من
أكثر الجوانب إثارة للدهشة في تاريخ الحركة الصهيونية، هي أنه منذ نشأتها في أوائل
القرن التاسع عشر كمشروع بريطاني بروتستانتي لتحويل
اليهود الأوروبيين إلى المسيحية
البروتستانتية ونقلهم إلى
فلسطين، وتحولها اللاحق إلى مشروع يهودي أوروبي في العقدين
الأخيرين من القرن التاسع عشر، رفضت غالبية اليهود الأوروبيين الانضمام إلى الحركة
حتى الحرب العالمية الثانية، على النقيض من شعبية الحركة آنذاك بين البروتستانت الأوروبيين
والأمريكيين، وخاصة الزعماء الإمبرياليين في أوروبا.
في
أعقاب الإبادة الجماعية النازية لليهود الأوروبيين تغير موقف العديد من اليهود الأوروبيين
والأمريكيين، وبدأوا في دعم هذه الحركة الاستعمارية الاستيطانية التي حثت اليهود على
تهجير أنفسهم طوعيا من بلادهم والاستيطان في فلسطين. لقد كانت المحرقة أداة فعالة في
إقناع أغلبية اليهود الأمريكيين والأوروبيين بأن إنشاء دولة يهودية في فلسطين قد لا
يكون فكرة سيئة بعد كارثة الإبادة الجماعية في أوروبا، كي تصبح هذه الدولة على
الأقل ملجأ لليهود الناجين من أوروبا.
لم
يكن هذا تحولا عفويا في موقف هؤلاء اليهود، فقد عملت الحركة الصهيونية بجد واجتهاد
وفي نهاية المطاف بنجاح، لإقناعهم بدعم برنامجها الاستعماري الاستيطاني. وشملت هذه
الجهود الصهيونية استخدام الضغط والإكراه لإحضار اليهود الأوروبيين الناجين إلى فلسطين.
وقد كان هؤلاء الناجون اليهود لا يزالون يعيشون في معسكرات النازحين بعد الحرب، وكانوا
يرغبون في الانتقال إلى الولايات المتحدة، التي ظلت حدودها مغلقة في وجههم، وهو الإغلاق
الذي دعمته الحركة الصهيونية، بما في ذلك الصهاينة الأمريكيون، بقوة، لدرجة أن الصهاينة
الأمريكيين رفضوا النظر في إمكانية تقديم "خيار" للناجين من المحرقة بدلا
من فلسطين.
ولقد
اقترح مستشار الرئيس روزفلت، المحامي اليهودي البارز في مجال الحقوق المدنية موريس
ل. إرنست، أن يُعرض مثل هذا الخيار لأن هذا "سيجنبنا تهمة النفاق المتمثلة في
إغلاق أبوابنا [في وجه هجرة اليهود الناجين] بينما نفرض مطالب متعالية على العرب".
وبالنسبة لإرنست، "يبدو أن فشل الجماعات اليهودية الرئيسة في دعم برنامج الهجرة
هذا بحماس ربما كان سببا في عدم دفع الرئيس [الأمريكي] إلى المضي قدما فيه في ذلك الوقت".
وشعر إرنست "بالإهانة عندما شجبني زعماء يهود نشطون وسخروا مني ثم هاجموني كما
لو كنت خائنا"، لاقتراحه ضرورة منح مثل هذا الخيار للناجين من المحرقة في أوروبا.
ومن
الجدير بالذكر أن المعارضة الشديدة من جانب الحركة الصهيونية للهجرة اليهودية إلى الولايات
المتحدة استمرت حتى أواخر الثمانينيات، عندما بدأ اليهود يغادرون الاتحاد السوفييتي
بأعداد كبيرة. وفي حين أراد معظمهم الهجرة إلى الولايات المتحدة، نجحت جماعات الضغط
الإسرائيلية في الضغط على إدارة الرئيس جورج بوش الأب لفرض قيود صارمة على أعدادهم،
بحيث اضطر معظمهم إلى الذهاب إلى إسرائيل.
ولكن
على الرغم من الإبادة الجماعية التي ارتكبت أثناء الحرب العالمية الثانية، فإن اليهود
الأمريكيين والأوروبيين الذين دعموا الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل في وقت لاحق لم
يصبحوا صهاينة، إذا فهمنا بأن الصهيونية تعني القيام بالتهجير الذاتي والطوعي والتحول
إلى مستوطنين استعماريين في فلسطين ثم في إسرائيل. ومع ذلك، وعلى الرغم من الإبادة
الجماعية الأوروبية، استمر الصراع بين زعماء يهود أمريكا وأوروبا من جهة ومطالبة إسرائيل
بتمثيل اليهود في جميع أنحاء العالم من جهة أخرى.
