أكثر من سبب على أكثر من صعيد يقف وراء تمكن مرشح حركة نداء
تونس، السياسي المخضرم، الباجي قايد
السبسي، من حسم المعركة الانتخابية لصالحه أمام منافسه الرئيس المنتهية ولايته محمد المنصف المرزوقي في الدور الثاني من
انتخابات تونس الرئاسية، الأحد الماضي.
هناك أسباب عامة تخص الوضع القائم بتونس منذ ثورة يناير 2014 التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي إلى اليوم، وأخرى خاصة بالمرشحيْن الاثنين جعلت جولة الإعادة تحسم لفائدة قايد السبسي.
وأعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات رسميا مساء الاثنين فوز الباجي قايد السبسي بانتخابات
الرئاسة التونسية بنسبة 55.68% من الأصوات (1731529 صوتا) مقابل 44.32% من الأصوات لفائدة المنصف المرزوقي (1378513 صوتا) مما عمق الفارق الذي كان بين الاثنين في حدود 6 نقاط في الدور الأول (39.49% من الأصوات للسبسي مقابل 33.43% للمرزوقي في الدور الاول).
واتجهت البلاد منذ أحداث الثورة وفرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي يوم 14 يناير 2011 إلى أزمة اقتصادية حادة فاقمت من أزمة البطالة وغلاء الأسعار.
وتعمقت الأزمة أكثر بحصول حركة النهضة على أغلبية نسبية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي 23 أكتوبر 2011 حيث انضافت للأزمة الاقتصادية أزمة سياسية قسمت البلاد إلى شقين، من جهة الترويكا التي شكلت الحكومة بعد انتخابات أكتوبر 2011 (ائتلاف بين حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية - المنصف المرزوقي رئيسا، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات - مصطفى بن جعفر رئيسا للمجلس الوطني التأسيسي) ومن جهة أخرى أغلب الأحزاب السياسية اليسارية والليبرالية حيث نجح الباجي قايد السبسي في ضم العديد منها تحت راية حزب حركة نداء تونس الذي أسسه في يونيو/ حزيران 2012.
وتصاعدت الأعمال الإرهابية بداية من ديسمبر 2012 بعد أن شكل الإرهابيون جيبا لهم في مرتفعات الشعانبي بمحافظة القصرين ومرتفعات محافظات الكاف وجندوبة وكلها محافظات على الحدود الجزائرية، ثم جاءت الاغتيالات السياسية لتعمق الأزمة السياسية لحكومة الترويكا بقيادة النهضة، إذ تمّ اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في شباط/ فبراير 2013 والمعارض القومي محمد البراهمي في يوليو/ تموز 2013.
وتمكنت الأحزاب المعارضة للنهضة من "الصاق" المسؤولية المعنوية عن تلك الاغتيالات والأعمال الإرهابية بحكومة الترويكا ورئيس الجمهورية المنتخب من المجلس التأسيسي (المرزوقي) في الذاكرة الشعبية، ساعدها في ذلك ماكينة إعلامية ساهمت بحسب عدد من المراقبين في تعميق الشرخ بين الناخبين والترويكا.
وكان أن تخلت الترويكا عن الحكم بعد ضغوط سياسية ونقابية مارستها المعارضة والنقابات العمالية ونقابات الأعراف بتخلي حكومة علي العريض عن السلطة في نهاية يناير 2014 إلى حكومة مستقلة بقيادة مهدي جمعة.
وبالتوازي مع ذلك، كان الباجي قايد السبسي السياسي المخضرم الذي عمل مع بورقيبة (1956-1987) وبن علي (1987-2011) وكان عضوا قياديا في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل ثم تولى رئاسة الحكومة بعد الثورة (من مارس 2011 إلى ديسمبر 2011) يقدم نفسه وحزبه للتونسيين بتكتيك ذكي بديلا للترويكا "الفاشلة" و"المرتبطة بالإرهاب"، فبدأت من هذه اللحظة تتشكل قاعدته الشعبية وتتسع شيئا فشيئا.
وفعلا كانت انتخابات أكتوبر 2014 التشريعية تحمل معها أولى "بشائر" انهيار منظومة الترويكا، اذا تراجعت حركة النهضة -صاحبة المركز الأول في انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011- إلى المرتبة الثانية ب69 نائب في مجلس نواب خلف المتصدر حزب حركة نداء تونس (86 نائبا)، فيما لم يحصل شريكا النهضة في حكومة الترويكا: حزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات على أي مقعد واكتفى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه المرزوقي بنتيجة هزيلة (4 مقاعد فقط).
