بإعلان تنظيم الدولة "ولاية
سيناء" مسؤوليته عن مقتل أربعة من أفراد الشرطة، في محافظة الجيزة، يكون التنظيم قد نفذ تهديده السابق، بأنه سيصل للقاهرة، إذ تعد "الجيزة" ضمن
القاهرة الكبرى.
التنظيم سبق له أن أعلن مسؤوليته عن تفجير مبنى القنصلية الإيطالية في قلب العاصمة المصرية، وكان قبل الحادث الذي وقع في شهر يوليو الماضي، وفي أبريل من نفس العام قد هدد بأن القاهرة ستكون من ضمن العواصم المستهدفة بعملياته. وإذ اعتبرنا أن تفجير القنصلية، عملاً فردياً، لا يعبر بالفعل عن التهديد، فإن تكرار العمليات المسلحة بمقتل رجال الشرطة، والاستيلاء على أسلحتهم، يكون ذلك كاشفاً عن أن التهديد تجاوز الفعل الاستثنائي، الذي يعود التنظيم بعده إلى مجاله الحيوي في منطقة سيناء، التي لا نعرف حدود المعارك الدائرة فيها بينه وبين قوات الجيش، لاسيما وأن سلطة الانقلاب، قد منعت بقانون، التطرق الإعلامي للمعركة مع الإرهاب بالمخالفة لبيانات القوات المسلحة، ومنعت واقعياً الإعلام من أن يقوم بدوره في تقصي الحقائق، والوصول للحقيقة.
وإذا كان من تقاليد الحروب، أن تصطحب الجيوش معها، صحفيين يحملون صفة "المراسلين العسكريين"، لا يعلنون إلا ما يُملى عليهم، فإننا في ما وصفه
السيسي بالحرب على الإرهاب، وكرر وأكد بأنها حرب فعلاً، لم تصطحب القوات في حربها صحفيين، على نحو يؤكد أن الأمور خارج السيطرة، وإذا كان "المحرر العسكري" لن ينقل إلا البيانات الرسمية، فإن اتصاله الشخصي بالحقيقة ووقوفه عليها، يخشى عليه من التسريب في زمن العولمة، فكان لابد من حرب بلا "مراسلين حربيين"!
لسنا بحاجة إلى قرائن، قد ترتقي إلى مرتبة الأدلة، على أن الإرهاب الذي تقوم به "ولاية سيناء"، خارج السيطرة، فقد وقف العالم كله على ذلك، بحادث تفجير الطائرة الروسية، بواسطة هذا التنظيم، وبشكل أخرج عبد الفتاح السيسي بما حدث من دائرة الاحتفاء الغربي!
وإذا كان الإرهاب بات خطراً، لا تسلم منه الدول، فإن أزمة "أهل الحكم"، في أن فشلهم جاء في ملف لا يملكون غيره لتسويق أنفسهم غربياً، فالمهمة التي كلف السيسي نفسها بها، بجانب حمايته لأمن إسرائيل، هي مواجهة الإرهاب، والذي استدعاه بممارساته في سيناء، و كان باعترافه هو نفسه في طلب التفويض الشهير "محتملاً"، فصار واقعاً، وعندما أصبح كذلك فقد بدا عاجزاً عن مواجهته، ولم يكن لـ"
داعش" وجود، فحضرت، وكانت في سيناء فهددت بالوصول للقاهرة، ووصلت!
ولم يكن الفشل فقط في المواجهة، ولكن في التوصل إلى الجناة الحقيقيين، وسبر أغوار هذه العمليات، رغم أن يد قائد الانقلاب ليست مغلولة في وضع التشريعات التي يريد، كما أنه يتمتع بعدم وجود برلمان، قد يقيد حركته في الفعل المتصدي للإرهاب!
لعل القارئ غير المتابع يفاجأ إذا علم أن قرارات حظر النشر لا تزال سارية، في قضية اغتيال النائب العام رغم وقوعها في نهاية شهر يونيو من العام الجاري، كما أنها لا تزال سارية في قضية تفجيرات القنصلية البريطانية، فلم تحل للمحكمة، ما يعني أنه لم يتم إلى الآن التوصل للجناة، وإذا كانت "الفهلوة" المصرية قادرة على التعامل ولو بالقبض على أعمى يعلن مسؤوليته عن هذه الحوادث، أو ميت يسجن بتهمة ارتكابها، فإن وجود أطراف خارجية في هذه الحوادث، يمنع من استدعاء "الفهلوة"، ويحد من التعامل بطريقة "الثلاث ورقات"!
وإذا كان السيسي قد قدم نفسه غربياً، على أنه رجل إسرائيل في المنطقة، وأن التنسيق في عهده بين الأجهزة الأمنية المصرية والإسرائيلية فاق ما كان حاصلاً في عهد مبارك، باعتراف مسؤولين إسرائيليين، فإن نجاح الحركات المسلحة في القفز بعيداً عن مرمى السيطرة، لن يجعل إسرائيل في أمان!
