إن الدعم الألماني الثابت وغير المشروط لإسرائيل، وخاصة خلال
حرب إبادتها الجماعية في غزة، يشكل مثالا واضحا على المعايير المزدوجة التي تتخلل
سياستها الخارجية ونهجها في التعامل مع
حرية التعبير. فعلى مدى عقود من الزمان،
وقفت ألمانيا بثبات إلى جانب
إسرائيل، فلم تقدم لها الدعم الدبلوماسي فحسب، بل
وأيضا المساعدات العسكرية الكبيرة، حتى في الوقت الذي تواجه فيه إسرائيل اتهامات
خطيرة بارتكاب أعمال تصنفها محكمة العدل الدولية والمجتمع الدولي بالإبادة
الجماعية في غزة. فرغم هذه المجازر والجرائم ضد الإنسانية فإن دعم ألمانيا لا يزال
ثابتا لا يلين. وهذا يثير تساؤلات مهمة حول الطبيعة الحقيقية لالتزام ألمانيا
بحقوق الإنسان، وخاصة عندما يبدو أن مثل هذه المبادئ تُطبق بشكل انتقائي.
في الحقيقة، تزداد القضية تعقيدا عند فحص السياسات
المحلية الألمانية، وخاصة حظرها الصارم للمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. والواقع أن
التبرير الرسمي لهذا الحظر، الذي يستشهد بالمخاوف بشأن معاداة السامية المحتملة
والسلامة العامة، يبدو أجوف وواهيا، حيث أن هذه الحجج تخدم كذرائع لإسكات الأصوات
المعارضة التي تتحدى السرد الذي تدعمه ألمانيا على الساحة الدولية.
إن قمع حرية التعبير ليس مجرد تجاوز بيروقراطي؛ بل إنه
يمثل انتهاكا أساسيا للحقوق التي تدعي ألمانيا أنها تدعمها، كما أن التنفيذ
الانتقائي لهذه الحقوق، استنادا إلى الحساسيات السياسية المحيطة بإسرائيل، يكشف عن
تناقض مقلق في كيفية تفسير ألمانيا وتطبيق معاييرها القانونية والأخلاقية الخاصة
بها.
أشعل الحظر المفروض على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين عاصفة من الجدل، سواء داخل ألمانيا أو خارجها. وأشار الناشطون والمدافعون عن حقوق الإنسان إلى أن الحركات السياسية الأخرى، حتى تلك التي لها تاريخ في الترويج لخطاب الكراهية، لم تواجه قيودا مماثلة
أشعل الحظر المفروض على المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين
عاصفة من الجدل، سواء داخل ألمانيا أو خارجها. وأشار الناشطون والمدافعون عن حقوق
الإنسان إلى أن الحركات السياسية الأخرى، حتى تلك التي لها تاريخ في الترويج لخطاب
الكراهية، لم تواجه قيودا مماثلة. يشير هذا التناقض إلى أن نهج ألمانيا لحرية
التعبير ليس مبدئيا وثابتا كما تدعي، بدلا من ذلك، يبدو أنه يتشكل من خلال
الاعتبارات السياسية التي تعطي الأولوية لتحالفات معينة على التطبيق الشامل لحقوق
الإنسان. هذا
القمع الانتقائي يفعل أكثر من خنق المعارضة؛ إن ألمانيا تعمل بنشاط
على منع السردية
الفلسطينية المسالمة من اكتساب موطئ قدم في الخطاب العام، وبذلك
تقوض ألمانيا مبادئ حرية التعبير والنقاش الديمقراطي التي تدعي الدفاع عنها.
