مقالات مختارة

بعد عام على فض اعتصام رابعة تاريخ لم يكتب وأزمة لم تحل وأفق مسدود

1300x600
في تلخيص المشهد بعد مضي عام على فض اعتصامي رابعة والنهضة، أزعم أننا بصدد تاريخ لم يكتب وأزمة لم تحل وأفق مسدود ومحفوف بالمخاطر.

أتحدث عن الذكرى التي تحل بعد غد «الخميس 14 أغسطس»، وهو اليوم الذي شهد في العام الماضي أكبر مقتلة عرفها التاريخ العربي المعاصر، جراء فض اعتصام الإخوان والمتعاطفين معهم في محيط مسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، وفي ميدان النهضة أمام جامعة القاهرة في محافظة الجيزة. وكان ذلك الاعتصام قد استمر أكثر من 55 يوما، واستخدمت الشرطة السلاح في فضه صبيحة 14 أغسطس عام 2013.

حتى الآن لا توجد رواية متفق عليها لملابسات إصدار قرار استخدام القوة المسلحة في فض الاعتصام، ولا كيفية إتمام عملية الفض، ولا لأعداد الضحايا الذين سقطوا جراء ذلك. لكن ذلك كله تابعناه من خلال ثلاث روايات على الأقل. واحدة تبنتها وزارة الداخلية، وتولت وسائل الإعلام تسويقها. الثانية جاءت من المصادر الإخوانية وإن لم تنجح في تسويقها بسبب قصور الإمكانات وضعف الخبرات، فضلا عن الحصار الإعلامي. الثالثة صدرت عن المراكز الحقوقية المستقلة. هذا التباين انعكس على تقدير عدد الضحايا الذين سقطوا في ذلك اليوم، فقتلوا أو أصيبوا، وهو ما نستخلصه من المعلومات التالية:

*في 16/8/2013 ـ بعد الفض بيومين ـ نشرت جريدة الأهرام نقلا عن مصادر وزارة الصحة أن القتلى عددهم 227 شخصا، أما المصابون فعددهم 1492.

* في 14 نوفمبر من العام ذاته ذكرت مصلحة الطب الشرعي أن عدد القتلى 627 شخصا، تم تشريح 377 جثة منهم، في حين أن 250 جثة دفنت دون تشريح.

* موقع ويكي ثورة المستقل أعلن أنه في يوم 14 أغسطس قتل 932 شخصا جرى توثيق حالاتهم وأن هناك 133 آخرين تم حصرهم بلا وثائق رسمية، إضافة إلى 29 قتيلا مجهول الهوية + 80 جثة مجهولة البيانات في مستشفيات وزارة الصحة + 81 حالة وفاة جرى الحديث عنها دون توفر بيانات كافية عنها.
* المرصد المصري للحقوق والحريات القريب من الإخوان وثق 1162 حالة قتلى سقطوا في يوم 14 أغسطس، وأورد على موقعه قائمة بأسمائهم كاملة وأعمارهم وعناوينهم.

* في 10/8/2014 نشرت «الشروق» على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية، اللواء هاني عبد اللطيف أن حصيلة شهداء الشرطة في اليوم الأول لعملية فض الاعتصامين هي 62 شهيدا (24 ضابطا و38 جنديا)، وأن هؤلاء لم يقتلوا في القاهرة وحدها، وإنما توزعوا على ثماني محافظات بمصر.
لاحظ أن الأرقام السابقة تحدثت عن شهداء يوم واحد، هو 14 أغسطس 2013. وليس واضحا فيها ما إذا كانت تخص شهداء فض اعتصام رابعة وحده أم أنها تتضمن أيضا، الذين قتلوا في فض اعتصام ميدان النهضة بالجيزة.

من الملاحظات المهمة أيضا أن ثمة تقاربا في أعداد القتلى بين ما وثقه موقع ويكي ثورة وبين ما أورده المركز المصري للحقوق والحريات، الأمر الذي يرجح كفة التقدير الذي يقول إن الذين قتلوا في يوم الفض (14 أغسطس 2013) يتجاوز عددهم 1100 شخص. وهو بالمناسبة قريب جدا من عدد الشهداء، الذين سقطوا خلال الثمانية عشر يوما التي استغرقتها ثورة يناير. وهؤلاء وثق موقع ويكي ثورة عددهم الذي بلغ 1057 شخصا. أما المصابون فقد تفاوتت أرقامهم، بسبب تعذر إحصائهم. وفيما فهمت من الباحثين الذين شاركوا في عملية الحصر والتوثيق، فإن كثيرين من المصابين، وبينهم حالات خطرة مثل الشلل الرباعي، رفضوا الإعلان عن أنفسهم كي لا يتعرضوا للاعتقال الذي استهدف كل من اشترك في الاعتصامين.

