أحس ملايين
العرب باليُتم، عند وفاة الناطق باسمهم الشاعر احمد مطر، الذي رحل والأمة التي حمل همها في منعطف خطر، ولكنني أبشركم بأن السودان أنجب خليفة لمطر، الذي كان بدوره امتدادا للشاعر المصري الراحل
أمل دنقل، والذي يحفظ له محبو الشعر والأوطان بكائيته على زرقاء اليمامة:
أسأل يا زرقاء / عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدارْ / عن صرخة المرأة بين السَّبي والفرارْ؟ / كيف حملتُ العار ثم مشيتُ دون أن أقتل نفسي / دون أن أنهار؟ / ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة؟ / تكلَّمي أيتها النبية المقدسة..
تكلمي باللهِ، باللعنةِ، بالشيطانْ / لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان / تلعقَ من دمي حساءَها، ولا أردُّها / تكلمي، لشدَّ ما أنا مُهان / لا اللَّيل يُخفي عورتي، ولا الجدران / ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها / ولا احتمائي في سحائب الدخان!
بكى دنقل الخيبة والعار، لأنه كان شاهدا على أن زرقاء اليمامة رأت العدو، وأبلغت ذوي الشأن بما رأت فاستخفوا بها:
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ / فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار / قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار / فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار / وحين فُوجئوا بحدِّ السيف / قايضوا بنا، والتمسوا النجاةَ والفرار / ونحن جرحى القلبِ، جرحى الروحِ والفم / لم يبق إلا الموتُ والحطامُ والدمارْ / وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ / ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ، وفي ثياب العارْ.
أحمد مطر وأمل دنقل بكيا حالا راهنا، ولكن الشاعر السوداني "العشريني" محمد عبد الباري، رأى في مطالع عام 2012 بعيني شاعر استشرافي، كيف سيتحول
الربيع العربي إلى خريف ونزيف دموي، فاقرأوا ما قاله، وليتكم تبحثون عن القصيدة التي تحمل عنوان هذا المقال في "يوتيوب" كي تسمعوها بصوته الشجي:
شيء يُطلُ الآنَ من هذي الذُرى / أحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرى / النصُ للعرّافِ، والتأويلُ لي /
يتشاكسانِ هناكَ: “قالَ” و”فسّرا” / ما قلتُ للنجمِ المعلّقِ: دُلني / ما نمتُ كي أصطادَ رؤيا في الكرى / شجرٌ من الحدسِ القديمِ هززتُه / حتى قبضتُ الماءَ حينَ تبخّرا / لا سرَ ..
فانوسُ النبوءةِ قال لي: ” ماذا سيجري" / حينَ طالعَ “ما جرى” / في الموسم الآتي سيأكلُ آدمٌ تفاحتينِ / وذنبُه لن يُغفرا / الأرضُ سوفَ تشيخُ قبلَ أوانها / الموتُ سوفَ يكونُ فينا أنهُرا / وسيعبرُ الطوفانُ من أوطاننا / من يُقنعُ الطوفانَ أن لا يعبُرا؟ ستقولُ ألسنةُ الذُبابِ قصيدة / وسيرتقي ذئبُ الجبالِ المنبرا / فوضى…وتُنبئ كلَ من مرّت بهم/ سيعودُ سيفُ القُرمطيّ ليثأرا / وسيسقطُ المعنى على أنقاضنا / حتى الأمامُ سيستديرُ إلى الورا.
في الموسمِ الآتي ستشتبكُ الرؤى / ستزيدُ أشجارُ الضبابِ تجذرا / وسينكرُ الأعمى عصاه / ويرتدي نظارتينِ من السرابِ ليُبصرا / سيرى القبيلةَ وهي تصلبُ عبدَها / فـ”الأزدُ” لا زالت تخافُ “الشنفرى" / سيرى المؤذنَ والإمامَ / كلاهما سيقولُ ” إنا لاحقانِ بقيصرا" / في الموسم ِ الآتي مزادٌ معلنٌ/ حتى دمُ الموتى يُباعُ ويُشترى / ناديتُ: يا يعقوبُ تلك نبؤتي / الغيمةُ الحُبلى هنا لن تُمطِرا / قال:اتخذ هذا الظلامَ خريطة / "عند الصباحِ سيحمدُ القومُ السُرى".
لا تبتئسْ فالبئرُ يومٌ واحدٌ / وغدا تؤمرُّكَ الرياحُ على القُرى / اخلعْ سوادكَ.. في المدينةِ نسوةٌ / قطّعن أيديَهن..عنكَ تصبُرا / قمْ صلِّ نافلةَ الوصولِ تحية / للخارجينَ الآن من صمتِ الثرى / واكشف لإخوتكَ الطريقَ ليدخلوا / من ألفِ بابٍ إن أرادوا خيبرا / ستجيءُ سبعٌ مرةٌ..
فلتخزنوا / من حكمةِ الوجعِ المصابرِ سُكّرا / سبعٌ عجافٌ فاضبطوا أنفاسَكم / من بعدها لتاريخُ يرجعُ أخضرا / هي تلك قافلةُ البشيرِ تلوحُ لي / مُدوا خيامَ القلبِ واشتعلوا قِرى / أشتّمُ رائحةَ القميصِ وطالما / هطلَ القميصُ على العيونِ وبشّرا.
قصيدة عبد الباري هذه تجُبُّ، كل المواويل التي صاغتها الأقلام، على مدى أربعة أعوام عما يشهده الجزء الذي يخصنا من العالم، ورغم السوداوية التي تنضح بها القصيدة إلا أنها لا تخلو من بشارة "سبع عجاف" وبعدها تكتسي بلداننا خضرة.
كم أنت متفائل يا عبد الباري: سبعون عاما ونحن في انتظار فجر فلسطين، وأنت تعتقد أن حفتر وعنتر والسيسي والسبسي وداعش وبراقش سيسمحون لنا، بأننا وبعد سبع سنوات:
سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعا وخضرة / ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسما وذكرى؟