إذا كانت لعصرنا الحاضر سمات تطبعه، فلا شك أن من بينها ظاهرة
التعصب. وعلى الرغم مما يبدو من زوال للعامل الأساسي الذي كان يثير التعصب في الماضي، والمتمثل في الدين، بفعل انتشار الإلحاد، وتقلص ظل الكنيسة في الغرب من جهة، وزوال السلطة المركزية للخلافة الإسلامية في الشرق من جهة ثانية، إلى جانب ظهور الإلحاد البواح ومبدأ العلمانية الذي يقضي بفصل الدين عن تسيير شؤون الدولة والمجتمع من جهة ثالثة، فإن ظاهرة التعصب لم تزدد إلا تكريسًا في واقع المجتمعات الإنسانية بفعل
عوامل أخرى جديدة أعطتها مزيدًا من القوة والخطورة، تتمثل ـ على الخصوص ـ في
النزعة القومية التي اجتاحت العالم في الوقت الحاضر، مفرزة لفيروس من الحمى
الانفصالية، والدعوة إلى الحق في التميز والاستقلال والسيادة للعديد من الشعوب
والمجموعات السكانية، التي كانت ـ إلى وقت قريب ـ تنضوي تحت لواء دين واحد أو مذهب
واحد، فصار التعصب نتيجة هذه العوامل المتداخلة ذا أبعاد مضاعفة، تمثلت في ظهور
الفاشية و"الشوفينية" التي تتأجج في الصدور، وتنفخ في النفوس الشعور
بالحقد لدى بعض الشعوب المتجاورة بعضها إزاء بعض، وكأنها وحوش مفترسة في أدغال
الأمازون، بلا وازع ولا رادع ولا ضمير ولا حسيب ولا رقيب خارج حق الفيتو، المسلط على
رقاب الضعفاء من العباد في كل بقاع الأرض المستقطعة لأصحاب هذا الحق الدائم، المخول
للإجرام المتغول في هذا العالم المتوحش القائم.
وبذلك، اتخذ المسار التعصبي منحى جديدا في
الصراع والتناحر بين الشعوب والمجموعات البشرية على أساس الاختلاف في الجنسيات
واللهجات واللغات والهويات، فضلا عن بقاء التعصب الديني والمذهبي قائما كسلاح في
أيدي السياسيين "المحترفين"، يشرعونه كلما رأوا فيه فائدة لتكريس الخلاف
وتعميق عوامل الاختلاف، الذي يخول لهم "ولرعاياهم" حق التميز والاستقلال
عن الأغيار في نظرهم، أو استعبادهم بحجة التعالي على بقية البشر دون حجة علمية، سوى
الخرافة العنصرية العرقية النازية سابقا، والفاشية "السامية" لا حقا.
إن ظاهرة التعصب لم تزدد إلا تكريسا في واقع المجتمعات الإنسانية بفعل عوامل أخرى جديدة، أعطتها مزيدا من القوة والخطورة، تتمثل ـ على الخصوص ـ في النزعة القومية التي اجتاحت العالم في الوقت الحاضر، مفرزة لفيروس من الحمى الانفصالية، والدعوة إلى الحق في التميز والاستقلال والسيادة للعديد من الشعوب والمجموعات السكانية، التي كانت ـ إلى وقت قريب ـ تنضوي تحت لواء دين واحد أو مذهب واحد.
وهكذا، ظهرت مضاعفات مفعول التعصب في عصرنا
الحاضر، فاتسعت دائرته بموجبها من المجال الديني الذي كانت فيه منذ قرون، إلى
التعصب العرقي والقومي الشوفيني والمذهبي والديني، مع كل ما بين هذه العناصر من
تداخل شديد، على اعتبار أن اللغة مثلا إلى جانب كونها تمثل أحد أقوى رموز السيادة
الوطنية، فهي تشتق من اسمها الجنسية المرتبطة باسم العرق (أو الجنس)، الذي يتمحور
هو الآخر حوله ولاء الشعوب وانتماؤها إلى أمم وقوميات، وبوصف اللغة وعاء للثقافة،
فلها دور أيضا مهم في تشكيل الشخصية القومية التي تحمل ـ عادة ـ اسم اللغة واسم
الجنس في الوقت ذاته، ومن ذلك مثلا، ما نلاحظه من تسمية الشعوب والمجتمعات بأسماء
لغاتها، فيوصف أو يسمى ألمانيّا من يتحدث بالألمانية كلغة قومية، ويسمى إنجليزيّا من
يتحدث بالإنجليزية، ويسمى عربيّا من يتحدث بالعربية، ويسمى روسيّا من يتحدث
بالروسية، ويسمى فرنسيّا من يتحدث بالفرنسية، وقس على ذلك أهم الشعوب والأمم
المعتبرة في هذا العالم.
