منذ العام 2012، ومع إعلان الرئيس المصري الراحل محمد مرسي عن مشروع تنموي عملاق بمنطقة "قناة السويس" جرى الحديث عن مخاوف إماراتية من تأثير ذلك المشروع على مستقبل ميناء "جبل علي" في دبي، فيما رأى مراقبون أن دعم أبوظبي للانقلاب العسكري بمصر منتصف 2013، كان بهدف وقف هذا المشروع.
وأثار إعلان
الإمارات والهند عن اتفاق يقضي بتدشين ممر تجاري "جسر بحري" لربط الهند والشرق الأوسط مع أوروبا؛ المخاوف على مستقبل "قناة السويس" باعتبار الممر التجاري الجديد وما يتبعه من "
جسر بري"، بين الإمارات وإسرائيل، هو البديل التجاري الأقل تكلفة والأقصر زمنيا من الممر المائي المصري.
"المسار البديل"
والثلاثاء الماضي، وفي القمة العالمية للحكومات بدبي، جرى الإعلان عن الاتفاق، الذي يهدف وفقا للإعلام العبري إلى تحويل طريق التجارة من الهند إلى الإمارات ثم
السعودية والأردن، بدلا من المرور بالبحر الأحمر ومن ثم قناة السويس.
وكانت أبوظبي، وتل أبيب، قد وقعتا اتفاقا لتشغيل جسر بري، بين ميناءي دبي وحيفا، مرورا بالأراضي السعودية والأردنية، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وذلك بعد نحو شهرين من الحرب الإسرائيلية على قطاع
غزة التي تفجرت 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
ويأتي ذلك الاتفاق وفق مراقبين، كخطوة إماراتية لإنقاذ إسرائيل خلال الحرب، وبحسب صحف عبرية ومسؤولين إسرائيليين يسعى للالتفاف على تهديدات الحوثيين للسفن الإسرائيلية بباب المندب التي تأتي دعما للمقاومة الفلسطينية ولدفع الغرب للضغط على إسرائيل لوقف الحرب على غزة.
وكشف أن شركة "TRUCKNET" الإسرائيلية وشركة "Puretrans FZCO" الإماراتية، هما المنوطتان بتنفيذ الشق الثاني من رحلة البضائع من الهند، حيث تقومان بنقل البضائع عبر جسر بري يمتد من ميناء "جبل علي" في دبي إلى ميناء "حيفا"، بفلسطين المحتلة، مرورا بالأراضي السعودية والأردنية.
لكن يبدو أن استمرار هجمات الحوثيين من اليمن على السفن الإسرائيلية المارة في مضيق باب المندب عجل بتنفيذ الاتفاق، الذي يجري تنفيذه فعليا على الأرض، وفق ما كشفته وزيرة المواصلات الإسرائيلية ميري ريغف.
"فرحة إسرائيلية"
وعبر مقطع فيديو من ميناء "موندرا"، أكدت ريغف، أن هذه البضائع والشحنات تخرج من الميناء الأكبر في الهند، وجميعها متجهة إلى الإمارات، وستمر منها عن طريق البر عبر شاحنات أو قطار عن طريق السعودية ثم الأردن لتصل عبر المعبر الأردني إلى دولة
الاحتلال.
ولفتت إلى مدى أهمية الاتفاق لإسرائيل بمساعدة الإمارات في الالتفاف على هجمات جماعة الحوثي على تجارتها عبر البحر الأحمر، ملمحة إلى أن الحرب ضد غزة فرضت عليهم تحدي كيفية توريد البضائع لإسرائيل.
وأكدت أن هذا المسار بديل عن البحر الأحمر بعد هجمات الحوثيين على السفن التي تصل إسرائيل، في إشارة إلى ابتعاد نسبة كبيرة من التجارة الدولية بين الشرق والغرب عن ممر قناة السويس.
ووفق تقارير عبرية، فإن مسار التجارة الذي اعتمده الاتفاق قديم وتجري فيه الشاحنات بين دول الخليج والأردن، ويبدأ من ميناء "جبل علي"، ليمر بالعاصمة السعودية الرياض، ثم العاصمة الأردنية عمان، قاطعة مسافة 2550 كيلومترا في 4 أيام فقط.
