تلقت الإدارة المصرية رسالة قوية من الإسكندرية هذا الأسبوع، خلاصتها أن هموم الناس وحل مشاكلهم الحياتية يجب أن يقدم على أي شيء آخر، وأن الديكورات التي تصمم والوجاهات التي تنصب والمهرجانات التي تقام، ذلك كله لا قيمة له لدى الرأي العام طالما استمرت معاناة المواطنين وتدهورت الخدمات التي تقدم إليهم.
لقد ضج أهل الإسكندرية بالشكوى وعبروا بأعلى صوت عن مشاعر السخط والغضب حين هطلت الأمطار غزيرة حتى ملأت الشوارع بمياه السيول، ثم تبين أن شبكة الصرف معطلة. وهي مفاجأة لم تكن في الحسبان أصابت المدينة بالشلل، ذلك أن المياه أغرقت الشوارع، ولحقت بها مساكن الطوابق الأرضية و«البدرومات»، مما أحدث تلفيات وخسائر لا حدود لها، أصابت المئات من السكان. إلى جانب ذلك أدت السيول إلى إغراق السيارات وإسقاط بعض أعمدة النور، الأمر الذي أدى إلى صعق عدد من المشاة الذين مات منهم ثمانية أشخاص جراء ما جرى.
لي عدة ملاحظات على الرسالة السكندرية، أبدأها بالتعبير عن احترام المحافظ المستقيل الدكتور هاني المسيري الذي تحمل مسؤولية التقصير وحده، رغم أنه تسلم منصبه منذ ثمانية أشهر فقط. ورغم أن أحدا لا يستطيع أن يقرر بأنه مسؤول عن تعطل أو انسداد شبكة الصرف، لأن الفترة القصيرة نسبيا التي أمضاها في مكتبه لا تسمح له بمعالجة مختلف المشكلات الحياتية للناس. كما أن ما حدث يعد نتاج تقصير سابقيه ممن اهتموا بالكورنيش وتجميل المدينة ولم ينشغلوا بهموم الناس ومشاكلهم اليومية. وقبل أن توجه إليه سهام الاتهام بالتقصير كان تنبغي مساءلة رؤساء أحياء المدينة الذين تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي أسماءهم، وعلمنا منها أنهم جميعا لواءات سابقون بالجيش والشرطة. وهو ما فهمنا منه أن المسوغ الحقيقي لاختيار اللواءات الثمانية هو الحسابات والاعتبارات الأمنية، وليس رعاية مصالح المواطنين والسهر على راحتهم.
المشهد من هذه الزاوية الأخيرة يثير السؤال التالي: إذا كان المسؤول الأعلى قد اختار أن يستقيل وأن يتحمل أوزار غيره، فماذا يكون رد فعل رؤساء الأحياء الذين هم المسؤولون المباشرون عن حل مشكلات الجماهير في محيطهم الجغرافي؟ يكتسب السؤال أهمية خاصة إذا علمنا أن الإسكندرية تعرضت لنَوَّة من ذلك القبيل قبل شهر من الزمن، الأمر الذي يعد جرسا كان ينبغي أن يسمع رنينه كل مسؤول في المحافظة، علما بأن أهل الإسكندرية يحفظون جيدا مواعيد النوات ويفترض أن تتحسب لها البلديات على الأقل.
للرسالة وجه آخر يجب أن يقرأ جيدا، يتلخص في أننا نخطئ كثيرا ونخدع أنفسنا إذا تصورنا أن الإهمال مقصور على شبكات الصرف دون غيرها من أوجه الخدمات والمرافق. ونكرر نفس الخطأ إذا اعتبرنا ما جرى مشكلة تعرضت لها محافظة الإسكندرية وإن الآخرين في مأمن منها. ذلك أن ما جرى تعبير عن انهيار الخدمات التي تقدم للناس في التعليم والصحة والإسكان وفي غير ذلك من المجالات. ثم إنها مشكلة مصرية عامة وليست مشكلة المحافظة وحدها، بل أزعم أن الدلالة أفدح حين اكتشفنا أن ذلك حدث في الإسكندرية، إذ يحق لنا أن نقول بأنه إذا كان ذلك حظ المدينة الثانية في مصر وعروس البحر الأبيض، فلابد أن يثير قلقنا ويفزعنا نصيب المحافظات النائية الأخرى.
إن ما جرى في الإسكندرية ليس حدثا صادما فحسب، ولكنه كاشف أيضا، إذ ليس سهلا ولا هينا أن تغرق المدينة وأن يموت ثمانية من أبنائها بسبب الأمطار، في مدينة يفترض أنها مطيرة بطبيعتها. كما أنه كاشف للمدى الذي بلغه إهمال مصالح الخلق ومشكلاتهم الحياتية واليومية. وإذا جاز لنا أن نقول إن بلدية المحافظة سقطت في اختبار الأمطار، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك الرسوب ينتظر أي جهة خدمية حكومية أخرى إذا ما تعرضت لأي اختبار مماثل، وتلك نتيجة ينبغي ألا تفاجئنا طالما ظلت هموم النظام مقدمة على هموم المواطنين العاديين، وطالما استمر تغييب حق المجتمع في الرقابة والمشاركة. وطالما كتب على الناس أن يموتوا تحت المطر دون أن يعرفوا من المسؤول عن ذلك الإهمال ودون أن يحاسب المسؤول على جريمته.
ختام رسالة الحدث السكندري يقول لمن يهمه الأمر بصوت غاضب ومخنوق: انسوا مشروعاتكم العملاقة التي تملأون بها صفحات الصحف، واجعلوا الأولوية لأعظم مشروع يقدمه نظام لشعبه، بمقتضاه يحيا الناس حياة حرة كريمة تعالج همومهم وتحترم آدميتهم. ولا تنسوا أن تلك كانت شعارات ثورة يناير المفترى عليها.
(الشروق القطرية)