وهكذا، تلصق دائمًا أسماء الأجناس البشرية
باللغات التي تتحدث بها (كقاعدة وليس استثناء)، بقطع النظر عن الأصول السلالية
لتلك الأجناس، في الماضي أو الحاضر. كما تتغير أسماء الأجناس والمجتمعات بتغير
اللغات التي تتحدث بها، وقد تزول أسماء مجتمعات بكاملها بمجرد زوال لغتها من
التداول في الواقع، وطالما أنه لا يوجد مجتمع دون لغة، فإن المجتمعات التي زالت
أسماؤها بزوال لغاتها من التداول (لسبب من الأسباب)، ستعطى أسماء جديدة تنسبها إلى
اللغة التي أصبحت سائدة لديها، وذلك لأن اللغة هي قدرة مكتسبة وليست فطرية في
الإنسان، ومن ثمة فهي قابلة للظهور والزوال وقابلة للقوة والضعف، وكل ذلك متوقف
على إرادة الأفراد الناطقين بها.
فالملونون لا يستطيعون تغيير ألوان بشراتهم
بإرادتهم، ولا طوال القامة يصبحون قصارا بإرادتهم، والعكس بالعكس؛ وذلك لأن هذه
الصفات خَلْقية (بفتح الخاء وتسكين اللام) تورث فيزيولوجيًا دون أن يكون لأصحابها
حول ولا قوة في تغييرها، في حين أن الظاهرة اللغوية هي غير ذلك تماما، حيث يمكن
لكل العرب مثلا أن يصبحوا غير عرب إذا تخلوا إراديّا وكليّا عن استعمالهم للغة
العربية الفصحى لعدة أجيال، كما هو الحال في فرنسا مثلا أو بريطانيا أو أمريكا في
الوقت الحاضر، بالنسبة لبعض الجاليات ذات الأصل العربي أو الأفريقي، التي استوطنت
تلك الديار لعدة أجيال متعاقبة.
وهذا هو الفرق بين الوراثة اللاإرادية
الحتمية للصفات الجسدية للكائن البشري، والوراثة اللغوية الاجتماعية والثقافية التي
هي كلها صفات مكتسبة، عن طريق التعلم والتنمية الاجتماعية والوعي والإرادة الفردية
والجماعية، ومن ثم تظل تلك الصفات غير ثابتة البقاء كثبات الصفات الجسدية
الموروثة لا إراديّا، كما أسلفنا، التي لا قدرة للإنسان على تغييرها جذريّا، ولا يملك
إلا التكيف معها كما هي بقدر المستطاع، ومن هنا يبدأ التعصب العنصري والصراع
العرقي والديني واللغوي والهُوياتي والقومي.
وللتوضيح هنا، لا بد من أن نورد بعض التعاريف
للتعصب؛ فيعرفه عالم النفس الاجتماعي الدكتور حامد زهران بقوله؛ "إن التعصب هو
اتجاه نفسي جامد مشحون انفعاليّا، أو عقيدة أو حكم مسبق (مع) أو ـ في الأغلب والأعم
ـ (ضد) جماعة أو شيء أو موضوع، ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة كافية أو حقيقة
علمية، (بل ربما يستند على أساطير أو خرافات)، وإن كنا نحاول أن نبرره، ومن الصعب
تعديله، وهو يجعل الإنسان يرى ما يحب أن يراه فقط، ولا يرى ما لا يحب أن يراه، فهو
يعمي ويصم ويشوه إدراك الواقع، ويعد الفرد أو الجماعة للشعور والتفكير والإدراك
والسلوك بطرق تتفق مع اتجاه التعصب.
"ويعرفه معجم العلوم الاجتماعية، بأنه "ضرب
من الحماس الشديد الذي يدعو إلى الغلو والاستمساك برأي أو موقف معين وله مظاهر
مختلفة، وأوضح ما يكون في المواقف الوطنية والآراء الدينية". وورد في تعريف
آخر للتعصب، على أنه "موقف معارضة الجماعات الخارجية، وخاصة عندما لا يكون هناك
تفاعل مباشر بين هذه الجماعات والجماعة التي ينتمي إليها الفرد".
