سبق انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 جملة من التلميحات والتصريحات المشفرة التي اعتبرها البعض لـ"الاستهلاك الإعلامي" أو لـ"رفع الروح المعنوية"، إلا أنها في الحقيقة كانت تشير مباشرة إلى ما حصل وبشكل دقيق.
ولم تكن مشاهد بدء عملية طوفان الأقصى فردية وغير مسبوقة في كثير من جوانبها، بل إنها جاءت تنفيذا لسنوات طويلة من الإعداد والتدريب والمناورات التي تحاكي الهجوم على المواقع العسكرية الإسرائيلية.
وسبق هذه العملية أيضا عشرات التحذيرات البارزة التي صدرت عن المقاومة وقيادتها في مناسبات متعددة خلال السنوات الماضية، بسبب تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية في المسجد الأقصى واعتداء المُستوطنين على الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948.
ولعل أبرز هذه التصريحات كان لرئيس حركة
حماس في قطاع
غزة حينها (رئيس المكتب السياسي الحالي) يحيى السنوار، في حزيران/ يونيو، عقب تصاعد العدوان على غزة عام 2021، المعروفة فلسطينيا باسم معركة "سيف القدس".
وقال السنوار في هذه التصريحات: "إذا عادت المعركة مع الاحتلال فستتغير صورة الشرق الأوسط.. وإسرائيل لن تتحمل أي هجوم حقيقي عليها، وأن ما بعد مايو/ أيار 2021 ليس كما قبله".
ووصف السنوار حينها الحرب الأخيرة مع الاحتلال بـ "المناورة"، قائلا: "ما حدث كان مناورة لاختبار قدراتنا وكي نُري إسرائيل صورة مصغرة لما قد تكون عليه الحرب".
وجاء في تلك التصريحات أن المقاومة "جرّبت سابقا كثيرا من الصواريخ في البحر، وكان لا بد من تجربتها عمليا".
وأضاف السنوار: "أمام العالم سنة واحدة، إما إرغام الاحتلال على تطبيق القانون الدولي والانسحاب من الأراضي المحتلة وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه في إنشاء دولة، وإما سنضرب الاحتلال ضربة عنيفة تجعله في صدام مع المجتمع الدولي".
وفي نهاية نيسان/ أبريل 2022، عاد السنوار للتحذير في خطاب أمام وجهاء ونخب فلسطينية، قائلا إن "المساس بالأقصى والقدس يعني حربا دينية إقليمية، وعندما يتعلق الأمر بمقدساتنا لن نتردد في اتخاذ أي قرار".
وقبل اندلاع الحرب بستة شهور تقريبا، وتحديدا في الثاني من نيسان/ أبريل 2023، حذر رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، من نتائج الانتهاكات الإسرائيلية بالضفة الغربية ومدينة القدس واقتحامات المسجد الأقصى.
وقال هنية الذي جرى اغتياله في طهران نهاية تموز/ يوليو 2024: "إننا أمام لحظة تاريخية تحمل جملة من الآفاق الرحبة التي تساعد شعبنا على المضي قدما في مشروع التحرر ومواجهة مخططات الحكومة الصهيونية".
وأوضح هنية، أن حماس "تتحرك في 3 مسارات، الأول تصعيد الجبهة ضد الاحتلال من خلال استمرار المقاومة وتطوير قدراتها في الضفة وغزة ودور شعبنا في أراضي 1948 والشتات، وثانيا بناء وحدة فلسطينية داخلية على أساس المقاومة، إضافة إلى بناء تحالفات استراتيجية قوية داعمة للقضية".
وفي أيلول/ سبتمبر 2022، حذر محمود الزهار القيادي البارز في حركة حماس من "معركة كبرى" في حال استمرت الانتهاكات الإسرائيلية في القدس والأعمال الاستفزازية في المسجد الأقصى.
