مقالات مختارة

يسألونك عما جرى في ليبيا

1300x600
الرد بالقصف الجوي على قتل المصريين في ليبيا مفهوم ومبرر، ولم يكن هناك بديل عنه، وهو يمثل إحدى الإجابات الصحيحة على السؤال ما العمل؟ لكن ما يحتاج إلى مناقشة وبحث هو ما إذا كان ذلك كافيا أم لا.

(1)

قبل الكلام في الموضوع، ينبغي أن نضع في الاعتبار عدة أمور هي:

 * إننا بصدد تنظيم إجرامي، لا قلب له ولا أخلاق ولا دين، ثم إنه لا يعترف بقانون أو دستور أو حتى عرف. 
ومنذ أعلن عن إقامة دولته في شهر سبتمبر من العام الماضي (2014) لم يجد أعضاؤه من يوقف شرورهم أو يردعهم. 

إذ بعدما عمدوا إلى قطع رؤوس بعض الأجانب الذين وقعوا في أيديهم، وفعلوها مع نفر من خصومهم في سوريا والعراق، صدمنا إحراقهم للطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا، واقشعرت أبداننا حين تابعنا ما جرى للإيزيديين الذين دفنوهم في مقابر جماعية بعد سبي نسائهم. 

إلى آخر قائمة الجرائم البشعة التي لطخت سجلهم بدماء العديد من الفقراء الأبرياء. من ثَمَّ فلا جديد فيما ذاع خبره مساء أمس الأول، فصدم كل المصريين وأوجع قلوبهم. 

لكن الجديد أنهم اجترأوا على توجيه رسالتهم إلى الدولة المصرية بذلك الأسلوب الذي ذهبت فيه الفظاظة إلى حد الجنون المرَضي. وليس ذلك قبولا أو تهوينا من شأن جرائمهم السابقة، وإنما هو تنبيه إلى المدى الذي ذهبوا إليه في التحدي والاجتراء.

ثمة جديد آخر يتمثل في أنهم بما فعلوه أعلنوا عن خروجهم من محيط بلاد الشام، وانتشارهم خارج حدودها. في سيناء والشمال الإفريقي. 

وقد تناقلت التقارير الصحفية أخبار التحاق بعض الأنصار بهم في سيناء كما في ليبيا وتونس والجزائر.

* إن هؤلاء الذين ارتكبوا الجريمة في ليبيا فرع عن أصل موجود في المناطق التي سيطروا عليها في العراق وسوريا، وأطلقوا عليها اسم دولة الخلافة الإسلامية. 

وقد اختاروا لها عاصمة مقرها محافظة الرقة بسوريا، وهو ما يسوغ لي أن أقول إن الرأس في الشام والذيول والفروع في المناطق والدول سابقة الذكر.

* إذا كانت داعش أو دولة الخلافة لها وجودها الجغرافي في بلاد الشام، إلا أن جذورها الفكرية خرجت من الجزيرة العربية. ذلك أن عقيدة السلفية الجهادية التي تشكل مرجعيتهم الأساسية تعتمد على تعاليم واجتهادات المدرسة الوهابية. وكتب شيوخ الوهابية هي المعتمدة في مدارس الدولة الإسلامية، وإذا تتبعنا خط المسار الفكري فسنجد أنه استوطن في محيط القاعدة التي راجت في أفغانستان ثم وجدت تلك الأفكار تربة مواتية لها في سجون الاحتلال الأمريكي للعراق التي تخرج منها قادة تنظيم الدولة وزعماؤها.

(2)

فيما يتعلق بالوضع في ليبيا فإنه أكثر تعقيدا مما تصوره وسائل الإعلام عندنا. وقد ذكرت التصريحات الرسمية أن القوات الجوية المصرية قامت بعدة غارات على مدينة درنة التي تعد المعقل الأساسي لتنظيم داعش.

وقد راجت في وسائل الإعلام المصرية في العام الماضي معلومات تحدثت عن وجود للمتطرفين المصريين هناك حيث إنهم يشكلون ما سمي بالجيش المصري الحر (على غرار الجيش السوري الحر). 