في
عام 1950، وقّع رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية، جاكوب بلاوستين، اتفاقا مع رئيس وزراء
إسرائيل ديفيد بن غوريون لتوضيح طبيعة العلاقة بين إسرائيل واليهود الأمريكيين. وفي
الاتفاق، أعلن بن غوريون أن اليهود الأمريكيين مواطنون كاملون في الولايات المتحدة
ويجب أن يكونوا مخلصين لها حصريا: "إنهم لا يدينون بالولاء السياسي لإسرائيل".
ومن جانبه، أعلن بلاوستين أن الولايات المتحدة ليست "منفى"، بل "شتاتا"،
وأصر على أن دولة إسرائيل لا تمثل يهود الشتات رسميا أمام بقية العالم. ومن المثير
للاهتمام أن بلاوستين أضاف أن إسرائيل لن تكون أبدا ملجأ لليهود الأمريكيين، وأكد أنه
حتى لو توقفت الولايات المتحدة عن كونها دولة ديمقراطية، وعاش اليهود الأمريكيون
"في عالم يمكن أن يضطروا فيه إلى الخضوع للاضطهاد من جانب أمريكا"، فإن مثل
هذا العالم، على حد تعبيره، "لن يكون عالما آمنا لإسرائيل أيضا"، وذلك على
النقيض من مزاعم إسرائيل.
وبغض
النظر عن هذه التحفظات، فإن الدعم لإسرائيل في أعقاب الإبادة الجماعية لليهود الأوروبيين
لم يتزايد بشكل كبير إلا في ستينيات القرن العشرين، نتيجة ظهور ما أسماه المؤرخ بيتر
نوفيك بـ "وعي المحرقة"، والذي كان نتيجة لسلحنة الإبادة الجماعية (أي
استخدامها كسلاح) من قبل إسرائيل والولايات المتحدة للدفاع عن نظام إسرائيل العنصري
وجرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، وكجزء من حملة الحرب الباردة لتشويه سمعة الاتحاد
السوفييتي باعتباره "معاديا للسامية".
في حين ساعدت الإبادة الجماعية التي ارتكبها هتلر في تحويل غالبية يهود العالم من مناهضين للصهيونية إلى مؤيدين لها، فإن استحضار إسرائيل المستمر للمحرقة باعتبارها ما ينتظر اليهود إذا فشلوا في دعم الصهيونية وإسرائيل قد ضمن استمرار الدعم اليهودي لها. لكن ما لم تدركه إسرائيل هو أن استخدامها للإبادة الجماعية كسلاح قد يستخدم ضدها ذات يوم
وقد
أدت محاكمة المجرم النازي أدولف آيخمان في إسرائيل في عام 1961 وغزوات إسرائيل لثلاث
دول عربية في عام 1967، والتي صورتها إسرائيل والغرب على أنها حرب وجودية لمنع محرقة
جديدة ضد اليهود، إلى رفع مستوى الدعم الغربي اليهودي والمسيحي لإسرائيل إلى أقصى درجات
التعصب. ولكن إذا كانت الحجج الإسرائيلية والصهيونية تصر على أن وجود إسرائيل هو الضمان
الوحيد لمنع وقوع محرقة أخرى تستهدف يهود العالم في أي مكان في العالم، فإنها تصر أيضا
على أن إسرائيل نفسها قد تقع في أي لحظة ضحية لمحرقة أخرى يرتكبها الفلسطينيون والدول
العربية.
أصر
العنصري المعادي للفلسطينيين إيلي فيزيل، وكان من أهم المروّجين لـ"صناعة المحرقة"،
على تبرير الجرائم الإسرائيلية باسم المحرقة حتى نهاية حياته، وشدد على أن أولئك الذين
لم يدعموا غزوات إسرائيل في عام 1967 للدول العربية، أو أولئك الذين قاوموا إسرائيل
وقاتلوا ضدها لاستعادة حقوقهم، هم أعداء للشعب اليهودي في مجمله: "لقد أدرك اليهود
الأمريكيون الآن أن حرب [الرئيس المصري] عبد الناصر ليست موجهة ضد الدولة اليهودية
فحسب، بل هي موجهة ضد الشعب اليهودي". وفي عام 1973، عندما غزت مصر وسوريا أراضيهما
التي احتلتها إسرائيل عام 1967 لتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، كتب فيزيل عن شعوره
لأول مرة في حياته منذ بلوغه سن الرشد "بالخوف من أن يبدأ الكابوس من جديد"،
وقال إن "العالم ظل بلا تغيير.. غير مبالٍ بمصيرنا (اليهود)".