في هذا السياق لا تفوتنا ملاحظة أن المتحدث باسم الداخلية ذكر شهداء الشرطة فقط وهو أمر مفهوم، إلا أنه لم يشر بكلمة إلى شهداء الجانب الآخر في بيانه المطول الذي سبقت الإشارة إليه ونشرته جريدة «الشروق» عن واقعة فض الاعتصامين.

ليست لدينا بيانات يطمأن إليها بخصوص الذين قتلوا أثناء المواجهات الأخرى التي وقعت خلال العام الذي أعقب فض اعتصام 14 أغسطس، إذ في حين تتداول المصادر الإخوانية رقم خمسة آلاف، فإن موقع ويكي ثورة بذل جهدا أكبر في توثيق حصاد مواجهات ذلك العام. ومما أورده بهذا الخصوص على موقعه ما يلي:

* منذ 3 يوليو 2013 (الذي أعلن فيه عزل الدكتور محمد مرسي) وحتى 31 يناير من عام 2014 سقط 3248 قتيلا. وحتى 28 فبراير وصل عدد المصابين إلى 18535 شخصا وحتى 15 مايو من العام الحالي وصل عدد المقبوض عليهم والملاحقين قضائيا 41163 شخصا.

* منذ 3 يوليو من العام الماضي وحتى 22 مارس العام الحالي 2014 أجريت 339 محاكمة، قدم فيها 9220 شخصا، وهؤلاء أدين منهم 938 شخصا وتمت تبرئة 1066، أما الذين أحيلوا إلى القضاء ولم تصدر بحقهم أحكام فعددهم 5216 شخصا.

* منذ 3 يوليو وحتى 25 مارس من العام الحالي قدم 4454 شخصا إلى محاكمات أول درجة (الجنح) وهؤلاء أجريت لهم 248 محاكمة، كما قدم 4766 إلى محاكم الجنايات، وهؤلاء أجريت لهم 91 محاكمة، وقد حكم على المتهمين فيها بغرامات مالية بقيمة 37 مليونا ونصف مليون جنيه. كما حكم على آخرين بما يعادل مليونين ونصف مليون جنيه كفالات لوقف تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم.

ما سبق يعرض جانبا من المشهد ولا يصوره كله، لأن تاريخ تلك المرحلة ليس مقدرا له أن يكتب في الأجل المنظور، ذلك أن هناك الكثير المسكوت عليه، والذي لم يعرف في عملية فض الاعتصام وما تلاها. فنحن طوال العام لم نسمع سوى وجهة نظر واحدة لم يتسنَ لأحد أن يناقشها أو يراجعها، ناهيك عن أنه الذي لم يكن مسموحا للطرف الآخر أن يشرح موقفه أو يدافع عن نفسه، خصوصا في أجواء التعبئة الإعلامية والسياسية، المحمومة التي تعاملت بمنتهى الشدة والقسوة مع أي رأي آخر، بل إنها لم تحتمل الحياد والعزوف عن الانخراط في الاستقطاب، وهو ما أشاع جوا من الإرهاب الفكري الذي فرض سيناريو الشيطنة واعتبر كل من لم يلتحق به متهما بالأخونة، حتى صار الشعار المرفوع في الفضاء السياسي المصري هو كل من ليس معنا فهو ضدنا.

لقد أشاع الإعلام مثلا أن المعتصمين في رابعة كانوا مسلحين، وقرأنا أنهم خزَّنوا أسلحة ثقيلة، ومن ثم فإن فض الاعتصام بالسلاح من جانب السلطة كان ضروريا، بعدما ذكرت أن المعتصمين هم من بدأ إطلاق النار. ولم يكن بوسع أحد أن يفند الرواية أو يدعو إلى التحقيق في وقائعها، وفي ظل ذلك السكوت المفروض استقرت الرواية، واستند إليها نفر غير قليل من المثقفين والسياسيين ممن وصفوا لاحقا بأنهم صاروا يشكلون كتيبة للإبادة السياسية والثقافية، وبالتالي لم يحرص أحد على أن يسأل كيف يمكن أن يقتل في فض اعتصام رابعة تسعة فقط من رجال الأمن إذا كان آلاف المعتصمين قد خزنوا الأسلحة الأوتوماتيكية، واستعانوا بالأسلحة الثقيلة في مهاجمة الشرطة، ولم يكن بمقدور أحد أن يشكك في رواية الممرات الآمنة، التي وفرتها الشرطة والحرفية الشديدة التي راعت المواصفات الدولية في فض الاعتصام، في حين أسفرت العملية عن قتل ألف شخص وإصابة آلاف آخرين بإصابات مختلفة.