ونحن إذا تمعنّا في التعاريف الثلاثة
المذكورة على سبيل المثال (وليس الحصر)، فإننا نلاحظ أنها وإن اختلفت في
عباراتها، وفي شموليتها للموضوع، إلا أنها بالقطع غير متناقضة، مما يدل على أن كل
واحد من هؤلاء الواضعين لكل تعريف منها، حاول أن يركز على ما يراه مهمّا (من وجهة
نظره) في موضوع التعصب. على أن أهم هذه التعاريف وأكثرها شمولية ودقة، هو
التعريف الأول للدكتور حامد زهران، في كتابه: (علم النفس الاجتماعي/ دار مدبولي)، وقد لفت انتباهنا إلى فرز جانبين
في التعصب؛ هما التعصب للشيء والتعصب ضد الشيء. والملاحظ، أن المفهوم المتداول
للتعصب لدى الأغلبية من غير المتخصصين، هو أن التعصب ممقوت لذاته، وهو يكون بمعنى "ضد"
وليس بمعنى "مع"، مع أن هناك فرقا كبيرا بين التعصب للشيء أو المبدأ، وبمعنى آخر التمسك بالمبدأ إلى آخر لحظة من حياة الفرد، إذا اقتنع أن هذا المبدأ
الذي يكافح من أجله هو حق (مثل دفاع أهل فلسطين عن أرضهم المغتصبة ظلما وعدوانا)،
وبين التعصب والحقد ضد الآخرين أو مبادئ الآخرين أو دينهم أو لسانهم أو لون بشرتهم، مثلما كان الأمر في ألمانيا النازية وأمريكا وجنوب أفريقيا العنصرية، والآن في
فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر.
إن التعصب هو اتجاه نفسي جامد مشحون انفعاليّا، أو عقيدة أو حكم مسبق (مع) أو ـ في الأغلب والأعم ـ (ضد) جماعة أو شيء أو موضوع، ولا يقوم على سند منطقي أو معرفة كافية أو حقيقة علمية، (بل ربما يستند على أساطير أو خرافات)، وإن كنا نحاول أن نبرره، ومن الصعب تعديله، وهو يجعل الإنسان يرى ما يحب أن يراه فقط، ولا يرى ما لا يحب أن يراه، فهو يعمي ويصم ويشوه إدراك الواقع.
فالتعصب الأعمى المقيت المدمر دون مبرر
معقول ومقبول، هو ذلك الذي ينصب فيه تعصب الفرد بعامل التعالي العنصري (ضد) أبناء
جنسه البشري، كما هو الوضع الراهن في فلسطين المحتلة. وليس ما هو متعلق بأفكار أو
قناعات أو مبادئ يقتنع بها الشخص المتعصب، دون إلحاق الأضرار المادية بالآخرين، مما يجعلنا نشبه التعصب هنا بما يقال عن الحرية الفردية بالنسبة للقوانين العامة
والأعراف المجتمعية الضاغطة على الأفراد، بأنها تنتهي عندما تبتدئ حرية الآخرين.
والملاحظة الثانية التي نخرج بها من استعراض
هذه العينة من التعاريف، هي أن التعصب يتفرع إلى عدة أنواع، ويشمل عدة مجالات حيوية
في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات والأمم. وهذا
يقودنا إلى تحديد أنواع التعصب أو صوره، حسب المجالات التي يظهر فيها أكثر من غيرها
في عالمنا المعاصر، والتي لها أبعاد تتفاوت فيما بينها خطورة وحدّة على علاقات
الشعوب فيما بينها، وعلى وحدة الأمم وتلاحمها، وتلاقح حضاراتها وتقدمها كمجموعة
بشرية يفترض أن تكون ذات حدّ أدنى من القيم المشتركة بين البشر الأسوياء، وليس بعض
الوحوش البشرية المستقوية بأصحاب الفيتو الظالم، المتحكمين باستثناء دائم في هذا
العالم.