وبمضي الوقت تبين أن تلك المعلومات ليست أكثر من شائعات جرى الترويج لها لأسباب تعبوية وسياسية، الأهم من ذلك أن «درنة» كانت بالفعل معقلا لعناصر التطرف والإرهاب، إلا أنها لم تستمر كذلك في ظل تطور الأمور خلال السنوات الأربع الماضية، فقد انتشر فكر السلفية الجهادية في بقية أنحاء ليبيا، خصوصا في محيط القبائل المحافظة التي ترتفع فيها معدلات الشباب المتدين، علما بأن المجتمع الليبي محافظ بالأساس، وبالتالي فهو مهيأ لاستقبال تلك الأفكار. 

إضافة إلى ذلك فإن ضعف السلطة المركزية وترامي الحدود الليبية فتح الباب لاستقبال أعداد غفيرة من النشطاء غير الليبيين، سواء من دول الجوار (تونس والجزائر بوجه أخص) أم اليمن والسودان، وقد انضمت إليهم أعداد من المسلمين المقيمين في بعض الدول الغربية غير آخرين من الدول الإفريقية المجاورة (مالي والنيجر وتشاد).

ما أريد أن أقوله أن الليبيين الذين أعلنوا ولاءهم لداعش يشكلون جزءا من قبائل مهمة في ليبيا تتولى حمايتهم، إضافة إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية بات يضم أعدادا غير قليلة من غير الليبيين ومن غير العرب. 

وهؤلاء أصبحوا منتشرين في مختلف أنحاء البلاد.

لقد تم استهداف درنة، المدينة الساحلية القريبة من الحدود المصرية والتي تحيط بها الأحراش والغابات، وربما نجحت الغارات في إصابة الأهداف الممثلة في المعسكرات ومخازن السلاح. 

إلا أن هناك علامات استفهام بخصوص مصير ما هو موجود منها في الأحراش المحيطة. وإذا صح أن الغارات أصابت كل أهدافها في درنة، إلا أن الأسئلة تظل مثارة حول مصير قواعد داعش التي انتشرت في أوساط قبائل الوسط (سبها التي احتجز فيها العمال المصريون قبل إعدامهم في الوسط) إضافة إلى أقرانهم الموجودين في بنغازي ذاتها (في الشرق).

على صعيد آخر فمن الثابت أن عدد المصريين المنتشرين في أنحاء ليبيا يزيد عددهم على مليون نسمة، ووجودهم في مختلف البلدان ومختلف شرائح المجتمع يشكل عاملا يصعب تجاهله فيما يخص أي عمل عسكري مصري، ولابد أن يثير انتباهنا في هذا الصدد أن بعض المصريين الذين يتمسكون بالبقاء في ليبيا رغم المخاطر والظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، هؤلاء لا يزالون يؤثرون الاستمرار هناك لاقتناعهم بأن وضعهم سيكون أسوأ لو أنهم عادوا إلى بلدانهم. 

على الأقل فهذا ما نقله إليَّ أحد الباحثين حين طرح السؤال على عدد من الموجودين هناك، فسمع منهم الرد الذي ذكرت.

(3)

لقد فهمت أن العمليات العسكرية سوف تستمر ضد معاقل داعش ومظانها، وذلك بدوره أمر مبرر ومفهوم، ورغم وجود المحاذير التي سبقت الإشارة إليها، إلا أنني أتمنى أن تأخذ المعلومات حظها الكافي من العناية والدراسة في أي عمل عسكري قادم، بحيث توضع في الاعتبار الخلفيات التي ذكرتها، حتى لا تؤلب القبائل الليبية ضد مصر والمصريين، وحتى لا ترتفع أعداد الضحايا بين المصريين المنتشرين في البلاد.

في هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن ثمة ثغرة في المعلومات أفضت إلى ما وصلت إليه الأمور حتى انتهت بإعدام الواحد والعشرين مصريا. 

ذلك أنهم ظلوا في قبضة داعش لأكثر من أربعين يوما، دون أن تتوافر معلومات عن أماكن احتجازهم أو مصيرهم.

