كتاب عربي 21

ترامب وسياسة الإذلال.. هل يستفيق حكام العرب؟

"ما يجهله تاجر العقارات ترامب ومعه نتنياهو، أن الأرض عند العربي والمسلم تعني الشرف"- إكس
اعتاد ترامب منذ ولايته الأولى أن يتحدث عن الحكام العرب باستخفاف يبلغ حد إذلالهم والحط من مكانتهم، ومع تقدمه أكثر في السن، بات أقل قدرة على التحكم في اختيار كلماته وأكثر قسوة في حديثه عن حكام المنطقة، وانتقل أيضا إلى أطروحات الاستيلاء على كندا، وإشعال حرب تجارية، لكن الأخطر أنه على وشك فتح "أبواب الجحيم" -بالفعل- على المنطقة وإشعال حرب إقليمية، لا أحد يعلم إمكانية توسعها، وتبعاتها، لكن القدر المتيقَّن من النتائج أنها ستكون كارثية على العالم بأسره، لا مجرد هذا الإقليم.

كان مطلب ترامب في بداية حكمه أن تستثمر المملكة مبلغ 500 مليار دولار في بلاده، وبدلا من مجابهة هذا المطلب الاستعلائي، جاء الجواب باستثمار 600 مليار دولار، ليرفع ترامب المبلغ إلى تريليون دولار، كما أنه طالب مصر والأردن باستقبال سكان غزة في عملية إخلاء قسري كاملة الأركان، وجاءت الردود الأولية على استحياء ترفض تلك المطالب، وتقبل الذهاب إلى البيت الأبيض لترتيب الأمور مع الزعيم المتهور.

كما أن من أمارات الإذلال أيضا، توقيعه يوم أمس الاثنين، على أمر تنفيذي لتخفيف القيود على قانون يحظر على الشركات الأمريكية رشوة المسؤولين الأجانب، وبرر ترامب قراره بقوله: "لقد تبين أن الأمر يبدو جيدا على الورق، ولكن من الناحية العملية، فهو كارثة، هذا يعني أنه إذا ذهب أمريكي إلى دولة أجنبية، وبدأ في ممارسة الأعمال التجارية هناك بشكل قانوني أو شرعي أو غير ذلك، فمن المؤكد تقريبا أن يتم التحقيق معه وتوجيه الاتهام إليه [يقصد اتهامه في أمريكا لأنه سيدفع رشوة في تلك البلاد]، ولا أحد يريد ممارسة الأعمال التجارية مع الأمريكيين بسبب ذلك".

يتعامل ترامب بهذا الازدراء منذ ولايته الأولى، لكنه قرر هذه المرة رفع السقف إلى حدود أعلى وسط ظرف إقليمي متوتر، ومكمن الإخفاق يأتي من اجتماع العوامل المعيقة لأي تصور، لكن ترامب يعتمد، في تجاهله للعوامل المعيقة، على قدراته التفاوضية وتحكُّمه في أنظمة الحكم الإقليمية

يتعامل ترامب بهذا الازدراء منذ ولايته الأولى، لكنه قرر هذه المرة رفع السقف إلى حدود أعلى وسط ظرف إقليمي متوتر، ومكمن الإخفاق يأتي من اجتماع العوامل المعيقة لأي تصور، لكن ترامب يعتمد، في تجاهله للعوامل المعيقة، على قدراته التفاوضية وتحكُّمه في أنظمة الحكم الإقليمية، لذا صرَّح بأنه قد يوقف المساعدات المقدَّمة إلى الأردن ومصر إن لم يقبلا خطته الإجرامية بحق سكان غزة، كما يتحدث عن تمويل جريمته من دول الخليج الثرية، ليضع العرب في قلب أكبر خيانة ومذَلَّة في تاريخهم المعاصر.