وجاء تحذير الزهار خلال مؤتمر صحافي عقده في المسجد العمري الكبير وسط مدينة غزة، وقال فيه إن "استمرار عدوان الصهاينة ووحشيتهم بحق القدس والمقدسات سيكون سببا في معركة كبرى نهايتها زوال الاحتلال".
الركن الشديد
منذ عام 2020، شاركت أبرز الفصائل الفلسطينية بقيادة حركة حماس في تدريبات مشتركة اتخذت طابعا عسكريا منظما، وعرفت طوال هذه المدة باسم "الركن الشديد" وامتدت على أربع نسخ مختلفة، وقد تكون النسخة الأخيرة هي الأبرز.
وجاءت هذه المناورات لتحاكي التكتيكات والسيناريوهات إلى حد كبير، تلك التي استُخدمت خلال بدء علمية طوفان الأقصى، وكان من بين الأماكن التي جرت فيها التدريبات، موقع يبعد أقل من كيلومتر واحد عن السياج الأمني الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 وقطاع غزة من ناحية الشمال.
واشتملت التدريبات على سيناريوهات مثل اختطاف الجنود الإسرائيليين واقتحام المواقع العسكرية واختراق الدفاعات الإسرائيلية، وكانت آخرها قبل أقل من شهر على انطلاق طوفان الأقصى.
وبعد أول نسخ هذه المناورات، قال هنية في كانون الأول/ ديسمبر 2020، إن "الركن الشديد تمثل رسالة قوة ورسالة وحدة من فصائل المقاومة في قطاع غزة".
وتضمنت لقطات مناورة الركن الشديد الأولى عناصر المقاومة باللباس العسكري والتسليح الكامل ومختلف التجهيزات، وصولا إلى إطلاق رشقة من الصواريخ، وصولا إلى مهاجمة مجسم دبابة إسرائيلية واقتحام موقع عسكري وأسر عدد من الجنود.
وأعلنت غرفة العمليات المشتركة، وهي التي أعلن عنها لأول مرة عام 2018 بهدف تنسيق العمل بين فصائل المقاومة تحت قيادة مركزية، أن المناورة شملت محاكاة لـ "هجوم خلف خطوط العدو".
وبمقارنة ذلك مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، يظهر أنه جرى تطبيق هذه التدريبات بشكل متطابق تقريبا، وما تضمنه من اقتحام مواقع وتدمير دبابات وأسر جنود إسرائيليين.
سلم الأولويات
جرى تنفيذ النسخة الثانية من مناورة الركن الشديد في كانون الأول/ ديسمبر أيضا لكن من عام 2021، وفيها أكد عضو المجلس العسكري العام وقائد لواء الوسطى في كتائب
القسام أيمن نوفل، أن "الهدف من مناورة الركن الشديد بنهاية العام 2021 التأكيد على وحدة فصائل المقاومة واصطفافها خلف خيار المقاومة".
وقال نوفل الذي جرى اغتياله في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إن "فصائل المقاومة ترسل رسائلها من خلال هذه المناورة للعدو وللصديق: للصديق أننا وضعنا مسألة الأسرى على سلم أولوياتنا، وللعدو أن الجدران والإجراءات الهندسية التي يقيمها على حدود القطاع لن تحميه".
وهو ما حصل بشكل متطابق تقريبا وقت "الصدمة الإسرائيلية" من أحداث السابع من أكتوبر، والفشل الاستخباراتي والأمني الكبير الذي اعترفت "إسرائيل" به بنفسها، وهو ما سبق أن قاله نوفل أيضا بتصريح جاء فيه: "سنقاتل كما نتدرب".
وعن أولوية ملف الأسرى الذي ذكره نوفل سابقا، جاءت عملية طوفان الأقصى لتؤكد ذلك، بتصريح الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة حول أن ثمن العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين هو "تبييض كافة السجون من كافة الأسرى" الفلسطينيين.
