مقالات مختارة

أينَ جيشي؟ الطوائف بصفتها "مجتمعات قتالية"

1300x600
كتب وسام سعادة: قطعاًً لا نعني بمصطلح «الجيش» الشيء نفسه إذا قابلنا بين التجارب الكيانية اللبنانية والسورية والعراقية.

فالعراق كيان أسّسه، من بعد المبضع الكولونيالي البريطاني طبعاً، الضبّاط العرب في الجيش العثمانيّ وأولئك الذين تشكّلوا في تجربة الجيش الهاشمي إبان ما يُعرَف بـ «الثورة العربية» في الحجاز. ولئن انتهى العسكر في آخر الأمر للإطاحة بنظام ملكي هاشمي، كان في الأساس نصف دستوري ونصف عسكري، فإنّ الزمن البعثي سيتكفّل لاحقاً بتحجيم المؤسسة التقليدية للجيش لمصلحة الحزب وميليشياته. ثم كانت تجربة حل الجيش بعد الاحتلال، أي حل جيش تشكّل هو والكيان العراقي في حركة توليد عضوية واحدة، وذات مسحة عربية سنية.

أما سوريا ولبنان فهي كيانات لم يكن لعسكريين بلديين إسهامات في مشاركة المستعمر الفرنسي في تأسيسها، وإنما كان للمستعمر إسهام في تركيب جيشيها. بخلاف لبنان، الذي أعفته تركيبته من تجربة نظام عسكريتاري مديد كما في البلدان العربية الأخرى، كانت سوريا رائدة في الشهوة الانقلابية العسكرية. 

بخلاف الزمن البعثي في العراق الذي طوّع الجيش للحزب وعسكر الحزب وميليشياته، فإن الزمن البعثي في سوريا فرّغ الحزب لصالح العسكر. وإذا بدت تجربة «الجيش العقائدي» البعثي مختلفة عن تجربة «الجيش اللبناني» الذي بقي على النمط الغربي، فإن هذا «الجيش العقائدي» اعتمد أكثر من الجيوش الأخرى كلها على فكرة استعمارية – استشراقية أوروبية، وهي أنّه في بناء جيوش مكونة من السكان الأصليين في المستعمرات، ثمة جماعات إثنية مؤهّلة أكثر من سواها لأن تحمل السلاح، وتنتظم في سلك العسكر. 

في سياق المشرق العربي، كان المستعمر الفرنسي أقرب إلى التجربة البريطانية في الهند القائمة على فرز الجماعات الإثنية والدينية والطبقات الوراثية (الكاست) بين «أعراق قتالية» و «أعراق غير نافعة للقتال»، علماً أنّ الجماعة الواحدة كانت تتنقّل بين المنزلتين بحسب مصلحة الإدارة الاستعمارية. 

انطلاقاً من إعادة قولبة العلاقات التي كانت قائمة قبل سيطرتهم على شبه القارة الهندية، وبالاتكاء على النظريات العرقية للقرن التاسع عشر، فرز البريطانيّون الجماعات الهندية بين مجتمعات غير متمرّسة قتالياً، ومجتمعات قتالية معروفة بكثرة التمرّد على المراكز الحضرية، ومعروفة بيولوجياً بقوّة البنيان وتشبه الرجل الأبيض، وقد تكون من صلبه، واختلطت بما هو أدنى منها درجة، لكنها تبقى مع ذلك الأقرب، والأسلم من الناحيتين الذهنية والجسدية ويمكن الاعتماد عليها، وتطوير وعيها لنفسها جماعةً قتاليةً، تطوّع في خدمة السياسة الاستعمارية في محيطها أو ما وراء البحار، كمثل نقلها لمحاربة المستوطنين البيض البوير في جنوب إفريقيا، أو إشراكها في جبهات الحربين العالميتين شرقاً وغرباً. 

لم تكن المدّة الاستعمارية الفرنسية الوجيزة نسبياً في سوريا ولبنان لتسمح بمثل هذا الفرز الشامل والمستمرّ بين الجماعات المناطقية والدينية؛ بين «مجتمعات قتالية» و «مجتمعات غير قتالية»، لكن هذا الفرز كان موجوداً، ويعتمد على ذاكرة الاحتراب في بلاد الشام عموماً، وجبل لبنان خصوصاً في القرن التاسع عشر، وعلى ما سجّله الرحالة الأجانب وأصّله المستشرقون. 

في المجلّد الفذ الذي تركه لنا عن رحلته إلى الشرق (1832-1833) يتوقف الشاعر الفونس دو لامارتين عند «أقوام لبنان» وعددها أربعة عنده، أما «لبنانه» فمن أنطاكية إلى الجليل. الموارنة أولاً: وهم «شبه مستوطنة أوروبية رمتها الصدفة وسط قبائل الصحراء». وهم بالتوازي «يشكلون اليوم شعباً محكوماً من طرف الثيوقراطية الأكثر نقاء، التي تمكنت من مقاومة الزمن»، يقصد الكنيسة. لكن هذا المجتمع الديني هو مجتمع عسكري أيضاً: «الموارنة شجعان ومحاربون بالفطرة مثل كل الجبليين».

ولامارتين يستطرد «ليس عندي ذرة شك أن هذا الشعب لو كان معروفاً أكثر، ولو ازدادت الزيارات إلى موطنه، لذهب عدد كبير من الأوروبيين للعيش بين الموارنة». ثم يتكلّم عن الدروز. أيضاً ملامح «مجتمع قتالي» ترتسم، لكن هذه المرة كمجتمع يفصل بين فئتين، متدينة، «العقال»، وغير متدينة «الجهال» بخلاف الثيوقراطية المارونية. 

