قضايا وآراء

الربيع الحلبي الجديد.. ملامح لحظة تاريخية في مسار الحرية العربية

هذا الربيع لن يكون سهلًا، لكنه يحمل في طياته الأمل، والأهم، العزيمة التي اكتسبتها الشعوب من سنوات طويلة من الألم والصمود.. الأناضول
مع كل دورة من دورات التاريخ، تظهر لحظة تحمل في طياتها زخمًا قد يُعيد تشكيل الملامح السياسية والاجتماعية للأمم. يبدو أن ما نعيشه اليوم هو بداية "ربيع عربي جديد"، ينطلق من تحت رماد الإحباط والانكسار الذي خلفته موجة الثورات الأولى. لكن هذا الربيع الجديد يختلف عن سابقه؛ فهو يستند إلى وعي شعبي أعمق، ورغبة جارفة بتجاوز لحظة الاحباط والإنكسار، وبنية أكثر صلابة، وتجربة تراكمية تتيح استثمار اللحظة التاريخية الراهنة.

من ثورة 2011 إلى "ربيع حلبي جديد"

شهدت سوريا وبقية دول الربيع  في 2011 ثورات عربية هزت عروش الأنظمة الاستبدادية، واسقطتها في دول اخرى، لكن تلك الموجة لم تحقق اهدافها في الجولة الأولي، لأسباب متعلقة ببنية الفواعل التي تبنت الثورة، أو التحديات الجمه التي واجهتها، أهمها تحالف الاستبداد المحلي، والدعم الإقليمي والدولي مع الاستبداد، وزج المنطقة بحرب طائفية كانت إيران ومليشياتها رأس حربتها.

اليوم بعد عقد من الزمن، تغيرت فيه الكثير من المعطيات، وبرزت العديد من التطورات، أبرزها ربما الانقلاب في مصر، وحدث ٧ أكتوبر في غزة، وحرب لبنان الأخيرة التي قصت أهم أذرع إيران في المنطقة، ما بجعلنا أمام مشهد مختلف، في سوريا، تحديدًا في حلب، والمنطقة العربية، يتجدد الحراك الشعبي في ظل ظروف محلية وإقليمية أكثر هشاشة للنظام وحلفائه.

نحن أمام لحظة فارقة في مسار الحرية العربية. ما يحدث في سوريا، وخاصة في حلب، ليس مجرد حراك شعبي آخر، بل هو بداية "ربيع حلبي جديد" قد يشكل شرارة لموجة ثانية من الثورات العربية.
اليوم يبدو الأمر مختلف علي الأرض فالنظام السوري، الذي أبدى في العقد الماضي صلابة مدعومة بتحالفاته مع إيران وروسيا وبالمال السياسي العربي، يبدو اليوم أكثر هشاشة من أي وقت مضى. داخليًا، يعاني النظام من انهيار اقتصادي وانقسامات داخلية ، أما حلفاؤه، فقد باتوا غارقين في أزماتهم الخاصة؛ ويواجهون خطر خسران كل مكاسبهم الاستراتيجية في المنطقة، فإيران تواجه احتجاجات داخلية وضغوطًا دولية خانقة، وروسيا منهكة بحربها في أوكرانيا، بينما المال السياسي العربي يعاني من تحديات اقتصادية تقلل من فاعليته.

لكن التغيير الحقيقي لا يأتي فقط من هشاشة الأنظمة، بل من الوعي الجديد الذي بدأ يتشكل بين الشعوب.

معركة وعي جديدة

ثورات 2011 كانت موجة عاطفية، عبّرت عن توق الشعوب للحرية والكرامة. أما اليوم، فإننا أمام حركة أكثر نضجًا ووعيًا. الشعوب لم تعد تطالب بإسقاط الأنظمة فقط، بل تسعى لبناء دول جديدة على أسس الحرية والشراكة والعدالة. أدرك العرب أن الاستبداد ليس ظاهرة محلية، بل هو جزء من شبكة محمية بالمال السياسي العربي والدعم الإيراني.

