إذا كانت هناك من مهنة في
تونس باتت تضيق على أهلها حقا فهي بالتأكيد مهنة
الصحافة، وإذا كان هناك من صنف في هذه المهنة في كرب شديد فهو بلا جدال ذاك الذي يجمع عددا قليلا من الأصوات الناقدة للسياسات الرسمية المختلفة.
قبل بضعة أيام عقد مؤتمر صحافي في مقر نقابة الصحافيين التونسيين حمّل فيه النقيب زياد دبار وزارة العدل والإدارة العامة للسجون مسؤولية صحة الصحافي المسجون محمد بوغلاب الذي يعاني من أمراض مزمنة خطيرة باتت تهدد حياته، فهو في مرحلة متقدمة من مرض السكري فضلا عن أمراض عضوية وجرثومية أخرى أصيب بها بالسجن وباتت تهدد حياته فعلا.
وقد طالب عضو هيئة الدفاع رئيس الدولة، باعتباره أستاذ القانون الاطلاع على ملف بوغلاب، أن “يعاين بنفسه حجم الخروقات القانونية التي تشوبه، ويضع حدا لها، لأنه لا يليق بتونس أن يموت فيها صحافي بالسجن”.
القصة لا تقف عند هذا الحد، فوراء القضبان يقبع عدد من الصحافيين هم مراد الزغيدي وبرهان بسيّس وشذى الحاج مبارك وسنية الدهماني التي هي بالأساس محامية لكنها تفرّغت للتعليق السياسي في محطات إذاعية وتلفزيونية خاصة، هذا فضلا عن الصحافي زياد الهاني المحكوم عليه بالسجن المؤجل ونورالدين بوطار مدير إذاعة “موزاييك” الخاصة الذي أفرج عنه بكفالة في انتظار البت في قضيته، مع آخرين من الإعلام الرقمي تلاحقهم قضايا ما زالت جارية بشكل أو بآخر.
هؤلاء السجناء، أشار إليهم نقيب الصحافيين باعتبارهم سجناء رأي تمت محاكمتهم بمقتضى المرسوم 54 الذي تطالب نقابة الصحافيين بإلغائه لأنه “يشكل خطرا على
حرية التعبير عامة وليس على عمل الصحافيين فحسب”، لا سيما أن بعض الصحافيين المسجونين حوكموا استنادا إليه بمفعول رجعي، أي على أشياء “اقترفوها” قبل صدور هذا المرسوم أصلا!!
هؤلاء السجناء والملاحقون وآخرون كانوا حقيقة “ملح” المشهد الإعلامي في البلاد وكانوا قادرين على إعطاء نكهة مغايرة للخطاب الإعلامي الرسمي المغرم بالشعارات الشعبوية والتفسيرات التآمرية لكل شيء. ومن لم يُزج به في السجن أو يُلاحق آثر الانسحاب بهدوء لأنه بات يعتقد أنه لم يعد هناك من فرصة تسمح له بممارسة عمله دون ضغوط أو تحرّش أو ابتزاز، في حين ما زال البعض الآخر صامدا رغم كل شيء ومصرّا، بشجاعة تستحق التقدير، على السباحة ضد التيار الجارف، ولكن إلى متى؟ لا أحد يملك الجواب.
أجواء التضييق المتصاعد تجلّت كذلك حتى في عدد الميكروفونات التي وضعت على الطاولة خلال ذلك المؤتمر الصحافي الذي أشرنا إليه فقد كان عددها أربعة لا غير، وكلها تعود إلى وسائل إعلام أجنبية، بحيث أن لا إذاعة ولا تلفزيونا ممن عمل معهم بوغلاب لسنوات وكان نجمها الأبرز، بمحبيّه وكارهيه، حضر ذلك المؤتمر لينقل معاناته، مما يعكس درجة تفشي حالة الخوف بين الصحافيين والمجتمع عامة.
نجد الآن هذا العدد المرتفع من الصحافيين وراء القضبان، مع نشطاء آخرين سجنوا بسبب تدوينات أو آراء أدلوا بها على مواقع التواصل، وكثير منهم لم تصل حتى أخبار اعتقالهم وسجنهم، بينما كان سجن صحافي واحد زمن حكم الرئيس الراحل بن علي حدثا بارزا أثار ضجة داخلية وخارجية، مع إضافة طريفة قالها هذا الصحافي توفيق بن بريك حين قال ذات مرة بأن بن علي كان يأمر شخصيا بطلاء الغرفة التي سيودع بها في السجن، في وقت يشتكي فيه كل السجناء الحاليين من ظروف إقامة سيئة للغاية.
ومقابل هذا الانحسار في رقعة حرية التعبير عموما وحرية الصحافة بشكل خاص أمام كل صحافي يحترم نفسه ومهنته، نجد أن الساحة المقابلة والمؤيدة للسلطة، وللرئيس تحديدا، يصول ويجول فيها عدد من الدخلاء على المهنة ممن لا يحاسبون أبدا على تجاوزاتهم في حق الكثيرين. وفي التلفزيون، الذي عاد رسميا حكوميا بالكامل، تم تثبيت ثنائي صحافي، سيدة ورجل، باتا هما وحدهما المعلّقين القارين في التلفزيون لتبرير أي شيء والإشادة بكل شيء، في وقت اختفت فيه البرامج السياسية الحوارية في هذا التلفزيون وغيره، ولم يبق إلا عدد محدود للغاية في بعض الإذاعات الخاصة ولا شيء يضمن استمرارها طويلا.
وفي هذا التلفزيون الذي عاد لدور بوق الدعاية، صرنا نشاهد من جديد التقارير السمجة (تم مؤخرا احتفاء مبالغ فيه للغاية بترميم مسبح بلدي في العاصمة وكأنه إنجاز وطني خارق للعادة) وكذلك المقابلات المرتّبة مع ضيوف منتقين بعناية وأسئلة تطرح عليهم تستجدي المديح، وهو وضع ظن الصحافيون أنه ولى بدون رجعة بعد ثورة 2011.
وقس على ما سبق في الصحافة المكتوبة حيث “عادت حليمة إلى عادتها القديمة”، حيث لم يبق يكابد سوى عدد قليل للغاية من الصحافيين، فيما واصلت إحدى الصحف اليومية التي أدمنت لعقود، ومع كل العهود، التطبيل الفج والمسف للسلطة، مهما كانت، نشر نوع قميء للغاية من المقالات، على صفحات كاملة وبعناوين عريضة، تجمع بأعجوبة نادرة بين الهذيان والغباء والنفاق، وخاصة استحمار الناس، في وقت تضطر صحيفة جادة ومحترمة هي “الشارع المغاربي” الأسبوعية إلى التوقف عن الصدور.
القدس العربي