في الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي،
أطلق الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، عدداً من التصريحات المتعلّقة بتطبيع العلاقة
مع نظام الأسد في
سوريا، مشيراً إلى أنّه لا يوجد ما يمنع من إقامة
علاقات بين
أنقرة ودمشق، ومذكّراً بانعقاد لقاءات عائلية مع الأسد سابقاً قبل الثورة السورية.
وفي هذا السياق، لفت الرئيس التركي إلى أنّه لا يستبعد تجدد مثل هذه اللقاءات في
المستقبل وأنّ
تركيا لا تريد التدخّل في الشأن الداخلي السوري.
وقبل أيام، أعلن الرئيس التركي أنه قد يدعو
نظيره السوري بشار الأسد إلى تركيا في أي وقت، وقال أردوغان للصحفيين وهو على متن
طائرة قادمة من برلين، سنوجه دعوتنا للأسد، مشيراً الى أنّ بلاده تريد إعادة
العلاقات التركية ـ السورية إلى نفس المستوى الذي كانت عليه في الماضي، أي قبل
الثورة السورية. وألحق الرئيس التركي هذه التصريحات بأخرى جديدة قال فيها إنّه
أصدر تعليمات لوزير خارجيته هاكان فيدان للقاء مع نظام الأسد لبحث العلاقات
المقطوعة بين الدولتين. ونقلت وكالة الأناضول خبراً مفاده أنّ الرئيس التركي وجّه
دعوة لبشار الأسد لزيارة تركيا أو لبحث لقاء ثنائي في دولة ثالثة.
وقد أثارت هذه التصريحات زوبعة من التعليقات
والتحليلات حول الخلفية والأهداف والتوقيت. ومع أنّه لا يوجد مؤشرات بارزة حول
دوافع الجانب التركي لإطلاق مثل هذه التصريحات في مثل هذا الوقت، فإنّ عدداً من
التقارير كانت قد تحدّثت عن تجدّد وساطة روسية وأخرى عراقية للجمع بين الطرفين
وردم الفجوة القائمة بينهما، تجنّباً لإمكانية حدوث تصعيد مؤخراً. وبغض النظر عمّا
يجري خلف الكواليس فيما يتعلق بمثل هذه الجهود، فإنّ السؤال الأساسي يتعلّق بمدى
إمكانية حصول مثل هذا التطبيع وبأي ثمن وتحت أي شروط أو مسمّيات.
من الناحية النظرية، فإنّ التطبيع ممكن إذا
ما أخذنا بعين الاعتبار التحوّلات الإقليمية والدولية التي سمحت للأسد ليس فقط
بالبقاء وإنما بتطبيع وجوده علاوةً على الوضوع التركي الداخلي شديد الحساسية
والتعقيد بخصوص موضوعين أساسيّين هما اللاجئون السوريون والاقتصاد. لكن من الناحية العملية، فإنّ التطبيع يحتاج إلى أرضية مشتركة فضلاً عن تحقّق بعض المطالب التي لا يمكن تجاوزها.
لا شك أنّ الوضع الاقتصادي الصعب في تركيا
والسيئ جداً في مناطق نظام الأسد قد يمهّد الطريق لأرضية مشتركة في الملف
الاقتصادي بشكل يسمح للطرفين بالاستفادة من خطوات محدودة لتحسين وضعهما
الاقتصادي والمالي. لكنّ الاقتصاد ليس العنصر الأساسي في المشكلة القائمة بين
تركيا والنظام السروي منذ أكثر من عقد من الزمن، وهناك عدّةّ مشاكل أو ملفّات
أساسية يقتضي الحديث عن أي تطبيع حلّها.
لاشك أنّ الوضع الاقتصادي الصعب في تركيا والسيء جداً في مناطق نظام الأسد قد يمهّد الطريق لأرضية مشتركة في الملف الاقتصادي بشكل يسمح للطرفين من الاستفادة من خطوات محدودة لتحسين وضعهما الاقتصادي والمالي. لكنّ الاقتصاد ليس العنصر الأساسي في المشكلة القائمة بين تركيا والنظام السروي منذ أكثر من عقد من الزمن، وهناك عدّةّ مشاكل أو ملفّات أساسية يقتضي الحديث عن أي تطبيع حلّها.
