كتاب عربي 21

فهمي هويدي بكى وأضحكنا

1300x600
أعرف أن الأستاذ فهمي هويدي كاتب مقروء على نطاق واسع، وقد سعدت بلقائه ثلاث مرات في منتديات في العاصمة القطرية الدوحة، واكتشفت أن براعته عبر المايكروفون لا تقل عن براعته بالقلم، بل إنه وعلى المنابر، يكشف عن مزاج يميل إلى المرح، وما زلت أحتفظ له بمقال كتبه في عهد مبارك زوج سوزان، بعنوان "أهلا بكم في مصر الأخرى"، بكى فيه حال التعليم في مصر، ولكنك "تفطس من الضحك"، ثم تتذكر أن التعليم المصري هو الذي أنجب يوماً ما طه حسين والعقاد وأحمد زويل ونجيب محفوظ وفاروق الباز وطابورا طويلا من المثقفين ذوي القامات الفارعة الذين حملوا لواء التنوير في الشرق العربي.

يقول هويدي إنه جلس مستمعا إلى نفر من كبار العاملين في مجال التربية والتعليم، وذكرت إحدى الموجهات إنها دخلت حجرة دراسة، ووجدت مدرسة مسلمة تتكلم في حصة التربية الدينية عن المهاجرين والأنصار، وتقول إن الأنصار هم " النصارى" الذين دخلوا الإسلام لاحقا.
ً
ومن المعروف أن مصر كانت من أوائل الدول التي حظرت الدروس الخصوصية، ولكن وتحت ضغوط من المعلمين، قننت وزارة التربية تلك الدروس، واستحدثت نظام المجموعات، فصارت هناك مجموعات "عادية" نظير 10 جنيهات شهرياً، ومجموعات "ممتازة" نظير نحو 16 جنيها شهرياً، واكتشف هويدي أن المعلمين يسمون استدراج الطلاب للانضمام إلى المجموعات "صيد الحمام".

وعندما يسجل الطالب اسمه في مجموعة يقال عنه إنه "دخل العش". لاحظ لغة الصيد وتربية الدواجن، وكانت توجيهات وزارة التربية تقضي بأن تتألف المجموعة من عشرين طالباً، ولكن العدد يرتفع في واقع الأمر إلى 40، وتبقى توجيهات الوزارة على العين والرأس، حيث إن كشوفات المدرسة تظهر فقط أسماء عشرين طالباً في كل مجموعة، و"يلهط/ يلهف" مدير المدرسة ما يدفعه العشرون غير المسجلين. أما المدير ذو الضمير الذي يتحاشى التزوير، فإنه يطالب كل مدرس بأن يدفع له مبلغاً شهرياً ثابتاً، أما إذا لم تسمح ظروف طارئة لمعلم ما بأن ينتظم في التدريس (بسبب عارض صحي، أو حمل وولادة بالنسبة للنساء) فمن حقه أو حقها بيع "الحصص" لمعلم آخر مقابل أجر شهري محدد.

واكتشف هويدي أن المدرسين الذين يدرسون مواد لا تتيح لهم إعطاء دروس إضافية أو خصوصية، (الفنون والرياضة وأمناء المكتبات) يلجأون إلى وسائل أخرى لزيادة مداخيلهم، فهناك مدرسو الموسيقى الذين يعملون في الكباريهات كعازفين وطبالين، وهناك من يعمل مقرئاً في المقابر، أو حارساً أمنياً ليليا في بناية، أو يبيع الحلويات على الرصيف.

والطامة الكبرى التي نقلها إلينا الأستاذ هويدي، هي أن بعض مدرسي التربية الفنية، يربون الدجاج والبط داخل المدارس، وفي نهاية اليوم تلجأ الدواجن التربوية تلك إلى غرفة الفنون لتقضي فيها الليل.

وهناك مديرو مدارس يسعون إلى الكسب الشريف ومن ثم فإنهم يقيمون أكشاكا لبيع الفطائر والشطائر للتلاميذ داخل المدرسة، وفي ذات مدرسة اكتشف المدير أن الإقبال على كشكه صار ضعيفاً، وقام بتحريات كشفت أن أمين المكتبة ينافسه في بيع الحلوى والفطائر، التي يضعها تحت طاولة في المكتبة، وبهذا تكون المكتبة قد أدت دور مزدوجا لكونها تحوي غذاء للعقول والبطون.

وندخل حجرة دراسة مع أحد الموجهين الذي كان يرصد أداء معلمة تدرس التربية الدينية، وبدأت تقرأ على الصغار سورة "الكافرون" بصوت عال، ثم توقفت فجأة وقالت إن هناك خطأ مطبعياً تجلى في تكرار الآية "ولا أنتم عابدون ما أعبد"، وبكل "ثقة" طلبت من التلاميذ شطب الآية الثانية، التي تأتي قبل نهاية السورة، بالتأكيد لم تقرأ تلك المعلمة "سورة الرحمن" وإلا لكتبت مقالا في الصحف تقول فيه إنها اكتشفت أن آية "فبأي آلاء ربكما تكذبان تكررت عدة مرات" نتيجة خطأ مطبعي!

ويحكي الأستاذ هويدي على لسان موجهة، أنها كانت مكلفة مع آخرين بمتابعة لجان الامتحانات في إحدى المحافظات، واستقبلهم العمدة بالترحاب، وأقام لهم وليمة ضخمة، وعندما خرجوا من داره، فوجئوا بأهل القرية يحاصرونهم، ويقدمون لهم أرقام جلوس عيالهم، كي "يتوصوا بهم" خلال الامتحانات، واتضح أنهم جميعاً ساهموا في الوليمة.

وتقول الموجهة إنها دخلت إحدى قاعات الامتحانات في مدرسة القرية، فوجدت مدرساً يقف أمام الطلاب، ويملي عليهم الأجوبة على الأسئلة، فصاحت الموجهة مطالبة بوقف ذلك العبث وطرد ذلك المعلم من قاعة الامتحان، ولكن زميلا لها عاقلا قال لها: لا ترفعي صوتك لأن أهل الطلاب سيفترسوننا "ويدشدشوننا" ويلقون بنا في الترعة.

كانت غاية هويدي هي الإشارة إلى أن مصر التي يحدث فيها كل هذا، غير مصر التي يعرفها القاصي والداني كبلد احتضن أعرق المؤسسات التعليمية، التي أنجبت بدورها عمالقة في مختلف مجالات الفكر والمعرفة، ولو كان هناك كتاب في مثل شجاعة وأمانة هويدي في كل الدول العربية، لاكتشفنا مأساوية الأوضاع في كافة مدارس الوطن العربي، حتى صار لدينا حملة درجات دكتوراه ويعانون من الأمية الهجائية أي لا يحسنون الكتابة والقراءة.