ويصبح الموقف أكثر إزعاجا عندما نفكر في تصرفات وزيرة
التعليم والبحث الألمانية، السيدة بيتينا ستارك واتزينجر، وهي شخصية بارزة في
الحزب الديمقراطي الحر، حيث تورطت ستارك واتزينجر في جدال كبير بعد محاولتها منع
الدعم المالي والبحثي للأكاديميين الذين عبروا عن تضامنهم مع الطلاب المدافعين عن
حقوق الفلسطينيين. اندلع الجدل على الملأ عندما وقع ما يقرب من 200 أستاذ ومحاضر رسالة
احتجاجية على تصرفات بعض عمداء الجامعات في برلين. قام هؤلاء العمداء، بالتعاون مع
الشرطة، بتفكيك معسكرات الاحتجاج -بالقوة في بعض الأحيان- في مؤسسات بارزة مثل
جامعة برلين الحرة. لم تكن رسالة الأكاديميين، التي أكدت على الحق في التجمع
السلمي للطلاب، بالضرورة تأييدا مباشرا للقضية الفلسطينية، بل دفاعا عن المبادئ
الديمقراطية الأساسية. إن موقفهم يسلط الضوء على التوترات المتزايدة في ألمانيا
بشأن الحرية الأكاديمية والتعبير السياسي، والنفوذ المتزايد والقامع للحريات من
قبل الحكومة.
وقد تصاعد الموقف أكثر عندما تم تسريب رسائل إلكترونية
داخلية من وزارة التعليم والبحث الألمانية إلى وسائل الإعلام. وقد حصلت مجلة
بانوراما التلفزيونية الشهيرة على هذه الرسائل الإلكترونية، وكشفت عن مدى تورط
الحكومة في محاولة قمع المعارضة الأكاديمية. وقد أدى هذا الكشف إلى تكثيف
المناقشة، مما أدى إلى دعوات واسعة النطاق لاستقالة ستارك واتزينجر. ويؤكد رد
الفعل العام على الانقسامات العميقة داخل ألمانيا حول كيفية حماية حرية التعبير
والاستقلال الأكاديمي، وخاصة عندما تتعارض هذه الحريات مع أجندة السياسة الخارجية
للحكومة.
قمع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين وقمع المعارضة الأكاديمية يسلط الضوء على نهج انتقائي لحقوق الإنسان وحرية التعبير، مما يقوض أسس المجتمع الديمقراطي. إن هذا التطبيق الانتقائي للحقوق لا يخنق الخطاب المشروع فحسب، بل يكشف أيضا عن تناقض عميق في الموقف الأخلاقي لألمانيا، حيث تعطي الأولوية للتحالفات السياسية
وإضافة إلى الجدل السابق، أصدرت ألمانيا تحذيرا عجيبا
لكل من المواطنين الألمان والمهاجرين، مهددا بعواقب وخيمة -بما في ذلك السجن-
لأولئك الذين يعرضون أي شكل من أشكال الدعم المعنوي لشعب غزة. وقد تعرض هذا الموقف
القاسي لانتقادات واسعة النطاق باعتباره تجاوزا لسلطة الحكومة وتهديدا مثيرا للقلق
للحريات المدنية. وقد أدت هذه التحركات غير المسؤولة للحكومة الألمانية إلى تعميق
الشعور بالقلق بين العديد من الألمان، الذين يخشون أن تكون حكومتهم على استعداد
متزايد للتضحية بالحريات الأساسية لصالح كيان يرتكب مجازر جماعية بحق أطفال أبرياء
في غزة بشكل يومي.
ختاما، إن تحركات ألمانيا، سواء على المستوى المحلي أو
في دعمها الثابت لإسرائيل أثناء حربها المستمرة على غزة، تكشف عن تآكل للمبادئ
التي تدعي أنها تدافع عنها. إن قمع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين وقمع المعارضة
الأكاديمية يسلط الضوء على نهج انتقائي لحقوق الإنسان وحرية التعبير، مما يقوض أسس
المجتمع الديمقراطي. إن هذا التطبيق الانتقائي للحقوق لا يخنق الخطاب المشروع
فحسب، بل يكشف أيضا عن تناقض عميق في الموقف الأخلاقي لألمانيا، حيث تعطي الأولوية
للتحالفات السياسية على التطبيق الشامل للعدالة والكرامة الإنسانية.
إن السخط المتزايد بين الجمهور الألماني، والذي أشعلته
التدابير الاستبدادية المتزايدة التي اتخذتها الحكومة، يعتبر بمثابة تذكير بأن قمع
المعارضة باسم المصلحة السياسية والدعم لكيان لا يعرف سوى الإجرام؛ هو مسار خطير
يهدد القيم الأساسية للديمقراطية ويهين شعورنا الإنساني.