استند ترامب، في موقفه هذا، إلى سلوك السلطات العربية المعادي للحركات المقاوِمة، وغير العابئ بالقضية الفلسطينية، وهو سلوك يمتد إلى نحو عقدين، خاصة منذ أعلن العرب مبادرة السلام العربية عام 2002، بينما كانت الدبابات الصهيونية تحاصر عرفات في رام الله، بل اعترض بعضهم على منحه كلمة "متلفزة" في القمة، ما أخَّر كلمته إلى اليوم الثاني والأخير من أعمال القمة، بحسب شهادة السيد عمرو موسى في مذكراته، ثم تصاعد السلوك العربي المتجاهل للفلسطينيين وحقوقهم وتركوهم في الساحة وحدهم.

نجح الفلسطينيون في إحباط عدة مخططات صهيونية، بدءا من خطة فك الارتباط في غزة عام 2005 وتحريرها على وقع ضربات المقاومة، ومرورا بأكثر من عدوان صهيوني دون تحقيق أهداف الحرب المعلنة، وتمسك الفلسطينيين في الضفة والقدس بأماكنهم وإحباط محاولة تغيير الأوضاع في الحرم الشريف، وانتهاء بإفشال أهداف الاحتلال في عدوانه البربري والهمجي على قطاع غزة، رغم الدمار الواسع.

خلال هذين العقدين، اتخذت الأنظمة الإقليمية موقفا معاديا من الفلسطينيين في وسائل إعلامهم الرسمية، والقريبة من الجهات الرسمية، وانتشرت حملات إلكترونية تدعو للتنصل من القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وتزامَنَ مع حالة "التصهين العربي"، نقل سفارات أجنبية إلى القدس المحتل، واعتبارها عاصمة دولة الاحتلال، منتصف 2018، ثم جاءت اتفاقيات أبراهام، بعد نقل السفارات بعامين، لتعلن مكسبا جديدا للمشروع الصهيوني وخسارة جديدة للقضية الفلسطينية، وعزْلها عن المحيط العربي أكثر فأكثر، وكان ترامب صاحب الفضل في ذلك كله.

طَوال حرب غزة كان الموقف العربي مخزيا ومتواطئا، ولم يصدر موقف عربي موحد لفتح المعابر رغما عن إرادة الاحتلال لإدخال المساعدات وإجلاء الجرحى، فضلا عن الضغط السياسي لإنهاء المجزرة الأبشع في تاريخ الحروب غير المتكافئة.

في السياق ذاته، مُنعت مظاهر الدعم في الشوارع بالتظاهر والاحتجاج، وحفلت الدول العربية بالمهرجانات والاحتفالات الترفيهية والراقصة، وكأن الذين في غزة ليسوا بشرا، فضلا عن أن تجمعهم بالعرب روابط العرق واللغة والدين!

من هنا وجد ترامب أنْ لا عائق سيقف أمام جريمته المزمعة، فتجاهل السخط الشعبي تجاه الحكام العرب، وأمعن في إذلالهم، كما رفع نتنياهو السقف، وتحدث عن رشوة الغزيين الميسورين لمسؤولي الحدود المصريين ليخرجوا من القطاع، ودعا السلطات السعودية لاستقبال الفلسطينيين، لتبدأ ملامح الخطاب العربي في التغير، ومهاجمة نتنياهو والاحتلال بجرأة غير معهودة من الحكام الجدد بعد انتكاسة الربيع العربي، بالإضافة إلى رفض معلن تجاه خطة ترامب.

