كتاب عربي 21

خيال ترامب الإمبريالي حول غزة

"في مشهد إمبريالي استعماري سوريالي اجتمع مجرم مدان ومجرم حرب في مؤتمر صحفي"- جيتي
يشير مقترح ترامب حول تطهير غزة عرقيا واستعمارها أمريكيا، إلى انحدار الإمبريالية الأمريكية إلى مستوى غير مسبوق من الانحطاط الأخلاقي والتدني الإنساني، والتلبس بالشر المطلق والوقاحة الإنكارية والعدوانية والهمجية والبربرية والإجرام، وهي قيم مشتركة في السوء تتقاسمها الإمبريالية الأمريكية مع الصهيونية الاستعمارية، وسمة إجرامية جامعة بين ترامب ونتنياهو.

ففي مشهد إمبريالي استعماري سوريالي اجتمع في الرابع من شباط/ فبراير، مجرم مدان ومجرم حرب في مؤتمر صحفي، وما يبدو أقرب إلى الطرفة حدث بالفعل في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، حيث أعلن الرئيس الأمريكي عن خطته لتطهير قطاع غزة عرقيا وجعل الولايات المتحدة تسيطر على ما يعتبره عقارا مهما. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن غزة "أول فكرة مبتكرة منذ سنوات، وتحمل في طياتها إمكانية تغيير الوضع بشكل جذري".

ويبدو أن فكرة ترامب نشأت مع صهره جاريد كوشنر، الذي قال العام الماضي لجمهور جامعة هارفارد ضمن سلسلة حوارات حول الشرق الأوسط: إن "الممتلكات الواقعة على الواجهة البحرية" في غزة "قيّمة للغاية"، واقترح أن تقوم إسرائيل بإخلاء المدنيين بينما "تنظف" القطاع.
مقترح ترامب الخيالي يهدف إلى انقاذ نتنياهو شخصيا، ويسعى إلى إنقاذ المستعمرة الصهيونية من المأزق الاستراتيجي، فخيارات إسرائيل باتت محدودة بعد الخضوع لإبرام الاتفاق على إطلاق سراح الرهائن، وهو مسار يعيد تشكيل مسار الحملة العسكرية في قطاع غزة، ولكنه يترك إسرائيل في مواجهة تحديات استراتيجية معقدة

تبدو النزعة الترامبية الإمبريالية متكاملة، فقد أضاف ترامب غزة إلى قائمة الأراضي والعقارات المهمة التي يسعى إلى الاستيلاء عليها وامتلاكها إلى جانب جرينلاند وبنما وكندا، ويتحدث ترامب عن الدمار في غزة كما لو كان نتيجة تعرضها لكارثة طبيعية، وليس نتيجة جريمة تطهير وحرب إبادة شنها المجرم الذي يقف إلى جانبه مبتسما. فبعد خمسة عشر شهرا من الدمار الشامل الذي ارتكبه الجيش الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة في غزة، والذي يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وفقا لمنظمات حقوق الإنسان والعلماء والخبراء الدوليين البارزين، لكن ترامب يجسد الإمبريالية من خلال استحضار النزعة الاستثنائية والهيمنة العسكرية والتوسع الإقليمي، فالسلام الترامبي يقوم على شعار "أمريكا أولا" ومبدأ فرض "السلام بالقوة",

إن مقترح ترامب الخيالي يهدف إلى انقاذ نتنياهو شخصيا، ويسعى إلى إنقاذ المستعمرة الصهيونية من المأزق الاستراتيجي، فخيارات إسرائيل باتت محدودة بعد الخضوع لإبرام الاتفاق على إطلاق سراح الرهائن، وهو مسار يعيد تشكيل مسار الحملة العسكرية في قطاع غزة، ولكنه يترك إسرائيل في مواجهة تحديات استراتيجية معقدة. ففي الوقت الذي يحقق الاتفاق هدف إعادة الرهائن إلى ديارهم في مقابل ثمن إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيون، فإن الاتفاق يشير إلى الإخفاق والفشل الذريع في القضاء على حركة حماس، ولم تتمكن إسرائيل من خلق كيان عميل بديل عقب خمسة عشر شهرا من الحرب، وفي ظل فرض حماس سيطرتها الأمنية والمدنية وفشل خيارات فرض الاحتلال والحكم العسكري، أو الضم، فإن الحل الأكثر معقولية لإسرائيل هو القبول بإنشاء إدارة تكنوقراطية محلية، بدعم من الدول العربية.

وتبدو المعضلة الاستراتيجية للمستعمرة غير قابلة للحل على الطريقة الترامبية، ورغم أن الاتفاق الحالي يحقق أحد الأهداف الصهيونية الثلاثة المعلنة للحرب بإعادة الرهائن، فإنه يحول دون تحقيق الهدفين الآخرين، بتدمير جيش حماس وقدراتها على الحكم في قطاع غزة، كما أن الاتفاق سوف يعمل وقف إطلاق النار، والتقليص الأولي للوجود العسكري في المرحلة الأولى من الاتفاق، والانسحاب الكامل لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي من القطاع في المرحلة الثانية، وعلى منع العمليات العسكرية المكثفة التي تهدف إلى استئصال حماس من القطاع.

