثناء الإسلامي" والتعارض الماهوي والجذري بين الإسلام في ذاته وبين الديمقراطية. ولا يعني هذا أن الإسلاميين –بمن فيهم حركة النهضة-لا يتحملون جزءا معلوما  من المسؤولية في عطالة الحقل السياسي وفي الأزمة البنيوية التي يعاني منها، بل منتهى ما يعنيه هو أنّ "القوى الديمقراطية" التي من المفروض أن تسعى إلى "دمقرطة" الإسلاميين وجعلهم جزءا بنيويا ثابتا في الحقل السياسي، تسعى في الواقع إلى منع انبثاق هذا الإمكان  التاريخي ولو بالتحالف مع أكثر أعداء الديمقراطية شراسة-كالجيش والمؤسسة الأمنية والدولة العميقة وشبكاتها الزبونية-المافيوزية-، وهو ما يجعلنا نواجه قضية "نظام التسمية" وما يقوم عليه من أساطير تأسيسية وادعاءات/أوهام  ذاتية  قد يكون على المشتغل بالشأن العام أن يتصدى لها وأن يبّين دورها في تزييف الواقع وفي منع الانتقال "الديمقراطي" والسلمي من ضيق الدولة الاستبدادية-بجهازيها القمعيين الايديولوجي والبوليسي- إلى رحابة دولة المواطنة الاجتماعية وديمقراطيتها التشاركية.