هذا الإدراك جعل الثورات اليوم أكثر تركيزا ووضوحا في أهدافها. لم تعد المقاومة مجرد رد فعل على قمع محلي، بل أصبحت رأس حربة لمشروع عربي أوسع يسعى لاستعادة السيادة الشعبية ومواجهة التحالفات التي تعيق تطلع الشعوب للحرية ، معركة اصبح خصومهم الاقليمين والدوليين اكثر وضوحا، الاعتماد علي الذات ، وادارة التعايش الداخلي السياسي والفكري اكثر استراتيجية ، بل وعيا وجوديا لنجاح الثورة.

الكتلة الصلبة للثورات.. رأس الحربة

في حلب اليوم يتجلي قانون التغيير التاريخي ، ففي قلب هذا التحول الجديد، توجد “الكتلة الصلبة” للثورات، التي تشكلت من رحم شعب سوري المنفي قسرا ،  التواق لوطنن ، لذكريات الطفولة في أزقة الحواري وساحات المدن ، هذه الكتلة ليست مجرد تنظيم سياسي أو تيار فكري، بل هي حركة اجتماعية متجذرة في الواقع، تمثل امتدادًا مباشرًا لمصالح الفئات الأكثر تضررًا من الاستبداد.

ما يميز هذه الكتلة هو تنوعها؛ فهي تجمع بين الإسلاميين، والليبراليين، والمستقلين، ما يجعلها قادرة على تمثيل طيف واسع من الشعوب. إضافة إلى ذلك، تراكمت لديها خبرة سياسية وتنظيمية عميقة من خلال سنوات من المقاومة والصمود تحت ضغط لا مثيل له.

الكتلة الصلبة التي قادت المقاومة في سوريا أصبحت اليوم رأس حربة لهذا المشروع الجديد. نجاحها يعتمد على قدرتها على استثمار هذه اللحظة التاريخية بحكمة وصبر، وتصحيح أخطاء الماضي، وبناء مستقبل يرتكز على الحرية والشراكة الحقيقية.
لكن التحدي الأكبر أمام هذه الكتلة هو الحفاظ على وحدتها، وتجنب الوقوع في الفخاخ التي أعدتها الأنظمة وحلفاؤها، سواء من خلال الإغراءات المالية أو إثار ة الانقسامات الأيديولوجية.

مطالبة هذه الكتلة وقياداتها، تقاسم المغانم والمغارم، تحديد مناطق ومناصب التأثير في صنع القرار، ادارتها بحيادية وحنكة وتشارك، فإدارة مخاوف الشركاء تحدي كبير، بحاجة لمرونة، وتضحية. فمرحلة البناء اشد اختبار من مرحلة الثورة نفسها.

في عمق مفتاح التوازنات الإقليمية 

حلب ليست مجرد مدينة عادية، بل هي مفتاح البداية والنهاية في المشهد السوري المعقد. عندما استعاد النظام السوري السيطرة على حلب، أعلن بشار الأسد قائلاً: "الآن يبدأ التحرير"، في إشارة واضحة إلى رمزية المدينة كمعقل استراتيجي ونقطة انطلاق لأي مشروع سياسي أو عسكري.

تمثل حلب مفترق طرق حيوياً بين الطموحات الإقليمية والدولية، فهي ليست فقط على تخوم العمق الاستراتيجي التركي في الشمال السوري، بل تشكل ساحة صراع مفتوحة بين المصالح الإيرانية والتركية. بالنسبة لإيران، حلب ليست مجرد مدينة، بل خط دفاع أول عن نفوذها في سوريا وساحة متقدمة لمواجهة خصومها الإقليميين. لهذا السبب، من المتوقع أن تزيد طهران دعمها للفصائل الموالية لها في سوريا، مع احتمال الاستعانة بوكلائها في العراق ولبنان لتعزيز موقفها أو إرسال رسائل إقليمية واضحة عند الحاجة.