كان
الحاخام الأمريكي إيرفينج غرينبرج، الذي شغل فيما بعد منصب مدير لجنة الرئيس بشأن المحرقة،
يعتقد أن الله نفسه قد دعم إسرائيل في حرب عام 1967 بسبب حبه للشعب اليهودي ولتعويض
"فشله" في الدفاع عن اليهود ضد هتلر. وقال غرينبرج: "في أوروبا، فشل
[الله] في القيام بمهمته.. وكان لو فشل في تحقيق ذلك مرة أخرى في شهر حزيران/ يونيو
[1967] لشكّل ذلك تدميرا أكثر حسما للعهد" بينه وبين الشعب اليهودي.
وفي
حين ساعدت الإبادة الجماعية التي ارتكبها هتلر في تحويل غالبية يهود العالم من مناهضين
للصهيونية إلى مؤيدين لها، فإن استحضار إسرائيل المستمر للمحرقة باعتبارها ما ينتظر
اليهود إذا فشلوا في دعم الصهيونية وإسرائيل قد ضمن استمرار الدعم اليهودي لها. لكن
ما لم تدركه إسرائيل هو أن استخدامها للإبادة الجماعية كسلاح قد يستخدم ضدها ذات يوم.
وقد بدأ هذا الاحتمال يتجلى بوضوح أثناء غزو إسرائيل المرعب للبنان عام 1982، حيث اتهمتها
عدة دول بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني. كما أقرت الجمعية العامة
للأمم المتحدة في أعقاب مذابح صبرا وشاتيلا في أيلول/ سبتمبر 1982، قرارا يدين المذابح
باعتبارها "عملا من أعمال الإبادة الجماعية"، بأغلبية ساحقة تبلغ 123 دولة
صوتت لصالح القرار وامتناع 22 دولة عن التصويت على القرار الذي لم تعارضه أي دولة.
أعلن الاتحاد السوفييتي ودول أوروبية وأمريكية لاتينية أخرى في ذلك الوقت أن
"المصطلح الذي يصف ما تقوم به إسرائيل على الأراضي اللبنانية هو الإبادة جماعية
التي تهدف إلى تدمير الفلسطينيين كشعب".
وفي
ضوء هذه الوحشية، بدأ العديد من اليهود الأمريكيين والأوروبيين في الابتعاد عن إسرائيل
وأيديولوجيتها الصهيونية. لقد كانت المفارقة عند هؤلاء اليهود تكمن في مطالبتهم بدعم
الإبادة الجماعية الإسرائيلية، في حين هم أنفسهم كانوا شعبا قد تعرض للإبادة الجماعية
وهو ما لم يستطيعوا تحمله. ومع تعزيز نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والاستعمار الاستيطاني
في العقود الأربعة التالية، اشتدت أيضا المعارضة اليهودية الأمريكية والأوروبية لإسرائيل،
التي اعتبرت ما تفعله إسرائيل "إبادة جماعية".
وجد
استطلاع أجراه معهد الناخبين اليهود في شهري حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 2021 أن
22 في المائة من اليهود الأمريكيين يعتقدون أن إسرائيل "ترتكب إبادة جماعية بحق
الفلسطينيين"، ووافق 25 في المائة على أن "إسرائيل دولة فصل عنصري"،
و34 في المائة يعتقدون أن "معاملة إسرائيل للفلسطينيين تشبه العنصرية في الولايات
المتحدة". ومن بين الذين تقل أعمارهم عن 40 عاما، يعتقد 33 في المائة منهم أن
إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين. وقد تم جمع هذه الأرقام قبل عامين من
بدء الإبادة الجماعية الحالية.
