سؤال يطرح نفسه، بعد أن أطل علينا الرجل بعد طول غياب، ليؤكد رغبته في خوض الانتخابات الرئاسية، وإن كانت هذه الرغبة جاءت مغلفة بما أسماه طلب الجماهير منه ذلك، وهو اختراع جديد، ليس مسبوقاً في تاريخ النظم السياسية، ولا تعرفه قواعد اللعبة الديمقراطية، على نحو يستوجب استدعاء ما صكه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح استاذ العلوم السياسية، وأعني به اصطلاح " العلوم
السيسية"!.
للتذكرة، فإن هذا الإصطلاح ذكره عبد الفتاح وهو يصف الحالة الجديدة، التي عرفتها مصر مع انقلاب يونيو، ودفعت بكثير من أساتذة العلوم السياسية، أن يقوموا بمحاولات مضنية لتطويع العلوم السياسية، لإسباغ مظلة علمية على تصرفات لا علاقة لها بهذا العلم، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، وفقيه دستوري (هكذا حرص أن يتم تقديمه تلفزيونيا في برنامج شاركت فيه) وصف ما حدث في مصر بأنه ينتمي الى " شرعية الحناجر"، التي هي أساس الشرعية الديمقراطية، وهو يستخف بشرعية الصناديق، التي انتجت أول رئيس مدني منتخب في مصر هو الدكتور محمد مرسي.
منذ أكتوبر الماضي، والفريق السيسي مختفياً، وقد نفهم هذا في إطار التكتيكات المخابراتية، لولا أنهم كانوا حريصين على بث صور له، عن لقاءات، هي صورة بلا صوت، سرعان ما يكتشف الناس أنها صوراً ارشيفية، وعندما نشر له مقطع فيديو وهو يهنئ المسيحيين بأعياد الميلاد، كان واضحاً انه كلام عائم، لا يحمل تهنئة، ولا يتحدث عن وضع محدد، على نحو دفع من يتشككون إلى القول بأن الفيديو قديم!.
يوم السبت الماضي ظهر الفريق السيسي متحدثاً، وقد دعا إلى المشاركة في
الاستفتاء على
الدستور بقوة، وقبل أن يعلن البعض أنه ربما يقصد الاستفتاء السابق، تحدث عن عزمه خوض الانتخابات الرئاسية، في حال ما إذا عبر الشعب عن ذلك وفوضه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بهذه المهمة!.
مطلب السيسي، وإن كان ينتمي إلى مقرر " العلوم السيسية"، فإن هذا الفرع الحديث من العلوم الاجتماعية، ليس منبت الصلة بقيم القبيلة، و"الأهل والعشيرة"، ليتبين أن الرئيس مرسي ليس وحده الذي ينتمي إلى مرحلة "الأهل والعشيرة"، وهي مرحلة تنتمي " انثروبولوجياً" إلى مرحلة المجتمعات التي لم تشكل دولة!.
مرسي فسر استخدامه لـ"الاهل والعشيرة" في خطبه، بأنه يعني به كل الشعب المصري، فهذا الشعب هو أهله وعشيرته ولا يستهدف بذلك تنظيماً معيناً أو حزباً ما، لكن عبد الفتاح السيسي يؤكد التزامه بقيم المجتمعات البدائية، في الممارسة والتطبيق.
لا بأس، فها هو عبد الفتاح السيسي يقطع قول كل خطيب، ويتمدد في المشهد، لينفي ما راج مؤخراً من أنه مات، وهناك من قال أنه قُتل، ونسجت "قصص وحواديت" حول عملية قتله. ولم يكتف بظهور يؤكد من خلاله أنه على قيد الحياة، لكنه بدا طامعاً في السلطة، وإن كان يريد أن يبدو مدفوعاً إلى ذلك بإرادة الجماهير، وبتفويض من القوات المسلحة، على هذه التضحية الجسيمة، ولقبوله التنازل والتسليم "بأمر الشعب المصري"، وبتفويض قيادة القوات المسلحة!.
صاحبنا بذلك لا يريد أن يحمل ترشيحه أي قدر من المغامرة، فقد أصر على تحصين موقع وزير الدفاع، فلا يسري عليه ما يسري على الحقائب الوزارية الأخرى من حيث كونه غير قابل للعزل لمدة ثماني سنوات، لكن لم يتحقق له ما طلبه بلسانه، في التسريبات التي أذيعت بأن يقنع محاوره رئيس تحرير جريدة " المصري اليوم" النخبة بأن تطالب بأن ينص في الدستور على أن يعود " الفريق عبد الفتاح السيسي" وبالأسم إلى منصب وزير الدفاع، إذا لم يوفق في الانتخابات الرئاسية!.