وبحكم هذه النتائج الهزيلة التي تحصل عليها الحزب الذي أسسه المرزوقي في الانتخابات التشريعية أكتوبر 2014 وغياب مرشح رئاسي للقوة السياسية الثانية في البلاد، حركة النهضة، التي ربما قدرت "بالخطأ" أنها ستفوز بالانتخابات التشريعية وبالتالي تجنبت تقديم مرشح للرئاسية حتى لا تتهم بالسعي لاحتكار الحكم، فقد ذهبت تقديرات الكثيرين مبكرا إلى فوز السبسي بل إن إدارة حملة الباجي قايد السبسي كانت تقدر فوز مرشحها من الدور الأول من الرئاسيات في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
إلا أن عدم حسم النتيجة من الدور الأول الذي شهد احتلال المرزوقي المرتبة الثانية خلف السبسي وبفارق بينهما لا يتجاوز 6 نقاط، شكل بمثابة "جرس إنذار" لحملة قايد السبسي جعلها تراجع حساباتها وحتى تكتيكاتها وتستعد بشكل أقوى وأكثر فعالية لضمان نجاح مرشحها في الدور الثاني.
وبالفعل، خلال حملة الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بذلت حملة السبسي مجهودات كبيرة لضمان أكبر دعم لمرشحها من القوى السياسية المناهضة للترويكا، خصوصا تلك التي برزت خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة وأثبتت ثقلها الانتخابي، مثل حزب الاتحاد الوطني الحر (ليبرالي) لرجل الأعمال سليم الرياحي، والجبهة الشعبية (ائتلاف يساري) بزعامة حمة الهمامي، ويمثلان ثالث ورابع كتلة برلمانية على الترتيب.
وفيما أعلن الاتحاد الوطني الحر، عن دعم صريح للسبسي، إثر خروج مرشحه الرياحي من الدور الاول للرئاسيات، تمخضت مشاورات الجبهة الشعبية اليسارية التي جاء مرشحها الهمامي في الدور الأول في المرتبة الثالثة بأكثر من ربع مليون صوت، على ما يمكن اعتباره دعما غير معلن للسبسي، بجانب الرفض الصريح للمرزوقي.
وظهرت أرملة أبرز قادة الجبهة الشعبية، الراحل شكري بلعيد، إلى جانب قايد السبسي في الاجتماع الاختتامي لحملته الانتخابية في شارع بورقيبة بالعاصمة تونس مؤكدة أنه "سيكشف عن قتلة بلعيد"، في إشارة دعم واضحة من اليسار للسبسي.
وحظي قايد السبسي أيضا بدعم كتلة الأحزاب ذات المرجعية الدستورية ( النظام السابق) مثل الحركة الدستورية بقيادة حامد القروي والمبادرة الدستورية بقيادة كمال مرجان وكان محمد الغرياني آخر أمين عام للتجمع الدستوير الديمقراطي المنحل إلى جانب الشخصيات التي ظهرت خلف السبسي في اختتام حملته الانتخابية.
ويضاف إلى هذه القائمة الحزبية، اصطفاف جزء كبير من رجال الأعمال إلى جانب الباجي قايد السبسي في الحملة الانتخابية.
ولم تكتف حملة السبسي بالدعم السياسي والمالي لضمان فوز مرشحها، بل ذهبت كذلك في اتجاه ضمان دعم منتسبي التدين الشعبي (الصوفية) وكانت زيارة السبسي إلى مقام الولي الصالح سيدي بلحسن الشاذلي المرابط على تلة جنوب تونس واستقباله من شيوخ الصوفية خلال حملته الانتخابية إشارة واضحة إلى دعم الطرق الصوفية لمرشح حركة نداء تونس.
ويرى مراقبون أن وسائل الإعلام ذات التأثير الواسع في تونس كان لها إسهام بارز أيضا في تحقيق نصر السبسي الانتخابي، فمعظم القنوات والإذاعات الخاصة من خلال دعم غير مباشر لقائد السبسي.
خلاصة القول، لم تترك حملة السبسي أي مجال للمفاجأة في نتيجة الانتخابات، فحرصت بشكل مفصل ودقيق على أن تضمن لمرشحها كل أسباب الدعم والنجاح على المستويات الحزبية والشعبية والإعلامية فكان ان اضاف السبسي لرصيده في الدور الثاني 15 نقطة جديدة أكثر من الدور الاول فيما بقى منافسه على نفس الرصيد تقريبا الذي اعتمد بشكل رئيسي على أنصار حركة النهضة والرافضين لعودة النظام السابق.