من هذه المشاكل، مشكلة حماية الحدود
الجنوبية لتركيا من الجماعات الإرهابية التي تتّخذ من شمال سوريا منطلقاً لأعمالها
كحزب العمال الكردستاني، وإيقاف جهود إنشاء دولية لهذه الجماعات على حدود تركيا.
لو افترضنا جدلاً أنّ النظام السوري تعهدّ بحل هذا الموضوع في أي تفاهم قادم،
فإنّه لا يمتلك ما يكفي من قوات عسكرية لنشرها. وفضلاً عن ذلك، فإنّ القوات
الأمريكية لا تزال موجودة. هناك من يفترض أنّ التفاهم هو تمهيد لانسحاب أمريكي
محتمل عقب فوز ممكن لترامب في الانتخابات الأمريكية القادمة، لكن مثل هذا الانسحاب
لا يحل مشكلة عدم وجود قوات كافية لدى نظام الأسد، ومن المستبعد أن تقوم روسيا
بهذا الدور، على الأقل خلال فترة انخراطها في الحرب مع أوكرانيا.
المشكلة الأخرى التي لا تقل أهمّية عن
الأولى هي مشكلة اللاجئين. خلال السنوات القليلة الماضية، تحوّل موضوع اللاجئين
السوريين في تركيا إلى مادة دسمة للجدل، والى ورقة سياسية لتهشيم الحكومة والإطاحة
بها، ثم انتقل العبث بهذا الموضوع إلى المستوى الاجتماعي حيث بدأ يفرز سموماً تؤثر
على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني.
الحديث عن تطبيع محتمل يتطلب
حل مشكلة اللاجئين. نظام الأسد لن يقبل بإعادة اللاجئين وإعطاء ضمانات لهم، لكن
إذا ما إفترضنا جدلاً أنّه فعل ذلك، فكيف سيتم إعادة أكثر من 6 ملايين لاجئ سوري؟ وأين
هي البنية التحتيّة القادرة على استيعابهم؟ ومن سيقدم لهم الخدمات من ماء وكهرباء
وطعام؟ ومن أي سيأتي النظام السوري بالمال اللازم لذلك؟
مثل هذا التساؤل يفترض وجود تفاهم دولي
يؤمّن المال اللازم لاسيما من الأوروبيين لبناء البنية التحتية المطلوبة لاستيعاب
اللاجئين مقابل تنازلات أو ضمانات يقدمها نظام الأسد. حتى هذه اللحظة، لا شيء في
الأفق يوحي -ولو من الناحية الشكلية- بوجود مثل هذا التفاهم. وفي غياب معادلة
المال والبنية التحتية والخدمات، فإنّ الحديث عن حل لمشكلة اللاجئين يبدو غير
ممكن، هذا إذا ما افترضنا أنّهم قرروا العودة طوعاً وبدون ضمانات دولية بعدم تعرّض
نظام الأسد لهم.
وهناك مشكلة وجود النظام السياسي نفسه، وعدم
رغبته في التعديل أو الإصلاح، وغياب توافق دولي على خلعه أو التطبيع معه، ما يشل
الوضع ويمنع حقيقةً من حل كل المشاكل الأخرى. لذلك، فالحديث عن تطبيع بدون التفكير
بهذه المشاكل يعني أنه لن يكون هناك تطبيع حقيقي في نهاية المطاف. ولو افترضنا
جدلاً أنّ ظروفاً قاهرة دفعت الطرفين إلى التطبيع، فإنّ السؤال حول مدى قدرة مثل
هذا التطبيع على حل المشاكل التي أثرناها أعلاه تبقى قائمة في ظل الظروف الإقليمية
والدولية القائمة.