ونقلت "معاريف" العبرية، عن رئيس شركة TRUCKNET هنان فريدمان، قوله إن مسار الجسر البري يوفر 80 بالمئة من تكلفة نقل البضائع عبر الطريق البحري، ما يمثل انتعاشا للاقتصاد الإسرائيلي وإعادة ضخ السلع وقطع الغيار لتشغيل مصانعها.
وتتكبد إسرائيل خسائر كبيرة جراء حرب الإبادة الدموية التي تشنها على 2.3 مليون فلسطيني في غزة قتلت منهم نحو 35 ألفا طوال 5 أشهر، وتتراوح الخسائر وفقا للإعلام العبري بين 100 و125 مليار دولار، فيما وصلت خسائر بعض القطاعات إلى 80 بالمئة وخاصة السياحة.
"ممر بايدن"
ويأتي الاتفاق الإماراتي الهندي، والإماراتي الإسرائيلي على غرار "ممر بايدن" الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن، في أيلول/ سبتمبر الماضي، ليبدأ مساره من نيودلهي، ليعبر بحر العرب إلى الإمارات، ويمر بالسعودية، قبل أن يصل إلى الأردن، وإسرائيل، ومنها إلى أوروبا.
ووقعت حينها، أمريكا، والهند، والسعودية، والإمارات، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والاتحاد الأوروبي، -على هامش قمة العشرين في نيودلهي- مذكرة تفاهم لإنشاء "ممر بايدن"، الذي يشمل سككا حديدية، وربط موانئ، ومد خطوط وأنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين، وكابلات نقل البيانات.
ويعتبر مراقبون المشروع منافسا لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية التي تقوم على إحياء طريق الحرير القديم، وأكدوا أنه يمثل خطرا على قناة السويس المصرية، لكن في المقابل لاقى الاتفاق، احتفاء كبيرا من رئيس وزراء الكيان المحتل بنيامين نتنياهو.
وتعبر قناة السويس يوميا 70 سفينة شحن تقريبا، كما يمر عبر البحر الأحمر حوالي 15 بالمئة من حجم التجارة العالمية المنقولة بحرا، ونحو 8 بالمئة من تجارة الحبوب العالمية، و12 بالمئة من تجارة النفط المنقولة بحرا، و8 بالمئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال في العالم.
"أرقام مفزعة.. وتهوين حكومي"
وفي الوقت الذي تواصل فيه التقارير الدولية الصادرة عن منظمات دولية ومواقع صحفية غربية رصد خطورة أزمة البحر الأحمر وتأثيرها على التجارة العالمية وعلى قناة السويس، تقلل الحكومة المصرية من تداعيات الوضع المتفاقم.
وفي 12 شباط/ فبراير الجاري، أكد موقع "فاينانشيال إكسبرس" انخفاض حجم الحاويات المنقولة عبر البحر الأحمر بأكثر من النصف في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، و70 بالمئة أقل من المتوقع في شباط/ فبراير الجاري.
ووفق ما أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، انخفض حجم التجارة عبر قناة السويس بنسبة 45 بالمئة خلال تشرين الثاني/ نوفمبر، وكانون الأول/ ديسمبر الماضيين.
وتحولت نحو 60 بالمئة من السفن المارة بقناة السويس إلى طريق رأس الرجاء الصالح، حسب المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة.
وبحسب تقرير "بورت ووتش" لصندوق النقد الدولي، تراجع إجمالي البضائع التي عبرت قناة السويس بالأيام الستة الأولى من شباط/ فبراير الجاري، لتسجل نحو 12.8 مليون طن، ما يمثل انخفاضا بنسبة 33 بالمئة على أساس شهري.
وأعلن رئيس هيئة قناة السويس أسامة ربيع تراجع إيرادات قناة السويس 47 بالمئة على أساس سنوي في كانون الثاني/ يناير الماضي، مسجلة 428 مليون دولار، مع تراجع أعداد السفن المارة بالقناة بنسبة 37 بالمئة إلى 1400 سفينة خلال الشهر.
إلا أنه ومع تلك الأرقام المفزعة على مستقبل القناة، إلا أن وزير المالية المصري محمد معيط، قال بالقمة العالمية للحكومات في دبي 12 شباط/ فبراير الجاري، إنه يمكن استيعاب جزء من التأثير على إيرادات قناة السويس، بسبب النمو السابق الجيد لها قبل الأحداث، وفق تعبيره.