الإشكال الذي يواجه الحكام العرب هنا يرتبط بوجدان فلسطين في الوعي المجتمعي العام، فمثلا أوردت مجلة "ذا اتلانتيك" في أيلول/ سبتمبر 2024، أن محمد بن سلمان قال لبلينكن: "هل أعبأ شخصيّا بالقضية الفلسطينية؟ لا، لا أعبأ، ولكن شعبي يعبأ". وبغض النظر عن أي إنكار لذلك، فالممارسة العربية تقول إن معظم الحكام لا يعبأون بالفلسطينيين، لكن الشعوب تعبأ، ولا حاجة إلى سماع ذلك الكلام بآذاننا، فالممارسة واضحة بجلاء كامل، والشعور المجتمعي المرتبط بفلسطين واضح كذلك، بل قطعا يمتد ذلك الشعور في جميع أجهزة أنظمة الحكم الأمنية والعسكرية والسياسية، ما جعل التخاذل العربي في أثناء الحرب محل سخط، وتجدد العدوان الهادف إلى التهجير قد يقود إلى اضطرابات سياسية شديدة العنف، وهو ما يقلق الحكام العرب بقوة.

لم يعد اليوم أمام الحكام العرب مفر من أخذ موقف داعم للقضية الفلسطينية، ولو على غير إرادتهم، إنقاذا لحكمهم، أو تفاديا لانقسام أنظمتهم السياسية. وهذه الخطوة تستلزم درجة من التراجع عن مساحات القمع الداخلية، إذ إن المعارضين لأنظمتهم هم الأقدر على قيادة حركة الشارع من أجل تنظيم معارضة شعبية حقيقية، تساعدهم في موقفهم الرسمي أمام ترامب وحلفائه

أمَّا ما يجهله تاجر العقارات ترامب ومعه نتنياهو، أن الأرض عند العربي والمسلم تعني الشرف، وأن مفهوم "الحدود تراب" راسخ في وجدان هذه الأمة المتصلة تاريخيّا وجغرافيّا وحضاريّا، وقضية فلسطين ملموسة في أعين أطفال العرب ووَعْيِهم، وبالتالي ستنطلق موجات عنف جديدة في كل بقعة تدعم توجه ترامب و"بيبي" تجاه القضية الفلسطينية، سواء كانت تلك البقعة في الأراضي المحتلة أو في الإقليم أو خارجه.

لم يعد اليوم أمام الحكام العرب مفر من أخذ موقف داعم للقضية الفلسطينية، ولو على غير إرادتهم، إنقاذا لحكمهم، أو تفاديا لانقسام أنظمتهم السياسية. وهذه الخطوة تستلزم درجة من التراجع عن مساحات القمع الداخلية، إذ إن المعارضين لأنظمتهم هم الأقدر على قيادة حركة الشارع من أجل تنظيم معارضة شعبية حقيقية، تساعدهم في موقفهم الرسمي أمام ترامب وحلفائه.

هذا التقارب الداخلي، إذا حدث، لا يعني التطبيع الكامل مع هذه الأنظمة، أو تطبيع الأنظمة مع المعارضين، فيمكن أن يظل الناشطون المعارضون على رفضهم للأنظمة الحاكمة وانتقادهم لها، وهو الشعور نفسه من قِبَل الأنظمة تجاه المعارضين، لكن هناك لحظات يبدو فيها تصرفٌ يحمل بعض قِيَم رجال الدولة، عندما يتفقون مع معارضيهم على تجاوز أزمة كبيرة ستعصف بالجميع، وهو سلوك كان يتكرر من أنظمة حكم المنطقة قبيل أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وبدرجات أقل قبل ثورات 2011، ثم اختفى ذلك بعد صعود الحكام الجدد في المنطقة منذ عام 2013، وآن أوان تصحيح ذلك المسار.

إن اندلاع حرب إقليمية وتصفية القضية الفلسطينية سيشعل نارا وحربا دينية لن تستطيع دولة السيطرة عليها، ولن تنجو من تبعاتها أي دولة، حتى لو احتمت بعزلتها وراء أقاصي البحار، فبدء موجات العنف الحديث ارتبط باحتلال أفغانستان نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال العالم يجني ثمار هذا الاحتلال الغاشم، أما احتلال كامل فلسطين سيتسبب بأحداث قد تبدو تبعات احتلال أفغانستان أمامها مجرد نزهة.