مظاهر التعصب وأسبابه
إن المعاني التي نستخلصها من تحليل الواقع
المعيش، أن التعصب بعبارة واحدة هو التطرف، ويأتي في الطرف المقابل له الاعتدال
والاتزان، ذلك أن التجرد المطلق من أي قيمة أو معنى من معاني الحياة يؤمن بها
الكائن الإنساني، هو عبارة عن ضياع وعدمية، لكن التعصب الأعمى لهذه القيمة على
حساب الآخرين هو التخلف بعينه، والتخلف قصور في العقل، والقصور في العقل هو دليل
على الجهل أو نقص المعرفة. وهذه السمات الظاهرة الدالة على التخلف بعينه، تنطبق
على بعض الأمم والمجتمعات، كما قد تنطبق على أفراد في مجتمعات بشرية دون أخرى في
الدرجة وليس في النوعية. والعبرة هنا تكون بالكيفية وبالعدد (كثرة أو قلة)، حيث إن
كثرة العدد هو الذي يرجح الكفة لصالح هذه الصفة الحميدة (الاعتدال والاتزان)، أو
تلك الصفة المذمومة المفروضة والملفوظة. أي التعصب الأعمى والتطرف للتطرف من أجل إشباع
نهم الأنا الذي لا يعرف الحدود، إن لم تفرض عليه الحواجز المانعة والعقوبات الرادعة. والتعصب هنا كلمة مطلقة تأتي مقابل
الاعتدال والاتزان كما قلنا، وتعني المبالغة في التشديد الزائد عن اللزوم، مع رفض
التراجع والاعتراف بالخطأ (من باب معزة ولو طارت)، وهذه المبالغة في التشدد والتعصب
للفكرة ضد غيرها، قد تكون في الدين، كما قد تكون في المذاهب السياسية والاجتماعية
والفرق الرياضية والمدارس الفنية والأدبية، وفي التفوق العرقي أو العنصري، وفي
الوطنية والعرقية، وفي اللسان الوطني أو القومي، بل وفي أي شيء مهم يخطر على بال
الإنسان، من علاقات يمكن أن تنشأ بين أبناء البشر في عالمهم الفريد والعجيب.
وإذا كانت هذه هي صفات التعصب ومظاهره، فإن
أبرز صفات التعصب هي ضيق الأفق؛ سواء كان هذا المتعصب فردا أو جماعة، ومن هنا كان
التعصب عائقا يقف في وجه التقدم الحقيقي والتحضر والتحرر. ويجدر التنبيه هنا إلى
ضرورة التفريق بين الإيمان والتعصب؛ نظرا للتداخل الموجود بينهما، الذي يمكن أن
يشكل لبسا في أذهان البعض في غياب التحليل والتوضيح.
التعصب بعبارة واحدة، هو التطرف، ويأتي في الطرف المقابل له الاعتدال والاتزان، ذلك أن التجرد المطلق من أي قيمة أو معنى من معاني الحياة، يؤمن بها الكائن الإنساني، هو عبارة عن ضياع وعدمية، لكن التعصب الأعمى لهذه القيمة على حساب الآخرين، هو التخلف بعينه، والتخلف قصور في العقل، والقصور في العقل هو دليل على الجهل أو نقص المعرفة.
نقول هذا خاصة في مجال التعصب الديني، حتى لا
يظن البعض أن كل مؤمن متعصب، وأن درجة الإيمان والفضيلة لدى الأفراد تقاس بما
يتصفون به من سلوك تعصبي إزاء الأغيار. فالتعصب غير الإيمان بمذهب اجتماعي أو
فلسفي أو سياسي أو ديني، فالإيمان ينبع من الوجدان والعقل، وهذان القطبان يتعاونان
فيما بينهما ليجعلا من الإيمان منهجا في الحياة، يجملها في نظر المرء ويجعل لها
طعما ومعنى وهدفا، يسعى إليه ويضحي من أجله. والإيمان بهذا المعنى وفي هذا النطاق، يعدّ دافعا أساسيّا للحركة والحيوية والتوثب الدائم إلى التقدم والتحرر، ومن ثم المزيد من طلب العلم والمعرفة، مع تقبل كل
رأي مخالف وبحثه والنظر فيه، وقد يصبح
بعد الاقتناع محطة انطلاق أخرى، وحافزا لإيمان جديد أقوى وأرسخ في مبادئه، قد
يلغي حتى الإيمان السابق، ولعل أبرز مثال لهذه الحالة، نلاحظه لدى العديد من
المفكرين ورجال العلم (والإيمان) الذين اعتنقوا الإسلام في السنوات الأخيرة، مثل
الفيلسوف الماركسي الفرنسي (روجيه غارودي)، والمفكر المسيحي (فانسان مونتاري)، وحتى
بعض القساوسة في كل من مصر وفرنسا وإنجلترا وأمريكا واليابان إلخ.