لا جدال أن معرفة ترامب بالقضية الفلسطينية لا تتعدى حدود القراءة التوراتية البروتستانتية الرأسمالية، لكنه كأسلافه من زعماء الولايات المتحدة يتعامل مع فلسطين باعتبارها مختبرا للطموحات الإمبريالية الجيوسياسية، إذ تتجاهل الولايات المتحدة التطلعات الفلسطينية إلى السيادة من أجل تعزيز التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وتقع فكرة ترامب بتهجير أهل غزة في سياق أمريكي متواصل لتصفية القضية الفلسطينية، فقبل حرب الإبادة والتدمير الإسرائيلي الكامل الأخير، كانت غزة تحت الاحتلال ثم تحت حصار دام نحو سبعة عشر عاما، وتتعرض لاعتداءات متكررة، وانتهاكات منهجية، ورغم الحديث عن غزة واتفاق وقف إطلاق النار، استمرت خرب إبادة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.

لا جدال أن معرفة ترامب بالقضية الفلسطينية لا تتعدى حدود القراءة التوراتية البروتستانتية الرأسمالية، لكنه كأسلافه من زعماء الولايات المتحدة يتعامل مع فلسطين باعتبارها مختبرا للطموحات الإمبريالية الجيوسياسية، إذ تتجاهل الولايات المتحدة التطلعات الفلسطينية إلى السيادة من أجل تعزيز التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل
ومع دخول عملية الجدار الحديدي الإسرائيلي أسبوعها الرابع في الضفة الغربية، شددت القوات الإسرائيلية الحصار على مدن مثل جنين، وأغلقت مخيمات اللاجئين، وهدمت المنازل وهجّرت السكان، ووسعت من فرض القيود الخانقة وشجعت هجمات المستوطنين، ومع إعلان ترامب عن خطته لضم غزة وتطهير سكانها عرقيا، فإنه يعد إسرائيل بضم الضفة الغربية.

يعلم بنيامين نتنياهو أن مقترح دونالد ترامب مجرد خيال جامح لا ينطوي على خطة متكاملة، لكن توقيت الإعلان منح نتنياهو طوق نجاة مؤقتا وأمده بشريان حياة سياسي، إذ يعتمد حفاظه على السلطة على استرضاء ائتلافه اليميني المتطرف، ويساهم بتأخير محاكمته بتهم الفساد، ويسكن الشارع الغاضب من التعاطي مع أزمة الرهائن.

ورغم أن اقتراح ترامب لا يتوافر على خطة كاملة، لكن تصريحاته تؤسس لحالة من الفوضى، ويخلق الظروف والأسباب الكافية لإشعال المنطقة، فهو يشجع القوميين اليمينيين المتطرفين في حكومة نتنياهو على الدعوة إلى قيام الجيش الإسرائيلي باستمرار حرب الإبادة في غزة، فقد قال إيتمار بن غفير، الذي كان حتى وقت قريب عضوا في حكومة نتنياهو، في منشور على موقع إكس إن "تشجيع" سكان غزة على الهجرة هو الاستراتيجية الصحيحة الوحيدة لإنهاء الحرب في غزة.

إن الشعب الفلسطيني وسائر شعوب المنطقة تكره الولايات المتحدة، لكنها تحب ترامب أكثر من أسلافه لسبب بسيط وهو أنه مسل وغير ممل، فهو يقول كلماته الجوفاء دون تنميق، وبلاغته المضحكة تتجاوز الملق والنفاق، فالفلسطينيون في غزة، يتهكمون على وعد ترامب بالتطهير العرقي الكامل، وتحويل قطاع غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، من خلال طرد كل فلسطيني آخر إما إلى مصر أو الأردن أو أي دولة أخرى في المنطقة. وعندما قال ترامب لجمهوره: "ستتولى الولايات المتحدة قطاع غزة وسنقوم بعملنا هناك أيضا، وسنتولى المسؤولية عن تفكيك جميع القنابل غير المنفجرة الخطيرة والأسلحة الأخرى الموجودة في الموقع"، فإن شعوب المنطقة تساءلت: لماذا تجنب ترامب أن يقول إن كل هذه القنابل غير المنفجرة، إلى جانب الآلاف التي انفجرت، كانت مقدمة من الولايات المتحدة لتسهيل عمليات القتل الجماعي وجرح أكثر من 150 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال.

