صدر تقرير ديوان المحاسبة الليبي عن العام 2023م، وصار مألوفا أن يتأخر صدور التقرير
نحو عام عن الموعد الصحيح، وتتعدد المبررات لتفسير دواعي التأخير، إلا أن السياسة
حاضرة بشكل ما، وفي ظل الظروف الراهنة كل شيء محتمل لتبرير التعثر والتقصير وحتى
الانحراف.
التقرير جاء في نحو 580 صفحة، وغطى مختلف
القطاعات والمؤسسات العامة، تلك التي تخضع لسلطة حكومة الوحدة الوطنية، وخلا
التقرير من أي بيانات عن الحكومة التابعة لمجلس النواب وما يتبعها من أجسام.
ويعكس التقرير حجم
الفساد ومدى الهدر في
المال العام والتسيب في الإدارة والأداء الوظيفي في جل المؤسسات العامة، حتى صارت
الوقائع التي تضمنها التقرير، وهي بالمئات، محل تندر النشطاء والمدونين على مواقع
التواصل الاجتماعي، ويحضر السخط والغضب في كتابات أغلب من علقوا على مضامين تقرير
الديوان في مقالاتهم أو مشاركتهم على القنوات الفضائية.
ومن اللافت أن البيانات المتعلقة بالمالية
العامة للدولة أظهرت فروقا كبيرة في رصدها بين المؤسسات السيادية المعنية بإدارة
الإيرادات والنفقات، فحجم الإيرادات العامة العام 2023م بلغت، وفقا لتقرير
الديوان، ما يزيد عن 176 مليار دينار، فيما أثبتها تقرير المصرف المركزي في نهاية
نفس السنة عند 126 مليارا تقريبا، وبفارق بلغ نحو 50 مليار دينار.
الارتباط بين الفساد والفوضى السياسية وترهل وهزال الدولة ومؤسساتها مؤكد، لكنه لا ينبغي أن يكون مبررا للقبول به والسكوت عنه، وينبغي أن تتطور بدائل وأدوات التصدي له عبر تفعيل كل ما هو ممكن من قوانين ونظم وإجراءات وأدوات.
الهوة ظهرت أيضا بين حجم الإنفاق العام الذي
قدره ديوان المحاسبة بنحو 175 مليار دينار فيما بلغ الرقم 125.7 مليار حسب بيان
المصرف المركزي، ويعزى ذلك إلى تضمين الديوان قيمة النفط الخام الذي تم مقايضته
بمحروقات، والبالغ نحو 42 مليار دينار، فيما لم يدرجه المركزي الليبي في بيانه
لإيرادات ونفقات العام نفسه، والفارق بين الجسمين السياديين في بيانات المالية
العامة مختلف وبمبلغ كبير حتى مع احتساب مقايضة النفط بالمحروقات، وهذه مسألة
تحتاج إلى معالجة.
لم يتضمن التقرير أي بيانات عن أداء حكومة
الشرق وما يلحقها من مؤسسات، وليس لديوان المحاسبة في الغرب سلطان على الحكومة
التابعة لمجلس النواب، وهناك ديوان خاص بالجبهة الشرقية، وهنا يظهر عوار الانقسام
والنزاع، كما تتأكد صعوبة لملمة الشعث والتشظي الذي طال ليس فقط السلطة التنفيذية
بل تعداها إلى الهيئات الرقابية وحتى المؤسسات القضائية.
ديوان المحاسبة كان أمام خيار أن يعتمد على
مصادر غير مباشرة لرصد أداء المؤسسات في الشرق، وهذا نهج لا يتفق مع طريقة عمل
الديوان، وبالتالي لم يكن هذا الخيار محل نقاش، أو أن يتوقف عن إصدار التقرير إلى
حين توحيد المؤسسات، وهذا أيضا لم يكن مقبولا، فما لا يدرك كله لا يترك جله،
وبالتالي فإن إلقاء اللوم على الديوان في أن التقرير لم يتضمن معلومات عن الحكومة
الموازية ربما لم يكن في محله.
القضية الأكبر والأخطر التي كشف عنها تقرير
الديوان هو استفحال الفساد وتفشيه بشكل مخيف ومقلق جدا، حتى بات سلوكا عاما ينتشر
في كافة المؤسسات العامة في الداخل والخارج، وفي كافة المستويات الإدارية، العليا
والوسطى وحتى الدنيا، وهناك ما يدلل على وقوع تواطؤ بين المستويات الإدارية في
المؤسسة الواحدة على الفساد، وكذلك الارتباط الأفقي بين المؤسسات التي تتشابك
أنشطتها.
هذا الوضع الذي بات أشبه بالوباء في الجهاز
الحكومي الليبي يتطلب وقفة جادة من كل من يعنيهم من النخبة والنشطاء، وينبغي أن
يرتقي الاهتمام بمكافحته إلى درجة تضمينه في أي خطط أو مبادرات للتسوية السياسية
على المستوى الوطني، وأيضا ضمن مشروعات التغيير، سواء كانت عبر الانتخابات أو من
خلال التوافقات السياسية.
الارتباط بين الفساد والفوضى السياسية وترهل
وهزال الدولة ومؤسساتها مؤكد، لكنه لا ينبغي أن يكون مبررا للقبول به والسكوت عنه،
وينبغي أن تتطور بدائل وأدوات التصدي له عبر تفعيل كل ما هو ممكن من قوانين ونظم
وإجراءات وأدوات.
ما يقوم به مكتب النائب العام من جهود
لملاحقة الفساد والفاسدين عبر التحقيقات والقرارات التي تصدر بضبط من يثبت تورطهم
في فساد مثمن، إلا أن الوضع يستدعي مضاعفة هذه الجهود وغلق الفجوات التي تسمح
بتسرب الفساد في كافة مستوياته وملاحقة كل من يتورطون فيه.