وما اعتناق الإسلام من قبل هؤلاء الذين
كانوا من قبل شديدي الإيمان بمذاهب وأديان أخرى، إلا دليلا على أن الإيمان الحقيقي
(كما قلنا) لا يعني التعصب على الإطلاق، بل يعني التحرر
الفكري والتدبر والتقدم
والبحث عن الأفضل دائما في الدنيا والآخرة، ذلك أن أساس الإيمان هو حرية العقل،
فإن الذي يكون عقله مستعبدا لا يمكن أن يؤمن أبدا. ونذكر حادثة الصحابي الجليل
بلال بن رباح وقولته المأثورة لمولاه وهو يعذبه في بطحاء مكة (تحت الموت والحياة)، عندما طلب منه أن يكفر بدين محمد لاعتباره عبدا مشترى من السوق، ولا حق لعبد
مثله أن يسلم دون إذن مولاه، فقال له
بلال، وبعفوية ذات دلالة بالغة، تظل حجة عبر العصور لنا ولغيرنا من الذين يحاولون
تسخير الروح لخدمة المادة، قال له بلال ما معناه: "أنا صحيح عبدك، وقد
اشتريتني من السوق كالسائمة، ولكنك يا مولاي أنت اشتريت جسدي المادي، فهو لك خذه،
أما روحي فهي حرة، ولا تعبد إلا خالقها الأوحد"، وظل يردد عبارة (أحدٌ أحد)، حتى أعتقه أبو بكر الصديق كما هو معلوم.
فأساس الإيمان إذن هو الحرية، أما أساس
التعصب فهو إغلاق الفكر والعقل، الذي هو مدعاة للتحجر والجمود والجحود والتقهقر، على اعتبار أن الذي لا يتقدم هو بالطبع يتأخر.
وإذا كنا قد بيّنا الآن الفرق الشاسع بين
الإيمان والتعصب، بهذه الدرجة من الوضوح المدعم بالشواهد الحية فيما نعتقد،
فهناك قيمة أخرى تظل مرتبطة بالنقطتين، وتقف في الحدود الفاصلة بينهما، بحيث قد
ينطلق الفرد منهما إلى التعصب، وقد ينطلق إلى الإيمان، وهذه القيمة المفروضة على
الإنسان العاقل، هي الانتماء والولاء. فالانتماء مرحلة أولى في حياة الفرد قد تؤدي
إلى الإيمان، إذا كانت قائمة على حرية العقل وحرية الوجدان (كما سبق الذكر)، كما قد
تؤدي إلى التعصب إذا كانت مرتدة إلى انغلاق العقل والوجدان، والانتماء باعتباره
موصلا إلى الإيمان أو إلى التعصب، يكون مرتبطا بالوطن (أي يكون الانتماء والولاء
للوطن)، أو بالجماعة، أو بالحرفة، أو بالحي، أو بالمدينة، أو بالجهة داخل الوطن الواحد، أو يكون لدين معين أو لمذهب سياسي، أو لفريق كرة قدم وطني أو جهوي أو محلي، أو
للغة معينة، أو لعنصر، أو لون، أو أمة أو شعب. وهكذا، نجد أن الانتماء والإيمان
والتعصب أفراد في أسرة واحدة. فالانتماء هو الأب أو الأم، والإيمان والتعصب هما
الأولاد الناتجون عن هذه الأمومة وهذه الأبوة، ولا يحق لأحد أن يطعن في هذه
(الوالدية) لكون أحد الأولاد خيرا، والآخر شريرا، أو أحدهما وسيلة للتقدم
والانطلاق والتحرّر، والآخر وسيلة للجمود والتوقف والتحجر. إن الاختلاف بين
الإخوة مهما بلغت درجته وتباينت وتناقضت، لا ينفي أنهم إخوة من الناحية الشرعية
والقانونية على الأقل، وأن جريمة هابيل في حق قابيل لا تنفي إطلاقا، وبأي صفة من
الصفات، أبوة آدم وأمومة حواء للأخوين العدوين.