ويبدو أن معيط لم يأخذ في الحسبان أن نسبة تراجع حركة المرور بقناة السويس مرشحة للزيادة بشكل مضطرد مع التنفيذ الفعلي الذي تم لمشروع الجسر البحري الهندي الإماراتي، والجسر البري الإماراتي السعودي الأردني الإسرائيلي، وأنهما يمثلان تهديدا وجوديا لقناة السويس.
"تبعات خطيرة"
وفي تعليقه، قال الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية الدكتور ممدوح المنير، إن "مشروع الجسر البحري بين الهند والإمارات، والجسر البري بين الإمارات والسعودية والأردن والكيان المحتل، دعا إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن، منذ 3 سنوات تقريبا".
وأوضح في حديثه لـ"عربي21"، أنه كان بهدف "منافسة مشروع الصين الخاص بـ(طريق الحرير)، والذي تمضي فيه الصين قدما منذ 10 سنوات، مع نحو 152 دولة منخرطة بشكل أو آخر فيه، بحسب تقرير للبنك الدولي".
ويرى أنه "وبالتالي فإن الإمارات وباقي الدول العربية المشاركة هي تابعة للموقف الأمريكي، وهدفها منه إظهار الدعم الاقتصادي والسياسي للكيان المحتل، ولكن المؤسف والمخجل أن تداعيات هذا الطريق لا تعني فقط دعم الكيان بحربه ضد الفلسطينيين، ولكن آثاره الإستراتيجية تعني باختصار تصفية قضية فلسطين".
وأضاف، أنه "لكي ينجح المشروع بشكل فعّال فلا بد من تطبيع سياسي واقتصادي بين السعودية وإسرائيل، وهو ما يمثل خنجرا في ظهر القضية الفلسطينية، ولكي ينجح كذلك مشروع بهذا الحجم فتجب الإشارة إلى أن نهاية المشروع في إسرائيل إمّا داخل قطاع غزة أو المنطقة المتاخمة لها".
وتابع: "وبالتالي لا يمكن نجاح المشروع في بيئة حرب، وبالتالي فإسرائيل معنية بالتخلص من صداع غزة نهائيا عبر تصفية المقاومة، وتهجير السكان لسيناء عاجلا أم آجلا حتى توفر بيئة مستقرة لمشروع ضخم كهذا".
وفي تقديره لحجم خطورة تنفيذ هذا الممر على وضع قناة السويس المصرية حاليا، وعلى مستقبلها، قال المنير: "بكل تأكيد مصر ستتأثر من هكذا مشروع بنقص الملاحة بقناة السويس لنحو 15 بالمئة، وهي نسبة كبيرة في ظل أوضاع اقتصادية متردية، وخاصة مع استمرار أزمة تراجع قيمة الجنيه أمام الدولار".
ويرى أن "التأثير الأكبر سيكون سياسيا، وليس اقتصاديا، لأن قدرات الطريق البري للمشروع داخل الدول العربية لا يمكن أن تتحمل نسبة 1 بالمئة من حجم التدفقات البحرية عبر قناة السويس".
وأكد أن "مشكلة المشروع أنه سيهمش دور مصر، ويلقي عليها عبء التعامل مع ملف اللاجئين الفلسطينيين، ويمركز قيادة الوطن العربي في الرياض وأبوظبي، بدلا عن القاهرة".
وفي توقعاته لرد فعل الدولة المصرية تجاه هذا المشروع، والبدائل المتاحة أمام مصر لإنقاذ قناة السويس، يعتقد الخبير المصري، أن "نظام القاهرة لا يملك الكثير ليفعله في ظل حالة التخبط السياسي الحالي".
وختم بالقول: "السيسي، لا يستطيع الوقوف أمام دول تضمن بقاءه بالسلطة، وهي أمريكا والسعودية والإمارات، وهو ما يجعل المقاومة الفلسطينية ومعركتها الحالية ليست حربا على تعقيدات الحاضر، ولكنها كذلك تحدد مسار المستقبل للقضية بعد أن تخلى عنها الأقربون".
