أفكَار

طوفان الأقصى.. نظرات الواقع والمسار للقضية الفلسطينية.. رأي من المغرب

من أبرز العورات التي كشفها طوفان الأقصى إرباك مسلسل التطبيع الذي تورط في كثير من الحكام العرب والمسلمين.. الأناضول
 
                                                   د. عبد الصمد الرضى

قبل 07 أكتوبر ـ تشرين الأول 2023 م الموافق لـ 22 ربيع الأول 1445 بأيام قليلة، وفي مشهد غطرسة واستكبار بيِّنَين، " ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي (الكيان الغاصب) بنيامين نتنياهو كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، تمحورت حول آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودوره في تغيير الشرق الأوسط، وشملت الخريطة التي أظهرها "نتن ياهو" مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل أو تخوض  مفاوضات لإبرام اتفاقات سلام مع إسرائيل، وضمت المناطق المكسية باللون الأخضر دول مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، ولم تشمل الخريطة أي ذكر لوجود دولة فلسطينية، حيث طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة إسرائيل، على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما فيها قطاع غزة. حسبما نشره موقع "بي بي سي عربي" بتاريخ 23 سبتمبر 2023م.

وصرّح سموتيريتش في باريس الأحد 17أيلول/ سبتمبر 2023م خلال إحياء ذكرى وفاة الناشط الفرنسي الإسرائيلي المقرّب من اليمين الإسرائيلي جاك كوبفر "لا يوجد فلسطينيون لأنه لا يوجد شعب فلسطيني". و كان قد أثار ضجة وإدانة دولية إثر تصريح له ب"محو" بلدة حوارة الفلسطينية".

أدانت حركة "حماس" ذلك بشدة، وطالبت المجتمع الدولي وبالأخص فرنسا، التي أطلق منها تصريحاته العنصرية، اتخاذ موقفٍ حازمٍ وصارم ضد الاحتلال، وضد هذا المجرم والذي سبق أن دعا لمسح بلدة حوارة الفلسطينية من الأرض، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لوقف الاحتلال ولملاحقة زمرة المجرمين من قادة الاحتلال أمام المحاكم الدولية، ولدعم حق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير كحق طبيعي وقانوني، ودعت الدول العربية التي طبّعت علاقاتها السياسية مع الاحتلال إلى قطع تلك العلاقات انتصاراً لحق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير، وحفاظاً على التاريخ والقواسم المشتركة التي تربط الشعوب العربية بالشعب الفلسطيني وبالقدس وبالمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى.

هذا وإرهاصات أخرى لتصفية القضية الفلسطينية بتآمر رسمي من عدد من الدول العربية والإسلامية، لم يكن يتوقع السرطان الصهيوني في المنطقة أن عُدَّة "وإنه لجهاد نصر أو استشهاد" يُعَد لها مع الاستناد إلى شعب حر أبي عزيز جهَّز نفسه لنداء ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).

فكان طوفان الأقصى الذي هزت العالمَ قُوته وإتقانه، وأيقظت الغافلين دقتُه وشمُوخه، بل وأعاد إلى زعماء الكيان الصهيوني والمتتبعين له ما بات يعرف بـ "لعنة العقد الثامن" وتجدد التساؤل الاستشرافي: "هل أصبح الزوال مصيرا حتميا للاحتلال؟ "

فضحت حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها التحالف الصهيو ـ أمريكي في غزة؛ دولة الكيان الصهيوني، وكشفت حجم الأكاذيب التي يضلل بها العالم منذ عدة عقود، بعد أن تابع العالم تفاصيل هذه الحرب الهمجية الوحشية على مدار الساعة، بالألوان الطبيعية على الهواء مباشرة
بعد هذا التوصيف، ومرور ما يفوق 320 يوما، (أي لا يفصلنا استكمال سنة) على الاعتداء الوحشي على العزل والمستضعفين من الرجال والنساء والأطفال. وبعد المشاهد الوحشية والكوارث الإنسانية، يطرح على المتتبعين والملاحظين والمهتمين عدة تساؤلات ذات أبعاد متعددة:

ـ سؤال استجلاء لسنة الله في التدافع من خلال الوعي القرآني.
ـ سؤال كشف للغطاء عن حقيقة هذا الكيان المجرم وروحه العنصرية الاستعلائية المقيتة.
ـ سؤال تداعيات طوفان الأقصى على مسلسل التآمر التطبيعي مع بعض الدول العربية والإسلامية.
ـ سؤال ارتفاع الوعي الإنساني إزاء القضية الفلسطينية والتضامن العالمي مع المجاهدين في غزة وفلسطين.
ـ وأسئلة أخرى ذات أهمية قصوى في الموضوع.

أولا ـ استجلاء سنة الله في التدافع من خلال الوعي القرآني

تقتضي سنة الله أن يتدافع الحق والباطل في مسار التاريخ البشري ابتلاء للنَّاس أفرادا وجماعات وأُمَماً (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)،  فمعاني الآيات القرآنية تتجدد على الدوام  الأحداث التي يبتلي بها الله عباده تمحيصا لما في القلوب ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140).

إنها سنة جارية في التاريخ، كما قرر المولى عز وجل ذلك في سورة البقرة حين قال: ﴿وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]. وفي قوله تعالى في سورة الحج: ﴿وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].

والمؤمن ينظر إلى ما يجري الله في الكون من تدافعات جليلة عظمت أو صغيرة يسيرة من وجهين:

الأول ـ التسليم بقضائه سبحانه في مبادئ الأمور وخواتيمها التي لن تكون إلا نصرا للمؤمنين على من عاداهم، كما وقع في غزوة الأحزاب لما احتشدت حشود الأعداء هجوما ظنوه مستأصلا للمؤمنين المجاهدين فلم يزدهم ذلك إلا يقينا في أن الفاعل الحق هو الله سبحانه وتعالى:( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) الأحزاب ـ 22.

الثاني ـ الاعتناء بالأسباب المستجلبة للنصر على العدو تحليلا لواقع مسارات تاريخ الأمة الإسلامية الموعودة بالنصر والتمكين في الأرض، واستشرافا للآفاق الرسالية التي تنتظرها إزاء الناس جميعا.   ولعل ما وقع في غزة وفلسطين مقدمات هامة  لتحولات تاريخية كبرى في مسار البشرية ومستقبلها، بل بمثابة الإعلان الأول للتحول الكبير في مسار الأمة.

ومن أهم الأسباب الحاسمة في المعركة هو طبيعة المتصدين للمعركة وما معهم من زاد تربوي إيماني.

ولقد تواترت الأخبار أن المنضوين تحت لواء كتائب الشهيد عز الدين القسّام، الجناح العسكريّ لحركة حماس، يجعلون من حفظ القرآن الكريم متقنا، والانضباط بقيام الليل والحرص على التقرب إلى الله تعالى بالنفل بعد الفرض من أهم  محفّزات الترقية في الرتب العسكرية ومعاييرها الأساسية، مبدأهم في ذلك "بئس حامل القرآن أنا إن أُتِيَ المسلمون من قِبلي" منهجا لجهادهم، ومعلوم أن أرقى كتيبة هي "كتيبة الحفّاظ" ذات الجهوزية العالية في النزال.

يظهر هذا العمق التربوي الإيماني من خلال مشاهد أمهات الشهداء وزوجاتهم إذ تفيض عباراتهم بالروح القرآنية التي تبيع النفس والمال والولد من أجل نيل رضى الله تعالى "خذ من دمائنا وأبنائنا وأنفسنا حتى ترضى"  "كلنا فدا الأقصى"...

وإطلالة أولية على افتتاحيات أبي عبيدة وفي خطاباته وقيادات حركة "حماس" تنضح بالوعي القرآني الأصيل العميق، وتنبئ عن نوعية التربية التي تلقاها المقاومون الأحرار، وتكشف عن اليقين الذي يسكن أفئدة هؤلاء الشباب أن مصير الظلم والطغيان إلى زوال  واندحار مهما طغا وتجبر بما يشاء سبحانه ويريد، إذ وعد الله تعالى، ووعده حق: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171– 173] وأخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه:”لَا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وهُمْ كَذَلِكَ”. قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: “بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ”. رواه الطبراني.

يبرز هذا اليقين ثابتا شامخا في صمود المقاومة يوما بعد يوم، ولدى النساء والولدان قبل الرجال، وفي الرسوخ المندمج للنسيج المجتمعي أما الآلة التخريبية الصهيونية، بيان ساطعٌ على سلامة القلب الذي تعلم اليقين، وتربى على اليقين، وثبت على اليقين.

ثانيا ـ كشف الغطاء عن حقيقة هذا الكيان المجرم وروحه العنصرية الاستعلائية المقيتة

من الحقائق الثابتة في القرآن الكريم أن الله تعالى ابتلى بني إسرائيل في مراحل متعددة في تاريخهم، ومن عليهم بالنصر والتمكين، ليتحلموا المسؤولية في هداية الناس ودعوتهم لدين الحق، وهو ابتلاء عظيم وشرف كبير لإمامة الناس، لكنهم أخطأوا الموعد مع الله سبحانه ومع التاريخ، فبدل أن يكونوا عبادا لله طائعين حملة لواء العدل والحق بين الناس، اختاروا  التلبس  بالغطرسة العنصرية و التجبر على الناس، وارتكاب جرائم في حق الإنسانية، دون أن ننسى من تداركته رحمة الإسلام فاعتنق دين الحق، أو على الأقل لم يكن جبارا في الأرض قال جل وعلا: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ (33) إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) الدخان.

ولقد سعى هذا الكيان لمدة ما يزيد عن سبعين سنة لتلميع صورته لدى الأمم خاصة في الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتزاع الوعد المشؤوم وعد بلفور لينغرس في جسم الأمة العربية الإسلامية، واعتماد المظلومية التي تعرضوا لها منذ عام 1933 عندما استولى الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر على السلطة في ألمانيا، سميت هذه الفترة بالهولوكوست انتهت هذه الحقبة في مايو 1945، وذلك عندما هزمت دول الحلفاء الدولة الألمانية.

اعتمدت الحركة الصهيونية فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وقام بالترويج لها زعماء هذه الحركة  مثل إسرائيل زانجويل وثيودور هيرتزل، تسببت في أعظم الكوارث الإنسانية التي حدثت في القرن العشرين ألا وهو ترحيل الفلسطينيين. يقصد بهذا الشعار أن هناك (أرض بلا شعب) فلسطين   يجب أن تعطى إلى (شعب بلا أرض) وهم اليهود. ولقد بذلت جهودا إعلامية جبارة من أجل تلميع صورة الكيان الغاصب، بل والتحكم عن طريق اللوبيات النافذة في الغرب.

بيد أن طوفان الأقصى كشف الغطاء وأزال اللثام عن هذه  المكيدة وما تبعها من مآسي إنسانية، فلقد "فضحت حرب الإبادة الجماعية التي يقوم بها التحالف الصهيو ـ أمريكي في غزة؛ دولة الكيان الصهيوني، وكشفت حجم الأكاذيب التي يضلل بها العالم منذ عدة عقود، بعد أن تابع العالم تفاصيل هذه الحرب الهمجية الوحشية على مدار الساعة، بالألوان الطبيعية على الهواء مباشرة" (تحقيق نشر في موقع الجزيرة نت بتاريخ 16 ماي 2024م).

كشف الغطاء عن الخبث الصهيوني وعدائه للإنسانية بما ارتكبته آلته في غزة، فتح الباب واسعا للتعاطف الشعبي العالمي مع القضية الفلسطينية وهو مكسب تاريخي غير مسبوق، ولقد سجلت منابر إعلامية عالمية هذه الحقيقة في أكثر من تحقيق، كما جاء في موقع "عربي TRT" الذي رصد هذا التعاطف الدولي: "نضجت على مدار شهور الحرب بيئة تفاعُل عالمية تتصدر فيها المبادرات وتتناسخ المضامين، إذ تواصلت الفعاليات الجماهيرية منذ اندلاع حرب الإبادة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأخذت تتشارك خبرات التظاهر واللافتات المرفوعة وهتافات الميدان، حتى صارت تتميّز بوحدة المواقف والخطابات والمطالب والشعارات والرموز إلى حد كبير. لا عجب بالتالي أن يلتقط طلبة العالم مبادرة أقرانهم في جامعات النخبة الأمريكية فباشرت تجمّعات الطلبة في عشرات الجامعات العريقة في قارات عدّة محاكاة مخيم الاعتصام في فضاءاتهم الجامعية أينما كانت" نشر ذلك بتاريخ 24 ماي 2024 م.

إن هذه الوضعية التي انزلق إليها الكيان الغاصب تضرب بعمق تلك الصورة العنجهية التي برز بها نتن ياهو وهو يصف شرق أوسط جديد من دون فلسطين على خارطة سطرها من خلال خُرافاتِه المَبنية على عقيدة الاستعلاء على الناس، فهم “شعب الله المختار”، وليس عليهم في الأميين سبيل، فهم مجرد خدمٍ وعبيد، وأرضهم هي  إسرائيل الكبرى".

تلك هزَّةٌ قويةٌ زعزعت أركان البناء الصهيوني، فأتته من قواعده، وصار المشروع الذي كان يراد له قيادة البشرية  إلى الرفاه والمدنية و.. دليلا واضحا على همجية منقطعة النظير لما اتصفت به من عنف قاسٍ، وبطش مقيتٍ، واستئساد على النساء والرجال والولدان العزل الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) وما الله يريد ظلما للعباد، وإنها سنة الله الماضية في العالمين.

ولعل من أبرز العورات التي كشفها طوفان الأقصى إرباك مسلسل التطبيع الذي تورط في كثير من الحكام العرب والمسلمين.

ثالثا ـ تداعيات طوفان الأقصى على مسلسل التآمر التطبيعي مع بعض الدول العربية والإسلامية

لقد اعتقد الكيان الصهيوني الغاصب أن الفرصة مواتية لتركيع الشعوب العربية والإسلامية من بوابة التطبيع الذي تبنت آليات تنفيذه وتمويله دول متآمرة ذات الإمكانات المالية الهائلة، وظن أن الجو قد خلا له و لا من يجرؤ على منعه من بغيته التوسعية، فقد تمكن من سَوْقِ أغلبَ حكومات العرب إلى حظيرة ”التطبيع” لتُسلَخ واحدة تِلْو الأخرى على مسْلخة خبرات الـمكر والخداع، وبيع أوهام الرقي والرَّفاه والغِنى  للسفهاء من ذوي النفوذ في البلاد العربية والإسلامية.

وبالمقابل شدد حصَاره على المرابطين الصادقين في غزة، مما جعلهم لا يعولون كثيرا على المطبعين، بل بأيديهم وعدتهم وعزيمتهم قرروا وضع حد لهذا الظلم والاستعباد، وتلقين الغاصب المعتدي درسا تاريخيا ذا أبعاد استشرافية إحيائية لهذه الأمة ولإنسانية جميعا من غطرسة ثلة من المستكبرين ممن يعتقدون أنفسهم أفضل البشر " شعب الله المختار.

كانت النتيجة الأولية لطوفان الأقصى أن ضرب المسلسل التطبيعي الإذلالي في صميم بنائه، فتعالت أصوات الشعوب والحركات ذات الوعي العدلي لوقف هذا المسلسل القاصد إلى نخر دول والسطو على مقدرات المطبيعن الذين يعتقدون أن التطبيع جنات وارفة ، وأعادت إلى الواجهة أنه خطر ماحق، ف:" منذ تصاعد وتيرة القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، توقف قطار التطبيع بين المغرب وإسرائيل، وتوقفت الزيارات المتوالية التي كان يقوم بها وزراء إسرائيليون إلى الرباط، واعتبر حقوقيان مغربيان، أن التطبيع "سقط شعبيا، وبقي أن يسقط رسميا"، بالنظر إلى تواصل المطالب بذلك، بمختلف المظاهرات المستمرة الداعمة لغزة في البلاد، حسبما نشر موقع وكالة الأناضول للأنباء بتاريخ 07.11.2023.

فعملية "طوفان الأقصى" كانت ضربة موجعة لاستراتيجية التطبيع مع العدوّ الصهيوني، وأن التطبيع مع "إسرائيل" قد سقط تمامًا بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حسبما صرح رئيس المرصد المغربي لمناهضة التطبيع الدكتور أحمد ويحمان، معتبرا أن  "ما حدث في غزّة يجعل أي محاولة لتطبيع العلاقات غير ممكنة لأن المقاومة الفلسطينية أثبتت قدرتها على مواجهة أقوى كيان في المنطقة رغم الظروف الصعبة"، وأشار إلى أن طوفان الأقصى مكّن المقاومة من استعادة مفاتيح القضية الفلسطينية، وأن مقاومة الشعب الفلسطيني أصبحت جزءًا من كلّ جسد فلسطيني، وليس من السهل القضاء عليها).
 عن موقع العهد الإخباري
https://www.alahednews.com.lb/article.php?id=73442&cid=125  )  

ولعل تداعيات طوفان الأقصى ستبقى ممتدة في المستقبل وتسهم بشكل كبير في ارتفاع مشتوى الوعي  العالمي بالقضية الفلسطينية وهذا مكسب استراتيجي هام 

رابعا ـ ارتفاع الوعي الإنساني إزاء القضية الفلسطينية والتضامن العالمي مع المقاومين في غزة وفلسطين

نعم أيقظ طوفان الأقصى الوعي الإنساني إزاء القضية الفلسطينية، خاصة  في صفوف النخب المجتمعية من طلبة وأساتذة وأخصيائيين، بل ومن كافة المهتمين بالشأن الإنساني عامة.

فلقد تقدمت حكومة جنوب أفريقيا بدعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية، الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، للحكم على تصرفات إسرائيل في غزة بأنها إبادة جماعية، وإصدار أمر يجبرها على سحب قواتها.

وبعد ذلك طلب المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية كريم خان من القضاة في 20 مايو البت بشكل عاجل في أوامر اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، وشدد في الوقت ذاته على أنه يحق للمحكمة مقاضاة المواطنين الإسرائيليين.

سبق هذا المستوى من المتابعة القضائية الدولية تضامنات واسعة في صورة احتجاجات واعتصامات على مدى واسع من عواصم العالم وجامعاته وتظاهراته الفنية والرياضية.

فعلى المستوى الطلابي توسعت التعبئة الطالبية داخل جامعات في عدد من الدول تضامنا مع قطاع غزة، وشملت جمهورية أيرلندا وكندا وألمانيا وفرنسا وأستراليا وسويسرا والمكسيك، وشهد عدد من جامعات تلك الدول اعتصامات وتحركات تطالب بوقف العدوان على القطاع المحاصر.

وعلى المستوى الرياضي أعلن رياضيون متألقون ونجوم بارزون في الرياضة، وفي كرة القدم خصوصا من أغلبية جنسيات دول العالم تعاطفهم ودعمهم لقطاع غزة الذي يتعرض لقصف إسرائيلي همجي مكثف، وهذا يشكل وعي الجماهير الرياضية حالا ومآلا. زهز مكسب استراتيجي هام في وعي الشعوب، لا يدرك الكيان الغاصب في هاوية مستقبلية سيضعه.

وعلى المستوى الإعلامي العام: امتلأت صفحات الموقع الإلكترونية والقنوات الإعلامية وغيرها من أشكال التضامن المعبر عن عمق الوعي بالقضية، وإنه لإقامة للحجة على العالم والأجيال القادمة. 

خامسا ـ مآل المشروع الصهيوني على ضوء المعطيات الحالية

بعد هذه التوصيفات السابقة ما مآل المشروع الصهيوني؟ وما مصيره؟

نستشف الجواب من آراء وتحليلات الكيان نفسه.

فلقد صرح المجرم قائلا: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة" (عن: الاستدعاء الإسرائيلي لخطاب الانهيار والزوال: أسبابه ودلالاته | مركز الجزيرة للدراسات.).

هذه الوضعية التي انزلق إليها الكيان الغاصب تضرب بعمق تلك الصورة العنجهية التي برز بها نتن ياهو وهو يصف شرق أوسط جديد من دون فلسطين على خارطة سطرها من خلال خُرافاتِه المَبنية على عقيدة الاستعلاء على الناس، فهم “شعب الله المختار”، وليس عليهم في الأميين سبيل، فهم مجرد خدمٍ وعبيد، وأرضهم هي إسرائيل الكبرى".
وفي السابع من مايو/أيار عام 2022، أفصح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "إيهود باراك" في مقال بصحيفة "يديعوت أحرونوت" عن مخاوفه من الزوال المُرتقب لدولة الاحتلال، مُعللا مخاوفه بما سمّاه "سُنَّة التاريخ اليهودي"، التي تقول إن كل الدول اليهودية لم تُعمِّر أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين؛ فترة الملك داوود، وفترة الحشمونائيم وفق الروايات اليهودية، وفي كلتيهما بدأ تفكُّكها في العقد الثامن".