لقد قرأنا بأن خلية ضمت عددا من الخبراء المصريين شكلت لمتابعة ما يهدد أمن مصر وأبنائها في ليبيا، لكني أخشى أن تكون تلك الخطوة قد اتخذت بعدما وقعت الفأس في الرأس. لأنها لو كانت قد شكلت قبل ذلك وجرى ما جرى، فذلك يعني أنها فشلت في مهمتها ولم تنجح في إنقاذ المصريين من المصير الفاجع الذي لقوه.

وإذا جاز لي أن أذهب إلى أبعد في المصارحة، فإنني أزعم أن موضوع المصريين في ليبيا لم يؤخذ على محمل الجد. فلا تم تأمينهم في أماكن تجمعاتهم، ولا حرصت الأجهزة الأمنية على أن تتواجد في محيطهم. وقد قيل لي أن ثمة مجموعة من المصريين اختفوا في شرق ليبيا التي يفترض أنها منطقة خاضعة لنفوذ اللواء حفتر الذي تؤيده مصر، وهذه المجموعة المحتجزة منذ شهرين لا يعرف أحد عنهم شيئا، لاعن خاطفيهم ولاعن أماكن احتجازهم ولاعن التهم المنسوبة إليهم.

(4)

السؤال الذي يحتاج إلى مناقشة هادئة هو: إذا كان الإجراء العسكري الحازم قد أصبح ضروريا من جانب السلطة المصرية في الرد على بشاعة الجريمة التي وقعت، فهل نحن على ثقة من أن القصف الجوى سيحسم الأمر ويغلق الملف؟ ردي على ذلك بالنفي، لأن القصف يمكن أن يشكل ضربة موجعة حقا لكنه لن يحسم الأمر. إذ طالما بقى هناك مليون عامل مصري، وطالما ظلت ليبيا ملاصقة جغرافيا لمصر، وطالما كان لداعش والسلفية الجهادية أنصار ومريدون، فإن تكرار ما حدث للعمال المصريين سيظل واردا.

إذا صح ذلك فما هي الخيارات الأخرى؟ أعترف بأنه ليست لدي إجابة واضحة، لكنني أتمنى أن يفتح الباب لمناقشة تلك الخيارات، إذ يخطر لي مثلا أن نعيد التفكير في نهج التعامل مع الملف الليبي، بعدما تبين أن المراهنة على المجموعة المتمركزة في الشرق غير كافية، فضلا عن أنها ليست بالقوة والتمكين الذي تصوره وسائل الإعلام المصرية، علما بأن كثيرين يعرفون أن بعض أنشطة تلك المجموعة تنطلق من أحد فنادق القاهرة وليس من طبرق كما تذكر البيانات الصادرة عنها.

أدري أن البعض سوف يلوون شفاههم ويعتبرون مناقشة الفكرة محاولة لإضفاء الشرعية على الطرف الآخر المسيطر في طرابلس، والذي يرفض الإعلام المصري الإشارة إليه إلا بالسلب، كما يتجاهله الخطاب السياسي المصري بذريعة الشرعية. 

وأزعم أن هؤلاء يسقطون الحالة المصرية على الليبية ويتعاملون مع الملف الليبي انطلاقا من نهج الخصومة والإقصاء المطبق في مصر. 

وهذا الإسقاط هو بداية الخطأ في النظر السياسي للموضوع، لأن العلاقة بين الطرفين هناك مختلفة جذريا عن الوضع السائد في مصر. 

ثم إنه من الثابت أن أيا منهما لم يستطع أن يلغى الآخر ويخرجه من الساحة الليبية، إذ لكل منهما حضوره وقواعده على الأرض التي لا يستطيع الآخر تجاهلها، ولذلك فلا مفر من تفاهم يجمع الاثنين ويسعى إلى إيجاد حل يعيد الأمن والاستقرار إلى الربوع الليبية، لأنه ما لم يتحقق ذلك فإن الجماعات الإرهابية ــ داعش وغيرها ــ ستظل ترتع في البلد، وستظل مصدر تهديد للسلم الأهلي في ليبيا وللأمن القومي المصري.

هذا تفكير سريع في المخرج الموازى الذي يكمل دور الحسم العسكري، ويحاول أن يجعل للمؤسسة دورا في حل الإشكال، أما إذا قررنا أن نخاصم السياسة في داخل مصر وخارجها فينبغي إلا نستغرب إذا دفعنا ثمنا باهظا لقاء ذلك.



(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)