وقال أبو عبيدة في كلمة نشرت بتاريخ 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إن "اتصالات جرت في ملف الأسرى وكانت هناك فرصة للوصول إلى صيغة اتفاق لكن العدو ماطل"، مضيفا: "إذا أراد العدو إنهاء ملف الأسرى مرة واحدة فنحن مستعدون وإذا أراد مسارا لتجزئة الملف فمستعدون أيضا".
وفي العام الثالث، جرى تنظيم المناورة أيضا في كانون الأول/ ديسمبر 2022 ونُشرت حينها مقاطع وصور لتوثيق ذلك التدريب، والذي تم في ما يبدو أنه ثكنة عسكرية إسرائيلية وهمية.
ونقلت تقارير صحفية إسرائيلية أخبارا عن تلك المناورات، وبدا من غير المنطقي أن لا تكون مختلف الأجهزة الاستخباراتية في "إسرائيل" على علم بها، فقد نفذ جيش الاحتلال غارات جوية في الثالث من نيسان/ أبريل 2023 استهدفت أحد مواقع التدريب التي أقيمت فيه مناورة الركن الشديد الأولى، بحسب "بي بي سي".
وقبل أسابيع من الهجمات، حذرت جنديات مراقبة بالقرب من حدود غزة من نشاط مكثف غير عادي للطائرات بدون طيار، وأن حماس كانت تتدرب على السيطرة على نقاط مراقبة بنماذج مشابهة لمواقعهم، إلا أنه وفقا لتقارير إعلامية إسرائيلية، فإن تحذيراتهن تم تجاهلها.
"خطط موضوعة"
على غير العادة، جرت النسخة الرابعة من المناورة في 12 أيلول/ سبتمبر 2023، أي قبل 25 يوما فقط من انطلاق طوفان الأقصى، واشتملت التدريبات على سيناريوهات مثل اختطاف الأسرى، واقتحام المواقع والدفاعات العسكرية الإسرائيلية، وذلك على الجبهات البرية والبحرية، دون الكشف عن القدرات الجوية.
ونفذت هذه المناورات تحت "رعاية الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية في الذكرى الـ 18 لفشل القوات الإسرائيلية في قطاع غزة وانسحابها من هناك بتاريخ الـ12 من سبتمبر 2005"، في مختلف محافظات قطاع غزة، واستمرت لأربع ساعات بدءا من الساعة الـ 7:00 صباحا، وهو تقريبا نفس موعد انطلاق طوفان الأقصى.
وفي ذلك الوقت، قال قائد المناورة "أبو بلال" إنها "رسالة للتأكيد على استراتيجية وحدة الساحات، وهي رسائل بالنار للاحتلال في ظل تهديداته الأخيرة، وأن المناورات تضمنت مهام تعرّضية تُحاكي مهام مستقبلية وُضعت خططها والتدريب على تنفيذها من قبل مقاتلينا، والعمل على تعزيز دور كافة الأسلحة والصنوف عبر غرفة قيادة وسيطرة تدير مجريات العمليات القتالية على الأرض، لدعم المناورة البرية والبحرية، لترسم ملامح المعركة القادمة من كل الساحات والجبهات".
وأضاف: "حاكت المناورة مهاجمة 3 مواقع عسكرية إسرائيلية في الضفة الغربية، وهي موقع شاكيد التابع لكتيبة حرمش المناطقية الإسرائيلية غرب مدينة جنين، وموقع حورش يارون التابع لكتيبة تلمونيم غرب رام الله، وموقع ترقوميا في لواء يهودا غرب الخليل"، بحسب تصريحات لـ "الجزيرة نت".
وبين أبو بلال أن هذه المواقع تقع في نطاق صلاحيات فرقة الضفة 877 في المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي.
وتابع: "كما حاكت وحدة مشاة بحرية خاصة من المقاومة -وبإسناد من محور المقاومة- إغارة على قاعدة "عتليت" البحرية الإسرائيلية عبر الوسائط السطحية والمقدرات تحت السطحية، وعبر إسناد مدفعي وصاروخي مُكثف".