وفي حوار مع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، صرح المؤرخ الإسرائيلي "بيني موريس" عام 2019  أنه لا مستقبل لبقاء  إسرائيل بوصفها دولة يهودية، معتبرا أن التفوق الديمُغرافي للعرب أمر حتمي، خاصة مع ممارسات الاحتلال التي تسلب العرب حقوقهم، مضيفا أن حكم إسرائيل "لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين في العالم الحديث. وما إن تصبح لهم حقوق فلن تبقى الدولة يهودية".

عن مقال: كيف ستهزم إسرائيل نفسها؟ نبوءات النهاية كما يرويها الإسرائيليون نقلا عن: ( האזהרה של גנץ: "מדינה יהודית – בין גדרה לחדרה" | ישראל היום الاستدعاء الإسرائيلي لخطاب الانهيار والزوال: أسبابه ودلالاته | مركز الجزيرة للدراسات.)

وصرح مؤسس حركة حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله أنه يتوقع زوال دولة إسرائيل في 2027، وذلك من خلال استشفافه لتاريخ الأجيال في القرآن الكريم، إذ يرى أن الله كتب على بني إسرائيل التيه 40 عاماً،  فالجيل الأول كان جيل الهزيمة عام 1948، ثم الجيل الثاني هو جيل الاستعداد، ويأتي الجيل الثالث إن شاء الله هو جيل التحرير ونصر واستعادة فلسطين حريتها، بل وتحرير البشرية من ربقة الاستكبار والاستعباد.

وختاما

نحن المسلمين، ننظر لما يقع في العالم من خلال القواعد القرآنية النبوية التي توجه سلوكنا وحركتنا في التايخ، فنرجو التذكير بعدة أمور كالتالي:

1 ـ فلا هزيمة عند المسلم الصَّادق أبدا:

فمن مقتضيات الإيمان الصادق اعتبار الحياة الدنيا معبرا للآخرة، وأن أعمار العباد بيد الله تعالى، وفي هذا مبعث على الطمأنينة في شخصية المؤمن والمؤمنة،  ولقد رأيناها في الشَّعب المقاوم بكل تكويناته، رجالا ونساء وأطفالا، وهذا جَلِي في تصريحاتهم؛ كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، ومعلوم أن من مات من المؤمنين في سبيل الله يستبشِر.

2 ـ ليس في حياة المؤمنين نكوصٌ وتراجع 

بل سير متسارع للبشرى وحسن الخاتمة، بشرى لقاء الله تعالى والفوز برضاه، تلك هي التجارة الرابحة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ  وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) هكذا في سورة الصف.

الأمةُ الإسلامية أمة رحمة وشهادة على النَّاس بشرط كينونتها على النهج القويم، ووراثتها للرسول الرؤوف الرَّحيم، فلقد  وعد  الحق سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام،  ووعدُه حق ،أن يظهر دين الإسلام على غيره ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) كما جاء في سورة الفتح .

وعليه، فمرمى بصر المؤمنين وبصيرتهم، ومبتغى همتهم وبعد نظرهم ينصب على أفواج القادمين إلى دين الله ليجدوا المأوى الحاضن والقلب الرحيم والوجه الصبيح يفرح بهدايات الناس، يقول عبد السَّلام ياسين رحمه الله تعالى:” أن يبتغي الجيل اللاحق العلم والإيمان عند أكابر الجيل قبله، هذه وصية رسول الله  تسلسلَ بها النقل كما تسلسل بالابتغاء والبحث والمحاسبة والصحبة والاقتباس.

يفلح من صحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحبه، ومن صحب من صحب، ومن أحب من أحب. ومن رأى، ومن رأى من رأى. والخير في الأمة إلى يوم القيامة. روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فيه فِئامٌ (جماعة) من الناس، فيقولون: هل فيكم مَنْ صاحَب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتَح لهم. ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فِئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فِئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم" تنوير المؤمنات ج2 ص24

(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) الإسراء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*أستاذ  التعليم العالي،  وعضو مجلس ارشاد جماعة العدل والإحسان