ولعله وهو يطلب تفويضاً من المؤسسة العسكرية، ينتظر أن تنظر إليه على أنه بترشحه للانتخابات الرئاسية هو في "مهمة عمل"، وأنه منتدب لوظيفة "مرشح" بحسب الاصطلاح المعروف في الوظائف الحكومية، عندما تعطي للموظف الحق في أن ينتدب لجهة أخرى بعد موافقة الجهة التي يعمل بها، على أن يعود إلى وظيفته الأصلية في حال انتهاء مدة "الانتداب"، أو "الإعارة الداخلية"، والهدف من "الانتداب"، أو " الندب الوظيفي" هو زيادة دخل الموظف المنتدب والمحظوظ.
السيسي إذن يريد بتفويض الجيش له لخوض الانتخابات الرئاسية، ألا يتم شغل "وظيفة وزير الدفاع" عند انتدابه مرشحاً رئاسياً، فإذا لم يحالفه الحظ رئيساً عاد وزيراً محصناً بقوة الدستور.
أعلم أن المرشحين الجادين قد علقوا قرار ترشحهم بقرار السيسي فإذا ترشح امتنعوا عن الترشيح، لكننا أمام شخصية لا تريد أن تقبل أي نسبة للفشل، فهو شخص ليس مغامرا ويستهويه أن يلعب دائما "في المضمون"، ولعل في سعيه لإقناع النخبة لكي تدفع للنص في الدستور على أن يتم ضمان عودته مرة أخرى وزيراً للدفاع في حال فشله في الانتخابات الرئاسية، ما أكد للناس حقيقته كطامع في السلطة، فلم يكن موقفه يوم 3 يوليو انحيازاً منه للجماهير، وهو من ليس لديه استعدادا لأي خسارة، فسقطت الأسطورة وتبدت الحقيقة للناظرين!.
" الأسطورة" صنعت للسيسي بواسطة "البروباجندا الإعلامية"، إذ جرى تقديمه على أنه المنقذ، وأنه جمال عبد الناصر، وأنه ديجول، وأنه أهم قيادة عسكرية بعد ايزنهاور، بحسب ما ذكره الروائي علاء الأسواني للكاتب البريطاني روبرت فيسك، فأشار إليه الأخير في مقال له، وكان واضحاً انه مندهش حد الإنزعاج لهذه المنزلة، التي رٌفع إليها قائد عسكري لم يخض حرباً واحدة في حياته، ولم يقف يوماً على "خط النار"، في حين أن ايزنهاور كان صاحب تاريخ عسكري حافل.
لقد بنى عبد الناصر مجده السياسي بانحيازه للفقراء، فوقف في وجه الاقطاع، ولم يكن السيسي مشغولاً بهم، وبرنامجه الذي تجلي في التسريبات يؤكد على انحيازه للرأسمالية المتوحشة عندما يتجاهل الدور الاجتماعي للدولة، ويؤكد أنه مع بيع "أنبوبة البوتاجاز" بسعرها، وأنه مع أن الخدمة بثمنها، كما أن الاقطاعيين الجدد الذين صنعهم مبارك على عينه هم جزء من انقلابه.
الأمر الثاني الذي صنع به عبد الناصر مجده السياسي هو عدائه لإسرائيل وللاستعمار العالمي، وبعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، وقف المخدوعون به على أن الغرب واسرائيل هم دوائر الانقلاب المهمة، وقد وصلت تصريحات قادة اسرائيليين أيدوا الانقلاب إلى الآذان فخرقتها، بل إن شركة الدعاية للانقلاب في واشنطن، تبين أن قادتها اسرائيليون ومنحازون للإسرائيليين!.
التسريبات أشارت إلى أن الفريق عبد الفتاح السيسي عندما انقلب على الرئيس الشرعي لم يكن منحازاً لمصر أو للمصريين، ولم يكن ضد الخطر الإخواني، ولكن لأنه طامع في السلطة، ولديه "منامات" أربعة، عززت لديه هذه الرغبة الجامحة في أن يكون رئيساً!.
فالأسطورة أنتجت هذا الرجل الذي انتصر للشعب الذي خرج يوم 30 يونيه، والحقيقة كشفت أنه كان مخططاً لهذه المظاهرات..
والأسطورة قدمته على أنه الرجل الزاهد في السلطة وقد عرض عليه الإخوان منصب رئيس الحكومة فرفض، والحقيقة أنه طامع في "الكرسي الكبير"، وقد وجد فرصته فعض عليها بالنواجذ، وأمسك فيها بيديه وأسنانه!.
فلم يكن السيسي عبد الناصر، أو ديجول، أو ايزنهاور، أو حتى الأسطورة السودانية الفريق سوار الذهب، الذي حملته الجماهير
الغاضبة على حكم النميري للتدخل بصفته قائد الجيش، فتعامل مع الأمر على أنه للضرورة التي تقدر بقدرها، وأشرف على انتخابات رئاسية لم يكن جزءاً منها، وسلم السلطة لقيادة منتخبة.
ماذا بقي من سيسي 3 يوليو، صنيعة " سحرة
فرعون"؟.. في الواقع لم يبق شيئاً مع أن سحرة فرعون أمنوا برب موسى وهارون، أما سحرة السيسي فلا يزالون في غيهم يعمهون.. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى.