بعد عام على «الطوفان»، ليس من المُجدي الغرق في النقاش الذي بدأ يُخاض مؤخراً في إطار تقييم العملية المعروفة عالمياً باسم السابع من أكتوبر أو الحسم بتصنيفها كمغامرة، وأن ينزل البعض بسقف موقفه السياسي وأحكامه القطعية عن موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس واستخلاصه التاريخي، لدى إعادته الأسباب والمبررات إلى السياق التاريخي وممارسات
الاحتلال، معتبراً أن الهجمة «لم تأتِ من فراغ»، مُعيداً دوافعها إلى ما يزيد على خمسة وسبعين عاماً من النكبة، ومن تراكم الظلم والاضطهاد والسيطرة والاستبداد بالشعب
الفلسطيني وسرقة أرضه بالجملة والمفرق، كما ليس من المجدي الاستماع للتحليلات السياسية، والتحليلات المضادة لها، وما يرافقها من شحن للأعصاب والتوتر واصطفافات تحرف النظر والانشداد الشعبي إلى المعركة الرئيسة والخطيرة مع الاحتلال، ليس في
غزة فقط، بل المخاطر في الضفة قد تكون مكلفة أكثر.. كم نظلم أنفسنا!
نرجو توقف الجميع عن الغرق في مياه الخلاف والاستعراضات الخطابية المشحونة، التوقف عن الكلام في الكلام، لأن كل شيء يصبح بالغ الضآلة أمام هوْل ما يُعْرض على الشاشات، لأنّ الأولوية القصوى يجب أن تتركز على الشعب وقضيته الرئيسة فقط، التركيز على الشهداء في الشوارع وتحت الركام والإسمنت؛ لأن الأساس ونقطة التلاقي بين جميع وجهات النظر حول أشكال النضال والمسارات السياسية ينبغي أن تتكثف وتتوحد في مواجهة جهنم المفتوحة على الجميع، أو الصمت.
فبعد عام كامل على حرب الإبادة الجماعية، يصبح الأوْلى تخصيص الشهداء وأهاليهم بالحديث، الفاقدين الذين لم يتسع لهم الوقت للحزن فأجلوه إلى وقت آخر إنْ أمهلهم الاحتلال. والأوْلى بالاهتمام والنقاش أحوال الجرحى المتأوهين ألَماً على أسرّة المستشفيات، إنْ وُجد السرير، إنهم جُرحنا الأعمق في أرض الجراح. يا لكل هذا الظلم الذي نلحقه بذواتنا وقضيتنا وشعبنا!
الأولوية ينبغي أن تذهب إلى تسليط الاهتمام على النازحين والتفكير بهم، إنهم المأساة الكبرى في أرض المآسي، الذين تؤويهم الخيام البالية والمدارس الخارجة عن الخدمة.. هؤلاء يسحقون القلوب إن تدفقت مياه السماء بوفرة أو سطعت شمسها بوفرة، هؤلاء يفتقرون إلى السقف الذي يؤويهم إما بسبب التدمير أو بسبب الرعب من التدمير، يفتقدون إلى أبسط مقومات العيش الكريم، من فرش وأغطية وأكل ومياه وسواها، في لحظة فارقة رحلوا تاركين كل شيء وراءهم، أثاثهم وملابسهم وأسرّتهم وصورهم وتذكاراتهم الكبيرة والصغيرة، يستحقون منا حصر الحديث وتحديده بهم، فقد دفعوا أنفسهم نحو المجهول، وسط هلعهم وارتجافهم، مع جميع الذين استمر الخوف بالتهامهم على مدار الليالي والنهارات، فالاحتلال يفترسهم حرفياً وهم واقعون فعلياً بين أنيابه، وهو جاهز لهرسهم وطحنهم، دون أن يمتلكوا القدرة على الاستغاثة، بينما ينتظر باقي الفلسطينيين المتموضعين في أعماق الهشاشة والمجهول صاروخاً ذكياً يفتّتهم، وبقية البواقي يقفون فاغرين أفواههم أمام انقسامهم السياسي والتنظيمي، بلا حول ولا قوة.
هذا ما يطفو على سطح الحوارات التي لا تجد القناة الرسمية من أجل تنظيم النقاش حولها وإيصاله إلى غاياته النقية من شوائب الانقسام أو المصالح الضيقة، عاكساً ما يعيشه الكثير منّا نحن الفلسطينيين، خاصة من هم في الضفة الغربية، فالمجتمع في غزة وإن كان له ما يقوله في كل المواضيع، إلا أنه غارق في البحث عن حياة ليست كالحياة، بين موت وموت.
التيه الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني أودى به إلى الركون على الرصيف، فقد القدرة على التفاعل والحركة والفعل والسعي، قلائل منا ليسوا كذلك من الذين نجحوا في ضبط النفس والفعل والصمت الإيجابي، وباقي البواقي من الناس غمروا أنفسهم بمياه اللامبالاة.
الكلام المسموع فقط عن المأساة الكبرى في أرض المآسي الكبيرة، ممثلة بفجور الاحتلال الأخلاقي والإنساني الفالت من العقاب والمحاسبة، الذي مهما بلغت الخلافات في صفوف الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية يتوحدون ضدنا ويسعون للتناغم مع بعضهم البعض، ضدنا. لنلاحظ أنهم وكلما صدر أي موقف لا يبرر لهم أو يدافع عن جرائمهم يتصدون له بأقذع السباب، يضعونه بقوالب مسبقة الصنع وبقوائم معاداة الساميّة، وهو الاتهام الترهيبي الجاهز، يحرصون على إبقائه طازجاً وجاهزاً كرصاصة في بيت النار، ولو أن عوامل الحتّ والتَّصدُّع قد نالت من معانيه وأفقدته الكثير من مصداقيته ومقاصده المعروفة للعالم، لكنه لا يزال السلاح المجدي الذي يتوحد عليه الصهاينة بكل أطيافهم، والمُشهر أمام أي انزلاق بسيط في المواقف السياسية الدولية على وجه الخصوص، خاصة تلك التي تصدر عن الدول، تحديداً الدول التي تباينت مع الاحتلال، خاصة تلك التي لطالما اعْتُبِرَت حليفة لإسرائيل، أو المنظمات الدولية المختلفة، خصوصاً منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها التابعة، ليصل التكرار والابتزاز إلى غاياته في منح إسرائيل حق الدفاع عن نفسها، بمعنى منح الاحتلال الحق في الدفاع عن احتلاله، عوضاً عن مطالبته بإنهاء احتلاله!
يا لكُلّ هذا الظلم!
(الأيام الفسطينية)