يقرن لامارتين الموارنة بالدروز كجماعتين قتاليتين صاعدتين، يمكنهما بسهولة تشكيل «جسد واحد» كيانياً، والانخراط في ركب الحضارة، في مقابل جماعتين يتكلّم عنهما برومانسية أقل: الشيعة، أو «المتاولة» في نصّه، «وهم عادة ضعفاء ومكروهون في سوريا»، وكانوا «سادة بعلبك في القرن السادس عشر»، وامتدت سيطرتهم على البقاع ثم توسّعوا جنوب جبل لبنان، مما أثار حفيظة الدروز الذين دفعوا بهم جنوباً أكثر، فتلقفهم ظاهر العمر والي عكا وأمنوا له عشرة آلاف فارس لمحاربة الدروز، ثم انقلبوا على ظاهر العمر ما سرّع سقوطه، إلى أن انتقم منهم والي صيدا وعكا من بعده أحمد باشا الجزار بقسوة، فتحالفوا مع الدروز والموارنة، «ورغم أنهم في ذلك الوقت انخفض عدد مقاتليهم إلى نحو 700 أو 800 مقاتل، لكنهم أبلوا البلاء الحسن بالنسبة للقضية المشتركة، أكثر من العشرين الف درزي وماروني المحتشدين في ساحة دير القمر». 

أمّا رابع «أقوام لبنان» في جردة لامارتين فهم العلويّون (النصيريّون) وهو يسمّيهم «الأنصارية». يقول عنهم إنهم «وثنيون مثل الدروز، ويحيطون مثلهم طقوسهم الدينية بهالة من التعتيم، لكنهم أكثر بربرية.» ومع أن الشاعر الفرنسي يهتم بعرض نبذة عن مجزرة 1807 التي ارتكبها علويّون ضد الإسماعيليين، إلا أنه لا يشعر بحيوية المجتمع القتالي، لأن «هذا الشعب يعيش زمن انحطاطه، وسوف يتمكن الدروز والموارنة من إبعاده أو إخضاعه بيسر». 

طبعاً، التجربة اللاحقة كذّبت لامارتين بشدّة. ففكرة «المجتمع القتالي» الذي تتميّز به طائفة عن أخرى، سيكون أمامها تاريخ حافل، ويمكن تخيّل نوع الجردة لـ «أقوام لبنان» اللامارتينية الأربعة اليوم، بمنظار تحقّق «المجتمع القتالي» المنشود في التصورات الاستشراقية عن السكان الأصليين. فالموارنة وقعوا في أحجية حادّة خلال الحرب الأهلية، هل «مجتمعهم القتالي» يتحقق بالجيش أو بالمقاومة، واستمرّ مع ذلك «الجيش الذي أسسه فخر الدين» إلى اليوم. 

أمّا الدروز فبين ندرة العدد ودغدغات «الفطرة القتالية» والتعب من التاريخ. والشيعة، سردية كاملة عن «المجتمع المقاوم»، ومجتمع قتالي يفيض عنه (سلاح العشائر، الدور المتعاظم للشيعة في الجيش). والعلويون، بخلاف «لبنان اللامارتيني»، فصلت كتلتهم الأكبر عن الأقوام الثلاثة الأخرى، وشكلوا عشر سكان سوريا الحديثة. بخلاف نظرة لامارتين السلبية إليهم، كجماعة لن يلبث حتى يبتلعها الدروز والموارنة، فقد سمحت الفترة الانتدابية وتأسيس الجيش السوري بضخّ فكرة «المجتمع القتالي» في اتجاههم، لكنها احتاجت إلى الرافعة البعثية كي تحقق مشهدية التجربة الكولونيالية للمجتمعات القتالية، أو بإنكليزية القرن التاسع عشر martial races. 

وفي العراق، ومع حلّ الجيش، أسست لثقافة «مجتمع قتالي» من نوع آخر بين العشائر السنية. في وقت كانت الحركة القومية الكردية تشكّل وعي الأكراد لأنفسهم كـ «مجتمع قتالي»، والشيعة أيضاً، ما بين أثر «الباسدران» و«حزب الله» صارت لهم مقاربتهم المحاكية.

بالنتيجة، التمييز بين «مجتمع قتالي» و «مجتمع غير فالح قتالياً» هو إحالة مكبوتة في الكثير مما نقوله ونسمع. ولا تعني الحالة «غير القتالية» أنه مجتمع تجاري أو زراعي وديع على الدوام، بل أنّه يستعين بمقاتلين من خارجه. 

ففي التصور الاستشراقي الغالب عن طوائف المشرق، أنّ الأقليات فيها مجتمعات قتالية، أنّ الأكثرية الدينية السنّية فإما هي تستعين بمجتمعات قتالية على أطرافها (العشائر البدوية)، أو تستعين بأقوام آتين من بعيد (كالأرناؤوط في التاريخ العثماني، والفلسطينيين «جيش السنّة» في حرب لبنان، وكالشيشانيين في الحرب السورية اليوم). 

هذا التصوّر الاستشراقيّ يفرض معادلته على علاقة الجيوش بالطوائف، والطوائف بالجيوش. طائفة تقول «هذا جيشي»، وأخرى تقول «هذا جيشك»، وثالثة تسأل: «أين جيشي؟».

(عن صحيفة القدس العربي 8 كانون الأول/ ديسمبر 2014)