يدرك الجميع أن ما يقترحه ترامب بطرد أكثر من مليوني فلسطيني من غزة إلى "دول أخرى ذات اهتمام خاص ذات قلوب إنسانية"، هو مشروع خيالي، ذلك أن تحقيق التهجير القسري لأكثر من مليوني فلسطيني هو أمر يفوق قدرات قوات الاحتلال الإسرائيلي. فقد فشلت إسرائيل على الرغم من كل القنابل والمساعدات العسكرية التي تزيد عن 22 مليار دولار التي قدمها لها أسيادها الأمريكيون، في سحق المقاومة الفلسطينية في غزة، بل إن المقاومة الفلسطينية في غزة قهرت الآلة العسكرية الإسرائيلية التي كانت توصف في السابق كقوة "لا تقهر"، حيث تتواتر اعترافات جنرالاتها بصورة علنية بأنهم لا يملكون أي فرصة لتحقيق أهداف نتنياهو المعلنة المتمثلة بتدمير حماس بالكامل، أو طرد الفلسطينيين من أرضهم، وهو ما أجبر نتنياهو وحكومته الحربية التي يهيمن عليها اليمين الصهيوني إلى الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت لضمان إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الذين أسرتهم حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية.

في حقيقة الأمر إن إعلان ترامب محاولة يائسة لإنقاذ المستعمرة، ولا مجال أمام الولايات المتحدة سوى إرسال قوات لتحقيق هدف الإمبريالية وحليفها الاستعماري الصهيوني المتمثل في التطهير العرقي في غزة والضفة الغربية، ووضع الأراضي المحتلة تحت الحكم المباشر للنظام الإسرائيلي، وبالتالي ضمان الهيمنة الأمريكية. وهذه وصفة مضمونة لإشعال المنطقة بالمعنى الحرفي، لكن الإمبريالية في لحطة عمى قد تلجأ إلى الشر المطلق، فقد ترك ترامب الباب مفتوحا أمام التدخل العسكري المباشر ونشر القوات الأمريكية في غزة، قائلا: "إذا لزم الأمر، فسنفعل ذلك"،
مقترح ترامب الإمبريالي لا ينطوي على خطة متكاملة، ولكن لا تنبغي الاستهانة بإعلان ترامب بالتدخل العسكري المباشر في غزة باعتباره مجرد هذيانات مجنونة، فالجنون هو سمة مميزة لإمبراطوريات تعيش لحظة شك، فمتطلبات الإمبريالية الأمريكية التي تلقت ضربة قوية بهزيمة كلبها الحراسي الهجومي الصهيوني، تتطلب سحق الشعب الفلسطيني، وتأكيد الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط
وهو ما أثار موجة من الغضب في دول المنطقة، حيث رفض دبلوماسيون من مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر في اجتماع لهم في القاهرة؛ بشكل قاطع أي تهجير قسري للفلسطينيين، إذ يدرك زعماء هذه البلدان أنه على الرغم من أي رغبة في البقاء حلفاء أوفياء للولايات المتحدة، فإن الجماهير في شوارعها، وخاصة الشباب، لن تتسامح مع أي تواطؤ مع التطهير العرقي في غزة.

خلاصة القول أن مقترح ترامب الإمبريالي لا ينطوي على خطة متكاملة، ولكن لا تنبغي الاستهانة بإعلان ترامب بالتدخل العسكري المباشر في غزة باعتباره مجرد هذيانات مجنونة، فالجنون هو سمة مميزة لإمبراطوريات تعيش لحظة شك، فمتطلبات الإمبريالية الأمريكية التي تلقت ضربة قوية بهزيمة كلبها الحراسي الهجومي الصهيوني، تتطلب سحق الشعب الفلسطيني، وتأكيد الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية للرأسمالية، ومع تعمق أزمة المشروع الصهيوني تصبح القوانين والمواثيق الدولية عديمة القيمة والأهمية، حيث يمثل اقتراح ترامب بنقل غزة تحديا مباشرا لمبدأ تقرير المصير والسيادة الفلسطينية.

لكن ترامب يختزل تاريخ غزة وشعبها إلى مجرد بيدق في اللعبة الجيوسياسية، ويتعامل مع الشعب الفلسطيني كسلع يمكن الاستغناء عنها، ومعضلة شركاء السوء ترامب ونتنياهو أن النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير مكرس في القانون الدولي، بدءا من الحق في اختيار وضعهم السياسي بحرية والسعي إلى تنميتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا الحق محمي بموجب ميثاق الأمم المتحدة، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فخطة ترامب المتدحرجة تسعى إلى تجريد الفلسطينيين من هذا الحق الأساسي من خلال منحهم خيار التخلي عن وطنهم، متجاهلة ارتباطهم بأرض أجدادهم وحقهم في العيش فيها بكرامة، لكن مع وصول الإمبريالية الأمريكية إلى مرحلة إعلان الحرب في جميع أنحاء العالم من أجل أرباح الطبقة الرأسمالية الحاكمة، لا بد من تصعيد الاحتجاج ضد الإبادة الجماعية والحرب.

x.com/hasanabuhanya