"داعش" ليست اتجاهاً داعماً للربيع العربي، حتى وهي تضعف سلطة حكم الثورة المضادة في مصر، فتنظيم الدولة وجد لنفسه مكاناً في المحروسة بإفشال ثورتها، وهو ليس معنياً بعودة الثورة أو الانتصار لها، وليس مشغولاً بالشرعية وعودة الرئيس المنتخب، بل إنه ضد هذا كله، ومحمد مرسي لا يختلف كثيراً عنده عن عبد الفتاح السيسي، فكلاهما كافر، ومشروع التنظيم ليس مشغولاً بشعارات الثورة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، فهو يريد قتال العالم كله من أجل عودة دولة الخلافة على يديه، ليصبح الخليفة هو الخليفة، وأبو بكر البغدادي هو ولي أمر المسلمين، وإلا ما عادت.
فتنظيم الدولة، هو الامتداد للتنظيمات المسلحة، التي أفرزها
الاستبداد العربي، الذي يحوز على شرعيته من البيت الأبيض، وليس بإرادة الشعوب، وهو الذي أوجد ظاهرة "أيمن الظواهري"، الذي خرج من مصر بعد سجنه وتعرضه للتعذيب في سجون مبارك، وغير أفكاره، فقد كان تنظيم الجهاد الذي ينتمي إليه يؤمن بأن حرب العدو الداخلي مقدمة على الخارجي، فقد ترك الداخلي وذهب بتحالفه مع تنظيم القاعدة ليهدد الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها.
لنا أن نعلم أن الرجل الثالث في تنظيم القاعدة، ووزير مالية بن لادن الراحل "مصطفى أبو اليزيد"، لم يفكر في السفر لأفغانستان، عندما بدأت الدعوة للجهاد ضد المستعمر الروسي، فرغم أن كثيرين في بلدته "أبو حماد" بمحافظة الشرقية بمصر، هرولوا لتسجيل أسمائهم، فقد كان هو مشغولاً بالاستعداد لزواجه، ولكنه سافر لأفغانستان، هرباً من بطش النظام المصري، فقد كان يؤدي العمرة، عندما وقع حادث محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق "حسن أبو باشا"، وأبلغ أنه قد يلقي القبض عليه في المطار، لاسيما أن الأجهزة الأمنية تأخذ "العاطل في الباطل"!
وعندما وقعت الثورة المصرية، وفرح المصريون بقدرتهم على التغيير السلمي، ونجاحهم في إسقاط مبارك بكل جبروت حكمه، انخرط الإسلاميون بتنويعاتهم المختلفة في المسار السياسي، وأسسوا أحزابهم، ونافسوا في الانتخابات، وهم الذين كانوا يحرمون الحزبية، ويرون في البرلمان صرح الشرك الأكبر، وظهر من بين من قضوا زهرة شبابهم في السجون في قضايا الإرهاب، من هم أكثر ليبرالية من كثير من الليبراليين "طارق الزمر نموذجاً".
في هذه الأجواء، كان خطاب التشدد، يبدو باهتاً، لا يجذب الناس، وهناك خطابات لأيمن الظواهري، لم تشغل اهتمام أحد، وقد استمعت لخطاب قائد ما يسمى بتنظيم "أجناد الأرض"، يقول فيه إنهم لا يؤمنون بثورة
يناير ولا بالخيار الديمقراطي لكنهم وجدوا المصريين فرحين بما حدث، فسكتوا، لكنهم بعد الانقلاب لم يعد هناك مبرر لتحركهم غير مشغولين بالشرعية، أو معنيين بعودة المسار الديمقراطي.
فالتنظيمات المسلحة، على الأقل في عالمنا العربي، لا تنمو وتتكاثر، إلا في الخراب، الذي أنتجه الغرب بمؤامراته، وفي لحظة صدق نادرة أعلن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "توني بلير" أن احتلال العراق تسبب في ظهور "داعش"!
وقد يعجب الغربيون مخططهم المساند للانقلاب العسكري في مصر على الرئيس المنتخب، وقد يعجبهم أن ممارسات بطلهم المحبوب أظهرت "داعش" التي وصلت للقاهرة، وتهدد بتأسيس "ولاية الصعيد"، ففي ذلك تحقيقاً للمخطط القديم بما أسمته كونداليزا رايس "الفوضى الخلاقة"، لكن ها هم يعلمون أنهم ليسوا بعيدين عن الاكتواء بنار الإرهاب.
لقد وصلت داعش للقاهرة، وتبدت عورات الحكم المحمي بالإرادة الغربية في مواجهتها للناظرين، فمتى يستقر في وجدان المستعمر القديم أنه يلعب بالنار في مستعمراته السابقة.
إن آثار الاستبداد العربي ستصل للعالم كله.