من ناحية أخرى، فإن أحدا لم يحرص على فك اللغز الذي أحاط بعملية مهاجمة المعتصمين، الذين احتموا بمسجد الفتح بعدما تظاهروا في ميدان رمسيس في قلب القاهرة. ذلك أن اتفاقا كان قد تم خلال اتصال مباشر بين وزير الداخلية الحالي اللواء محمد إبراهيم وبين بعض القيادات الإخوانية على ترتيب خروج المعتصمين بسلام وأمان من المسجد، ولكن جهة أخرى في السلطة كان لها رأي آخر، فأرسلت قواتها التي اقتحمته، وأوقعت فيه عددا غير قليل من القتلى والجرحى، ثم اعتقلت الباحثين بعدما لفقت لهم تهمة البدء بإطلاق النار.

القصص المماثلة كثيرة، وكلها تعبر عن رؤية واحدة، وتم نسجها في محيط طرف واحد لكي تعبر عن قراءة واحدة، وتسعى إلى تحقيق هدف واحد، تمثل في ترسيخ الشيطنة وتسويغ الإبادة السياسية.
نحن الآن بصدد انسداد في الأفق بمقتضاه أصبحنا نواجه أزمة لم تتوفر لها إرادة الحل. وإنما يجري التعامل معها بالإنكار حينا والتجاهل حينا وبالإمعان في القهر والضغط في حين ثالثة، وهو ما يمارس، سواء بمواصلة إجراءات الاعتقال ومصادرة الممتلكات أو بإعلام الشيطنة والتحريض، أو بالأحكام القضائية المجحفة والمشددة.

في الأجواء المسمومة الراهنة أصبحت مصطلحات الوفاق والحوار والمصالحة شعارات مستهجنة ومرفوضة، ما إن تطرح في الأفق حتى تستنفر سرايا كتيبة الإبادة للانقضاض عليها ووأدها، وهي في ذلك تتبنى موقفا عبثيا يعتبر أن الحل هو اللا حل!

يردد بعض المسؤولين بين الحين والآخر أن فرص المصالحة تم تضييعها، وهو كلام غير دقيق، لأن معلوماتي أن مقترحات المصالحة التي وصفت في حينها بإجراءات بناء الثقة تم التراجع عنها من جانب السلطة. وكانت قد أعدتها اللجنة الرباعية التي ضمت ممثلين عن الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوروبي ووزيري خارجية قطر ودولة الإمارات. ومنذ نحو عشرة أشهر لم يحدث أي اتصال سياسي مباشر، وإن لم يخل الأمر من وسطاء، لم ينجحوا حتى الآن في وصل ما انقطع أو رأب ما انصدع.

أكثر ما يقلقني في المشهد أمران. الأول أن يؤدي الانسداد إلى ظهور أجيال من شباب الإسلاميين فاقدة الثقة في إمكانية التغيير السلمي ومنحازة إلى العنف والثأر والعمل السري، وتحضرني هنا شهادة الجنرال مايكل فيلي رئيس العمليات السابق في المخابرات الأمريكية، الذي حذر من عاقبة تدمير حركة حماس الفلسطينية، وقال إن من شأن ذلك ظهور تنظيم آخر بديل عنها أخطر وأشد مرارا. وهو ما ينطبق على الحالة التي نحن بصددها، لأن اختفاء الإخوان الذين لا يعجبوننا يمهد الطريق إلى ما هو أخطر وأسوأ.

الأمر المقلق الثاني أن حملة شيطنة الإخوان فتحت الأبواب لتجريح الثورة ذاتها واعتبارها مؤامرة دبرها أولئك «الأبالسة»، وذهب كثيرون إلى أبعد، حين اعتبروا ذلك الاشتباك مع الإخوان بابا نفذوا منه للطعن في الربيع العربي وتجريحه كله، واعتباره كارثة حلت بالأمة ونكبة أخرى أصابتها، وترتب على ذلك أننا صرنا في النهاية بإزاء تحالف جديد يقود الثورة المضادة، ويسعى لإجهاض حلم العرب في مستقبل أفضل ــ إذ وجد ذلك التحالف أن محاكمة الإخوان فرصة مثالية لمعاقبة الأمة وتأديبها.

ليس السؤال الآن، ما الذي سيحدث في يوم 14 أغسطس؟، لأن السؤال الأهم هو، متى نفيق ونتخلص من الغشاوة، التي خيمت على الأعين والعقول حتى وصلت إلى مشارف التيه الذي نحن بصدده، وفي ظله أصبحت السهام توجه إلى الثورة وربيع العرب؟.

(الشرق القطرية 12/8/2014)