في ظل استمرار إسرائيل في سلحنة المحرقة كمبرر لارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، لم يكن من قبيل الصدفة أو المفاجأة أن يعلن الإسرائيليون وحلفاؤهم الغربيون أن عملية المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد قتلت أكبر عدد من اليهود منذ المحرقة، وكأن الفلسطينيين استهدفوا اليهود الإسرائيليين لكونهم يهودا وليس لكونهم مستعمرين ومحتلين للأرض الفلسطينية ومضطهِدين للشعب الفلسطيني
وقد
تبنى العديد من اليهود البريطانيين والفرنسيين والألمان هذا الموقف المناهض للصهيونية،
والذي تزايد عددا وكثافة منذ ذلك الحين. ولقد أدى تأييد محكمة العدل الدولية لاتهام
إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية إلى إزالة أي شكوك متبقية في نظر العديد من هؤلاء. والواقع
أن مسألة الإبادة الجماعية على وجه التحديد هي التي حشدت هؤلاء اليهود لمعارضة إسرائيل.
في
ظل استمرار إسرائيل في سلحنة المحرقة كمبرر لارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني،
لم يكن من قبيل الصدفة أو المفاجأة أن يعلن الإسرائيليون وحلفاؤهم الغربيون أن عملية
المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد قتلت أكبر عدد من اليهود
منذ المحرقة، وكأن الفلسطينيين استهدفوا اليهود الإسرائيليين لكونهم يهودا وليس لكونهم
مستعمرين ومحتلين للأرض الفلسطينية ومضطهِدين للشعب الفلسطيني. هذه هي الحجة الأساسية
التي لا تزال إسرائيل وحلفاؤها يرددونها دفاعا عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة.
تدرك إسرائيل جيدا أن الإبادة الجماعية بحق اليهود هي التي شرعنت وجودها على أرض الفلسطينيين،
وأن الخوف من إبادة جماعية أخرى فقط هو الذي يضمن شرعية الإبادة الجماعية المستمرة
التي ترتكبها اليوم بحق الشعب الفلسطيني.
إن
الدعاية الإسرائيلية تصر في واقع الأمر على أن المقاومة الفلسطينية والعربية، والدعم
الإيراني لها، هي التي تسعى لارتكاب إبادة جماعية ضد اليهود الإسرائيليين، وأن هدف
عملية طوفان الأقصى لم يكن تحرير الفلسطينيين المعتقلين منذ عام 2005 في معسكر الاعتقال
الكبير الذي هو
غزة؛ من سجنهم من خلال مهاجمة حراس معسكر الاعتقال، بل إنها حرب هدفها
إبادة الشعب اليهودي. وبسبب هذه الافتراءات الإسرائيلية تصر إسرائيل على أن دعوات قادتها
ووسائل إعلامها إلى إبادة الشعب الفلسطيني هي في الواقع دفاع عن النفس لمنع إبادة جماعية
جديدة لليهود.
وبهذا
المنطق، يتبين أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين لمنع إبادة جماعية جديدة
ضد اليهود، وبالتالي فإن ارتكاب الإبادة الجماعية هو السبيل الوحيد لإنقاذ إسرائيل.
إن تكرار هذه الحجج بلا نهاية من قبل القادة الغربيين والصحافة الغربية لم يقنع كل
اليهود في أوروبا والولايات المتحدة بضرورة دعم إسرائيل في هذه الحرب.
تعتقد
إسرائيل ومناصروها أن سلحنة المحرقة يجب أن تظل المبدأ التوجيهي لتبرير كل جرائم إسرائيل،
بدءا بحقها في استعمار أرض الفلسطينيين واستيطانها، وطرد غالبية الشعب الفلسطيني، وإخضاع
أولئك الذين يقبعون تحت نيرها لأشد أشكال القمع سادية، بما في ذلك الفصل العنصري والإبادة
الجماعية، في حين هي تقوم بالتحالف مع مرتكبي الإبادة الجماعية الألمان الذين ارتكبوا
نفس الإبادة ضد اليهود التي تبرر وجود إسرائيل في نظر العديد من أنصار إسرائيل في المقام
الأول.
المعضلة
بالنسبة إلى إسرائيل هي أن هذا المنطق أصبح الآن يستخدم ضد إسرائيل نفسها، ويهدد بتقويض
المستعمرة-الاستيطانية اليهودية. فالخوف المشروع الذي يعيشه أنصار إسرائيل الآن هو
أن الإبادة الجماعية تحولت إلى سيف ذي حدّين، وأنها كما ساعدت سلحنتها في إقامة
دولة إسرائيل والدفاع عن جرائمها في الغرب من أي إدانة، فقد تؤدي الآن إلى تقويض
نظامها البربري.