"تفوق للتجارة البحرية"
من جانبه، قال الخبير الدولي في إدارة الصناعات البحرية، الدكتور إبراهيم فهمي، لـ"عربي21"، إن "الجغرافيا والجيوبوليتيكس لعبا دورا محوريا عبر التاريخ بجلوس خطوط التجارة البحرية على عرش التجارة الإقليمية والعالمية بلا منازع".
وأوضح البروفيسور المقيم في لندن، أنها "تمثل نحو 80 بالمئة من حجم التجارة العابرة حول العالم، وتتفوق على خطوط التجارة البرية التي لا تمثل بديلا فعالا ومؤثرا للطرق البحرية لأسباب فنية ولوجستية واقتصادية، وليس لها إلا أن تقوم فقط بـ(الدور المكمل) لخطوط النقل البحرية لربط وتوصيل سلاسل الإمدادات".
وأضاف: "الخطوط البحرية تمثل بدائل عملية لبعضها البعض ولا تعوضها الخطوط البرية، ولك أن تتخيل عملية تفريغ سفينة حاويات عملاقة بها 25000 حاوية في ميناء ثم نقل هذا العدد الهائل بريا لميناء آخر، ثم شحنه بسفينة حاويات عملاقة أخرى، توفير الوقت والجهد والكلفة تستدعي حلين فقط حال توقف المجرى الملاحي الأساسي سواء لأسباب متعلقة بالأمن البحري أو الكوارث الطبيعية".
"فإما صناعة ممر بحري جديد مثل حفر الممرات المائية الصناعية كقناة السويس أو استخدام ممر بحري آخر موجود مثل الدوران حول رأس الرجاء الصالح لتجنب تفريغ حمولات السفن العملاقة ونقلها بريا، ثم شحنها من جديد لسفينة ثانية بميناء على الجانب الآخر".
وأشار إلى أنه "يبقى الاستثناء الوحيد هنا هو استخدام النقل البري بين طريقين بحريين لبضائع معينة مثل بناء خطوط أنابيب طويلة لنقل البترول أو نقل الحاويات التي تحوي منتجات معينة مطلوبة على وجه السرعة باستخدام الشاحنات أو القطارات بين ميناءين، فيما يقوم الشحن الجوي بدور فعال رغم كلفته الهائلة ولكن في ظروف محددة، فهو الأنسب والأسرع وقت الأزمات والكوارث الإنسانية والحروب".
"ضحية الخسائر"
وقال الخبير الدولي: "وبالحديث عن الشرق الأوسط وتحديدا قناة السويس وعدوان إسرائيل الغاشم على شعب فلسطين والإبادة الجماعية وتدمير غزة، فإن أمريكا قامت بدور فعال باستخدام نفوذها على دول الإقليم لدعم واستمرار آلة الحرب على أهالي غزة عبر تأمين سلاسل الإمداد بعدة طرق لإسرائيل، في مقابل مساعدة إسرائيل بمنع وصول المساعدات الإنسانية".
ولفت إلى أنه "من تتابع الأحداث خلال المائة يوم الأخيرة نجح الجسر البري جنبا إلى جنب مع الجسر الجوي رغم كلفتهما العالية، بالإضافة لاستخدام طريق رأس الرجاء الصالح على نطاق واسع، في كسر العزلة النسبية التي فرضها الحوثيون على إسرائيل".
ويرى أن "هذا الأمر هو الذي جعل مصر في النهاية ضحية الخسائر المباشرة لنحو نصف عدد السفن والحمولات التي تمر عبر قناة السويس، مما يمثل تهديدا للأمن القومي المصري، ونزيفا مستمرا لنحو نصف مليار دولار شهريا من دخل قناة السويس مقارنة بنفس الفترة الزمنية على أساس سنوي".
واستدرك قائلا: "لكن هذا الأمر استثنائي وغير مستدام بالتجارة العالمية ولا يُبنى عليه، ولكن الخطير هنا أن السياسات الأمريكية السابقة بالشرق الأوسط أخرجت قناة السويس من الخدمة 8 سنوات متصلة (1967- 1975) حتى تتمكن من إخراج الاتحاد السوفيتي (روسيا حاليا) من المنطقة بعد أن أخرجت الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية وأعادت تشكيل المنطقة باستحداث دول لها حدود لم تكن موجودة".