تركيا بدورها تنظر إلى حلب كعنصر رئيسي في أمنها القومي، حيث لا يمكنها تجاهل أي تغيير في المعادلة هناك دون رد. وفي المقابل، سيكتفي الأوروبيون بالمراقبة الحذرة للتطورات على الأرض، مع استمرار دعمهم المحدود عبر منظمات المجتمع المدني، الذين يمثلون خط الدعم الأساسي بالنسبة لهم في هذه المرحلة.

لكن في النهاية، تبقى قوة الثورة وتماسكها العامل الحاسم في رسم معالم المستقبل الحلبي. فالثوار وحدهم قادرون على تحديد كيفية مواجهة هذه التدخلات المتشابكة، وتوجيه المسار نحو تحقيق تطلعات الشعب السوري، مهما كان حجم التحديات.

استراتيجية استثمار اللحظة الثورية

لتحقيق الأهداف الكبرى للحرية والشراكة، تحتاج الكتلة الصلبة إلى استراتيجية عمل طويلة الأمد، تستند إلى محاور رئيسية:

ـ  تعريف الكتلة الصلبة الثورية ، ما هيتها الحالية ، وهذا مهم في ظل الضخ الاعلامي التابع لايران ، الذي يستغل مرحلة تاريخية لبعض الفصائل والقيادات لتشوية الثورة وقيادتها ، وهذا امر يجب ان يكون واضحا.

ـ  بناء مشروع سياسي جامع اي أن تتحول الكتلة الصلبة إلى حاضنة لمشروع وطني يركز على إعادة بناء الدول، وليس فقط إسقاط الأنظمة. يتطلب ذلك رؤية واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية وضمان حقوق الجميع، بما في ذلك الأقليات والفئات المهمشة.

ـ استخدام الأدوات الناعمة للإعلام الجديد لتجاوز الهيمنة الإعلامية التقليدية باستخدام منصات التواصل الاجتماعي لنشر الوعي وتنظيم الحراك.

ـ إيجاد بدائل اقتصادية تدعم الحراك بعيدًا عن المال السياسي الخارجي.

ـ صياغة خطاب دولي جديد يركز على قضايا العدالة وحقوق الإنسان والتنمية ، واشراك كل السورين بالخارج للعمل وفق محدداتها " الدبلوماسية الشعبية"

إعادة تعريف مفاهيم مثل “الاستقرار” و”السيادة” و”الأمن” التي يستخدمها الاستبداد لتبرير وجوده، وتحويلها إلى أدوات تُحفز الحراك الشعبي.

ـ تحالفات جديدة واسعة لتجاوز العزلة الدولية من خلال بناء شراكات مع قوى عالمية وشعبية تدعم حقوق الإنسان وتطلعات الشعوب، سواء داخل العالم العربي أو خارجه.

التغيير لن يكون سريعًا أو مفاجئًا. النجاح يعتمد على التراكم التدريجي للإنجازات، واستثمار كل فرصة لإضعاف الأنظمة وتقوية الشعوب.

ختامًا.. لحظة تاريخية جديدة

نحن أمام لحظة فارقة في مسار الحرية العربية. ما يحدث في سوريا، وخاصة في حلب، ليس مجرد حراك شعبي آخر، بل هو بداية "ربيع حلبي جديد" قد يشكل شرارة لموجة ثانية من الثورات العربية.

الكتلة الصلبة التي قادت المقاومة في سوريا أصبحت اليوم رأس حربة لهذا المشروع الجديد. نجاحها يعتمد على قدرتها على استثمار هذه اللحظة التاريخية بحكمة وصبر، وتصحيح أخطاء الماضي، وبناء مستقبل يرتكز على الحرية والشراكة الحقيقية.

هذا الربيع لن يكون سهلًا، لكنه يحمل في طياته الأمل، والأهم، العزيمة التي اكتسبتها الشعوب من سنوات طويلة من الألم والصمود.