إن
ما يعنيه هذا هو أن قيام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية حقيقية لمنع إبادة جماعية متخيلة
ليست حجة يمكن تسويقها بسهولة إلا بين الدول التي ارتكبت الإبادة الجماعية مثل الولايات
المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا. فهذه الدول هي التي كانت تبرر دائما جرائم الإبادة
الجماعية التي ارتكبتها باعتبارها ضرورية لمنع إبادة مستوطنيها. فلا يحتاج المرء إلى
العودة إلى المذابح التي ارتكبها المستوطنون الأمريكيون البيض بحق الشعوب الأصلية الأمريكية
لتوضيح هذه الحقيقة. والواقع أن عودة تاريخية قصيرة إلى الحرب العالمية الثانية عندما
ارتكبت الولايات المتحدة إبادة جماعية نووية ضد الشعب الياباني قد توضح هذه الحقيقة
بجلاء شديد. فقد تم تبرير القصف النووي لهيروشيما وناغازاكي في حينه، والذي أسفر عن
مقتل ما يزيد على 215 ألف شخص، وهو تبرير لا يزال يستخدم لغاية اليوم، باعتباره ضروريا
لمنع وقوع ما بين نصف مليون وعشرات الملايين من الضحايا الأمريكيين.
الدعوات المستمرة التي أطلقها القادة الإسرائيليون ووسائل الإعلام الإسرائيلية لإبادة الشعب الفلسطيني خلال العام الماضي، قد غيرت طبيعة هذه العلاقة، حيث أصبح العديد من المؤمنين الصهاينة ينظرون إلى إسرائيل في النهاية على أنها مرتكبة للإبادة الجماعية، وليست ضحية لها، وأن مبررها بأن لها الحق في ارتكاب الإبادة الجماعية، وتوسيع أراضيها، وإعادة تشكيل العالم العربي من حولها إلى "شرق أوسط جديد"
كما ارتكبت ألمانيا
النازية الإبادة الجماعية باسم حماية الشعب الألماني من الفناء والخضوع من قِبَل
"مؤامرة يهودية" خيالية مزعومة اخترعها معادو السامية. كما كان يُنظَر إلى
الإبادة الجماعية للسكان الأصليين الأستراليين باعتبارها ضرورية لحماية المستوطنين
البيض البريطانيين، كما كانت الإبادة الجماعية الفرنسية في الجزائر ضرورية للدفاع عن
فرنسا ومستوطنيها من أصحاب الأقدام السوداء.
لذلك،
فإن القادة الإسرائيليين لا يعيدون اختراع العجلة باستخدامهم لهذه الحجج، بل هم جزء
من سلسلة طويلة من المستعمرات الاستيطانية والدول الأم الاستعمارية التي استخدمتها
دائما لتبرير إباداتها الجماعية. والفرق هو أن إسرائيل استخدمت إبادة اليهود الجماعية
في الحرب العالمية الثانية كسلاح على نطاق عالمي وبررت وجودها كدولة كتعويض عن هذه
الإبادة، بحيث لا يمكن الحكم عليها إلا على أساس العلاقة التي تربطها بالإبادة الجماعية.
إن حقيقة أن المشروع الصهيوني لم يتمكن من حشد دعم معظم اليهود إلا في زمن الإبادة
الجماعية؛ تشهد على هذه العلاقة العضوية بين إسرائيل والإبادة الجماعية في نظر معظم
مؤيدي المستعمرة-الاستيطانية ومنتقديها على حد سواء.
إن
الدعوات المستمرة التي أطلقها القادة الإسرائيليون ووسائل الإعلام الإسرائيلية لإبادة
الشعب الفلسطيني خلال العام الماضي، قد غيرت طبيعة هذه العلاقة، حيث أصبح العديد من
المؤمنين الصهاينة ينظرون إلى إسرائيل في النهاية على أنها مرتكبة للإبادة الجماعية،
وليست ضحية لها، وأن مبررها بأن لها الحق في ارتكاب الإبادة الجماعية، وتوسيع أراضيها،
وإعادة تشكيل العالم العربي من حولها إلى "شرق أوسط جديد"، كما أكد بنيامين
نتنياهو مؤخرا في الأمم المتحدة، يذكّر الكثيرين في الغرب، من اليهود وغير اليهود على
حد سواء، بأنظمة الإبادة الجماعية السابقة التي كان لا بد من معارضتها ومقاومتها دائما.