منذ فكرتها التأسيسية الأولى، على الورق وصفحات الكتب والمقالات، كما في اغتصاب أرض
فلسطين التاريخية وطرد أهلها عبر المذابح وحروب العصابات الصهيونية الإرهابية والتواطؤ الدولي؛ أدمنت دولة
الاحتلال الإسرائيلي الذاكرة والذكرى والاستذكار والتذكير، في مناسبات دينية تارة وسياسية تارة أخرى، فضلاً عن طراز ثالث يحشر حوليات التاريخ مثل أسفار التوراة في سردية انتقاصية وأحادية.
وقبل أيام نشر موقع «ميديابارت» الإخباري الفرنسي تقريراً مفصلاً عن «طرائق» إحياء ذكرى 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لأنها في واقع الأمر ليست «طريقة» واحدة؛ كما أنّ قسطاً كبيراً من أنساقها يتقصد التكسب والأرباح، عن طريق ما يطلق عليه التقرير صفة «السياحة السوداء».
وفي عداد تلك الأنساق جماعات إسرائيلية ترفض المشاركة من حيث المبدأ، خاصة لدى عائلات الرهائن؛ فالاستذكار عندهم أشبه بإقامة حفلة صاخبة في دار أسرة يقيم أفرادها في المشافي وأقسام العناية المشددة، كما كتب أحد الرافضين. هنالك، أيضاً، مَنْ يأبى المشاركة لأن السلطات الإسرائيلية الرسمية منعت النقل الحيّ المباشر للأنشطة، خشية شيوع انتقادات علنية حادة لحكومة بنيامين نتنياهو؛ ولهذا فقد قرر هؤلاء إحياء الذكرى في مكان عامّ، بعيداً عن المظاهر الكاذبة في المستوطنات المحاذية لقطاع غزّة، وفي قلب تل أبيب.
فِرَق «السياحة السوداء»، من جانبها، تعمل دون كلل على نقل أفواج السائحات والسائحين من المطارات والمدن والبلدات والمستوطنات، إلى غابة رعيم، حيث زهور شقائق النعمان الحمراء يمكن أن تذكّر بدماء الإسرائيليين الذي قُتلوا هناك؛ إذْ يقتضي الترويج السياحي بعض الدراما التشويقية، حتى عن طريق مجازات دامية. وهذا «بزنس» عالي المردود والربحية، لم يبدأ مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى، بل نشأ وترعرع سريعاً منذ الأيام الأولى التي أعقبت «طوفان الأقصى»؛ وزاد في جاذبيته أنّ نمطاً من «الحجيج» إلى المستوطنات انخرط فيه عدد غير قليل من زعماء الديمقراطيات الغربية.
عنصر آخر مشجّع على «السياحة السوداء» كان لجوء نتنياهو إلى استنهاض التوراة في تأثيم الفلسطينيين، وليس «حماس» وحدها، بوصفهم عماليق هذه الأيام؛ أو فراعنة مصر، الذين اضطهدوا اليهود؛ أو، أخيراً وليس آخراً، أحفاد النازية… ليس أقلّ! في جانب آخر من تنميطات نتنياهو، أكثر إغواءً لروحية «البزنس» هذه المرّة، يواصل الائتلاف الحاكم التلميح إلى تخصيص 77 مليون يورو، كميزانية تمهيدية لإحياء الذكرى السنوية.
وهذه سطور لا تساجل ضدّ حقّ الإسرائيلي اليهودي في التذكر والاستذكار، لأنها أيضاً تناصر شحذ الذاكرة من حيث المبدأ والحقّ والواجب؛ الأمر الذي يسري على الفلسطيني إذْ يستعيد، مع ذكرى «طوفان الأقصى»، عشرات المجازر الإسرائيلية قبل 1948 وبعد النكبة وحتى الساعة. وكان إدوارد سعيد يستطيب سرد حكاية وقعت سنة 1988، حين كان يشارك في ندوة أقامتها مجلة Tikkun، الفصلية الناطقة بلسان ما تبقّى في الولايات المتحدة من إنتلجنسيا يسارية يهودية؛ وإلى جانبه مايكل ولتزر، الفيلسوف الأمريكي الذي يوصف عادة بـ»اليساري»، دون أن تغيّر الصفة هذه من مزاجه الصهيوني حتى النخاع.
وكانت المناسبة هي إعلان المجلس الوطني الفلسطيني الاعتراف بدولة الاحتلال وقبول مبدأ الدولتين، الأمر الذي دفع ولتزر إلى مطالبة سعيد بأن ينسى الماضي؛ وكتب سعيد أنه لن ينسى أبداً سيّدة يهودية كانت في القاعة، هبّت واقفة، وردّت على ولتزر بصوت يرتعش غضباً: «كيف تجرؤ؟ كيف تجرؤ على مطالبة الفلسطيني بأن ينسى الماضي؟ كيف تجرؤ على مطالبة أيّ شعب بأن ينسى الماضي؟ ألسنا نحن الذين لا نكفّ عن مطالبة العالم بأن يتذكّر ماضينا؟ كيف تجرؤ، وأنت اليهودي؟».
بيد أنّ صهيونية تلفيق العماليق وتنشيط «السياحة السوداء» لا تجرؤ فقط، بل تحتفل وتحتفي وتستغلّ وتستثمر…
(القدس العربي)