التفسيرات العلمية للتعصب
يرى العلماء في تفسيرهم للتعصب، أنه آلية
نفسية تؤدي وظيفة خاصة تتلخص في التنفيس عما يختلج في النفس من توتر وكراهية
وعدوان مكبوت، وذلك عن طريق عملية الإزاحة والإبدال، دفاعا عن الذات وعمن تحبه. وكما
مرّ بنا، فإن التعصب قد يكون (مع) وقد يكون (ضد)، وإذا حاولنا أن نبرر فيما سقناه من
أمثلة عن التعصب (مع)، الذي قد يشتبه أمره لدى البعض بالإيمان، فإن التعصب (ضد)
يمثل الوجه الآخر الأكثر قتامة للتعصب، وإذا كان التعصب (مع) يحتوي على بعض الحب
في قلوب المتعصبين نحو (من) و(ما) يتعصبون لهم، فإن التعصب (ضد) لا يحتوي إلا على
الحقد والكراهية المدمرة للذات المتعصبة؛ فالمتعصب ضد العقيدة الدينية مثلا (أو
الإلحاد)، يكون رد فعل أو تكوينا عكسيًا لرغبة عنيفة نحو التمرد على سلطان الدين،
وبصفة عامة على السلطان أيّا كان نوعه.
والمتعصب بهذا المعنى، قد يجني لنفسه بعض
الكسب (المؤقت)، غير أن هذا الكسب لا يعدو أن يكون وهما أو مخدرا موضعيا، لا يلبث
أن يتحول إلى سراب، أو أن هذا الكسب هو بمنزلة ما يجنيه العصابي من سلوكه الشاذ،
أي إنه كسب وهمي ناقص، يفوت على صاحبه فرصة حل مشكلته حلّا رشيدا وواقعيّا مجديا،
وقد يكون التعصب عبارة عن إسقاط لمشاعر الذنب لدى الفرد على الآخرين، الذين يعدّهم
(كبش فداء) أو (ضحايا).
أساس الإيمان إذن هو الحرية، أما أساس التعصب فهو إغلاق الفكر والعقل، الذي هو مدعاة للتحجر والجمود والجحود والتقهقر، على اعتبار أن الذي لا يتقدم هو بالطبع يتأخر.
ومن هذه الزاوية، يمكن أن يوضع التعصب ضمن ما
يسميه علماء النفس بحيل الدفاع، ويرى بعض العلماء الآخرين في علم النفس وعلم النفس
الاجتماعي، أن التعصب يكون نتيجة لإحدى حيل الدفاع المسماة بحيلة (تحول المخاوف)
لدى المتعصبين من تهديد المتعصب ضدهم لكيان وأمن ومكانة ذات المتعصبين، وهذا النوع
من دوافع التعصب قد يكون في جانب منه، هو الذي نلاحظ في ظاهرة التعصب الديني في
أوروبا إزاء الإسلام، وخاصة في يوغسلافيا وفرنسا وألمانيا والسويد، والتعصب الصهيوني
ضد العرب والمسلمين في الوقت الحاضر، مثلما كان الأمر بالنسبة لألمانيا النازية ضد
اليهود قبل ذلك.
وهناك من العلماء من يذهب في تفسيره للتعصب
(في جانب منه)، إلى اعتباره نوعا من الأنانية وحب الذات أو النرجسية، وهو مثلما
يكون سلوكا يقوم به الفرد مع نفسه، فكذلك نلاحظه في شكل نرجسية لدى شعوب أو أمم
أو جماعة بشرية إزاء نفسها إيجابا، وإزاء غيرها سلبا! وكما أشرنا من قبل، فإن مشاعر
المتعصب الناتجة عن هذا الاعتقاد، بقدر ما تعدّ مقيته ومدمرة وسلبية للذين تقع
ضدهم، تعدّ في المقابل عامل تكتل واتحاد وقوة متصلبة ضد الغير، ومفتتة أو مشتتة
لهم إذا لم يقاوموها بآلية مشابهة لها (وليست بالضرورة أن تكون تعصبا مثلها)، كأن
يقابل التعصب الصهيوني الأعمى ضد العرب والمسلمين بوعي قومي وإرادة قومية للوحدة
الحقيقية الشاملة، التي من شأنها أن تجهض نتائج التعصب بالنسبة للأعداء، وتحقق
التقدم والقوة الضامنة لاستمرار شل حركة التعصب الممارس ضد الذات العربية المسلمة،
والمفروض عليها فرضا!! ومن ثمة تفادي مخاطره الوخيمة على وحدة الأمة، كما هو حاصل
حتى الآن في فلسطين المحتلة والصين وأمريكا وفرنسا وغيرها ضد المسلمين.